يوسف عبد العزيز -
أثار كتاب (شرطة الأدباء) الصّادر في باريس، والذي أعدّه (برونو فوليني) المسؤول عن منشورات البرلمان الفرنسي عاصفةً من الاستنكار والدّهشة في الأوساط الثّقافيّة الفرنسيّة، وذلك بسبب ما جاء في هذا الكتاب من معلومات خطيرة، تتعلّق بالدّور التّجسّسي الذي قامت به الشرطة الفرنسية على مجموعة من أهمّ مبدعي فرنسا في الفترة الواقعة بين أواخر القرن التّاسع عشر وبدايات القرن العشرين. لقد كانت تلك الشرطة كما يذكر الكتاب ترصد من خلال التّقارير التي تعدّها، التّفاصيل الدّقيقة في حياة كلّ من فيكتور هوجو ورامبو وفيرلين وأندريه بريتون وكوليت وآخرين. لقد كانت ترصدهم كما ترصد المجرمين واللصوص. فقد كان يتمّ التّطرّق إلى الجلسات الخاصّة لهؤلاء الأدباء وإلى طبيعة الأحاديث التي تدور في هذه الجلسات ونوعيّة الطّعام الذي يتناولونه.
إنّ مصدر السّخرية في الوسط الثّقافي الفرنسي، ولدى المثقّفين في العالم ربّما كان متأتّياً من وجود مثل هذه التّصرّفات المشينة مع الأدباء في ذروة الانفجار الإبداعي والفنّي الذي كانت تشهده فرنسا في ذلك الوقت. فكيف كانت تسير إذن وجنباً إلى جنب مظاهر الاحتفاء بالأدب والكتابة مع تلك المظاهر البوليسيّة البائسة إزاء النّخبة المبدعة الفرنسيّة في العصر الحديث؟ لم يكن أولئك الكتّاب حفنةً من الخونة والمأجورين الذين يُعرّضون بلادهم للخطر حتى يتمّ تسقّط أخبارهم، ومتابعتهم بهذه الطّريقة. ما العبرة إذن وراء هذه الأفعال التي تتناقض مع أبسط الحقوق الإنسانيّة، وفي الوقت نفسه لم تكن لتفيد فرنسا بشيء؟!
الإجابة عن هذا السّؤال يمكن أن تكون ضروريّة، ليس من ناحية ما تقدّمه على صعيد حلّ الإشكال الفرنسي، ولكن من ناحية اتّصالها بجوهر الكتابة وتمظهراتها في البنى الاجتماعية السياسية في أيّ بلد من بلدان العالم، وبالتّالي مقدار اتّفاقها أو اختلافها مع الفضاء الاجتماعي السياسي السّائد.
يخضع نظام الدّولة عادةً لمجموعة من الأطر والمفاهيم المستقرّة الواضحة، التي تضبط إيقاع المجتمع، وتنظّم حركته بناءً على قوانين محدّدة. وأيّاً كان نظام الدّولة فلن يكون في النهاية إلاّ محصّلة لعدد من السّلطات التي تأمر وتنهى وتحذّر وتُعاقب. بالنّسبة للإبداع والكتابة على وجه التّحديد فهما ضدّ كلّ ذلك الاستقرار والوضوح اللذين يميّزان نظام الدولة، كما أنّهما ضدّ كلّ أنواع السّلطات القائمة. إنّهما مشروع الحريّة الوحيد الذي ليس له سقف أو حدود. المشروع المفتوح على الاحتمالات، والذي لا نهاية له لأنّه سلسلة متّصلة من البدايات. الإبداع أيضاً يترعرع في أرض الشّكّ ولذلك نراه يوجّه سهامه للمسلّمات ويهزّ أعمدة اليقين. أمام هذه الاختلافات الكبيرة القائمة بين كلّ من نظام الدولة ( أيّ نظام كان) والإبداع، فلا بدّ أن ينشأ بينهما في نهاية الأمر الصِّدام والتّعارض. هنا يحاول كلّ طرف من هذين الطّرفين كبح جماح الطّرف الآخر وإزالته من الطّريق. وعلى الرّغم من أنّ الوسائل التي يستخدمها نظام الدّولة قد تكون أكثر قسوة وإيلاماً مقابل الوسائل التي يستخدمها الإبداع والقائمة على الحبّ، فإنّ الإبداع هو الذي ينتصر في النّهاية. إنّها حروب من طراز آخر، حيث الرّقّة في نهاية الأمر تُروّض الوحش الإنساني المدجّج بالمخالب والأنياب.
نرجع إلى السّؤال السّابق فنرى أنّ المحاولات المذكورة المبذولة من قِبَل الدّولة الفرنسية للتجسّس على المبدعين والسّيطرة عليهم قد جاءت في واقع الأمر في السّياق الكولونيالي الذي مرّت به فرنسا بشكل خاص وأوروبا بشكل عام. فقد عاشت فرنسا ما بين عاميّ 1870 و 1940 وهي الفترة التي يرصدها كتاب فوليني في ذروة نشاطها الاستعماري، وأشعلت عدداً كبيراً من الحروب داخل وخارج أوروبا. وكلّنا يذكر حملة نابليون الشهيرة على مصر في هذه الفترة، وحرب الإبادة التي كانت تشنّها فرنسا على الشّعب الجزائري، هذا بالإضافة إلى دخولها الحربين العالميّتين الأولى والثّانية. في ما يتعلّق بالإبداع الفرنسي من شعر ورواية وفنّ تشكيلي في هذا الوقت وهو الذي وصل إلى درجة عالية من التّطوّر والازدهار، فليس بالضّرورة أنه كان منسجماً مع المظهر الاستعماري العام لفرنسا. على العكس من ذلك فقد وقف هذا الإبداع في جزء كبير منه منتصراً لحقّ الشّعوب المضطهَدة في الحريّة. ذلك أنّ الإبداع يحمل في أعماقه باستمرار هذا الهاجس، لأنّه عالميّ التّوجّه، كما أنّه يصدر عن انتماء إنساني شامل. من هنا كان يبدو أنّ تضييق الخناق على الإبداع وتعزيز الرّقابة على المبدعين الفرنسيين كان يهدف إلى إشاعة نوع من التّماسك على صعيد تمتين الحالة الاستعمارية. لقد كان هذا العمل بمثابة حرب أخرى ولكنّها هذه المرّة كانت موجّهة إلى الدّاخل الفرنسي.
في هذا السّياق لا بدّ لنا من أن نتذكّر حادثة مصرع المناضل والمثقّف المغربي (المهدي بن بركة) الذي تمّت تصفيته في السّتينات من القرن العشرين، والذي أثيرت قضيّته من جديد في السّنوات القليلة الماضية عبر الدّعوى التي رفعها ابنه. فقد ثبت تورّط الشرطة السّرية الفرنسيّة في مسألة اختطاف هذا المناضل، ومن ثمّ تعذيبه في إحدى ضواحي باريس، وقتله، وأخيراً تذويب جسده بالأسيد ليتحوّل بكليّته إلى لا شيء! فقط مجرّد فكرة كان اسمها ( المهدي بن بركة )!!
جزء كبير من المثقّفين العرب والمثقّفين في العالم الثالث تنطلي عليهم هذه الأكذوبة التي اسمها ديمقراطيّة الغرب. وبناء على هذه النّظرة المغلوطة فقد شهدت العقود الماضية ما يشبه النّزوح الجماعي من قِبَل هؤلاء المثقّفين باتّجاه العواصم الأوروبية وخاصّةً باريس. وبالقليل من المعاينة والتّدقيق في هذه المسألة وكما تتكشّف عنه الوقائع فإنّنا نلمس وجود ديمقراطية مقنّعة في الغرب تتلاقى مع الديمقراطيّات الفقيرة في دول العالم الثالث، ولو أنّ هذه الدّيمقراطية الغربية تتوارى تحت قناع شفّاف ومبهرَج، ولكنّه قناع على أيّ حال.
Yousef_7aifa@yahoo.com