عندما يحدد الاقتصاد مصير الشعوب

د. عبدالعاطي محمد -

كاتب مصري -

غالباً ما يرتبط نجاح السياسيين بقدرتهم على إحراز تقدم ملموس في الاقتصاد, والعكس صحيح. وكثير ما تتراجع الانتقادات الموجهة للسياسيين, برغم وجاهتها وأهميتها, أمام قدرة مجتمعاتهم على تخطي أزماتها الاقتصادية, حيث تشفع لهم أخطاؤهم السياسية, بينما تتواصل الانتقادات إلى حد الإطاحة بهم إذا استمر التدهور الاقتصادي, حتى لو لم تكن هناك شائبة في رؤاهم ومواقفهم السياسية, لأن الكارثة الاقتصادية غالبا ما تكون أكثر عمقا وأسرع تأثيرا في المجتمع من المحاولات السياسية الجادة للخروج منها.

ومع نهاية العام الثالث لاحتجاجات ما يسمى بالربيع العربي تبدو هذه الملاحظة حقيقية إلى حد كبير, فما لا يختلف حوله اثنان هو أن بلدان هذه الاحتجاجات وتحديدا مصر وتونس وليبيا وسوريا تعيش حالة من التدهور الاقتصادي غير مسبوقة أدى تعميقها واستمرارها واندفاعها دون قدرة على كبح جماحها إلى إفشال نظمها الحاكمة الجديدة في خطط الطريق التي طرحتها للعبور من المرحلة الانتقالية. وبرغم وجاهة رؤية القوى السياسية التي تصدرت المشهد وركزت على أن الفشل السياسي في إدارة المرحلة الانتقالية هو السبب الرئيس في هذا التدهور الاقتصادي المفزع, إلا أن ما لا يمكن إنكاره هو أن الاحتجاجات أو الثورات من الطبيعي والمنطقي معاً تقود إلى تدهور اقتصادي ليس فقط بالنظر إلى تعاظم التطلعات الجماهيرية في الحصول على مكاسب مادية لا سقف لها, وإنما أيضا بالنظر إلى التغيير الحاد في قوى الإنتاج والأوضاع الطبقية واهتزاز مؤسسات الدولة وغياب القانون. وما بالنا إذا أخذنا في الاعتبار أن هذه الدول ذاتها كانت تمر بظروف عسيرة في التقدم الاقتصادي قبل وقوع هذه الثورات, مما يعني أن التطورات الجديدة زادت من حدة أزمات قديمة.

لقد قدمت لنا دراسة وضعها خبراء في الاقتصاد بدبي مع أحد البنوك الدولية الكبيرة صورة شديدة السواد للواقع الاقتصادي والمستقبل القريب أيضا لهذه البلدان نتيجة لثورات الربيع العربي الذي تبدلت النظرة إلى مائة وثمانين درجة ليطلق عليه الخريف وليس الربيع بسبب الإحباط الذي لاحقه. قالت الدراسة: إن دول الشرق الأوسط ستفقد بنهاية عام 2014 – بسبب الانتفاضات – 800 مليار دولار من الناتج القومي نتيجة عدم الاستقرار الناجم عن هذه الانتفاضات. وفي دول مثل مصر وتونس وليبيا وسوريا والأردن ولبنان والبحرين سيكون الناتج المحلي الإجمالي أقل بنسبة 35% مما كان سيسجله في عام 2011 لو لم تحدث تلك الانتفاضات, وأشارت إلى أن معدل نمو الناتج المحلي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو 4% عام 2013, يرتفع إلى 4.2% عام 2014 مقارنة بـ4.5 و4.9% عام 2012. وأما مصر فمعدل النمو فيها هو 2.2% فقط عام 2013 و3.5% عام 2014. وفي كثير من هذه الدول وصل حجم الدين الداخلي إلى مستويات مفزعة حيث يصل في مصر إلى ما يفوق التريليون جنيه وبما يمثل نحو 80% من الناتج القومي!, كما تفاقم حجم الدين الخارجي.

والمؤشرات السابقة تعني أن الوضع الاقتصادي العام لهذه البلدان يتراجع مستواه بنحو الثلث عما كان عليه قبل الانتفاضات, علما أن الوضع القديم نفسه لم يكن مرضياً، وأن هذه الدول تسابق الزمن لتحسينه!, كما تعني أن معدلات النمو تتساوى تقريباً مع معدلات النمو السكاني إن لم تكن أقل في البعض منها, بما يعني ببساطة أنها مهددة بألا توفر مقومات الحياة البسيطة لسكانها, وليس أن تحرز تقدما اقتصاديا يقربها من بقية العالم المتحضر.

ولتوضيح التأثير السياسي للأوضاع الاقتصادية السيئة في هذه البلدان, يتعين الإقرار بداية بأن المعالجة السياسية للموقف تلعب دوراً مؤثراً في تحسين هذه الأوضاع أو تعميقها سوءاً, كما أن علاقة التأثير متبادلة بين المجالين السياسي والاقتصادي, ولكن هذا الافتراض لا غبار عليه في حالة الدول المستقرة التي تخوض مرحلة للإصلاح السياسي لا التي تمر بحالة ثورة؛ لأن الدول المستقرة تمتلك أدوات لضبط التحولات السياسية والاقتصادية وتخضع للقانون بينما هذا، وغيره لا يتوافر في حالة عدم الاستقرار, والاقتصاد في أية دولة من دول العالم لا يحيا إلا في دولة مستقرة لأنه جبان بطبعه!. وفي حالتنا هذه تتجاوز الضغوط والأزمات قدرة أي نظام سياسي قائم مهما توافرت له مقومات الشرعية, دستورية كانت أم ثورية, وسرعة اندفاعها التلقائي أكبر بكثير من سرعة المبادرات السياسية للحل؛ لأنها تتحرك كالطوفان.

وبناء على ما سبق فإن المستقبل السياسي لهذه الدول من زاوية تأثير الأزمات الاقتصادية المصاحبة لثورات الربيع العربي, ينحصر بين مجموعتين من التوقعات كل منهما يتضمن بعض السيناريوهات. المجموعة الأولى يمكن وصفها بالتوقعات السيئة وتشمل إما إطالة أمد فترة عدم الاستقرار, أو وقوع ما يوصف بثورات الجياع, أو قيام أنظمة حكم فاشية شديدة الديكتاتورية. والمجموعة الثانية يمكن وصفها بالتوقعات الطيبة, وتشمل قيام دول وطنية ثورية, أو دول وطنية إصلاحية تعمل بتوجهات انتقالية منضبطة.

فأما عن سيناريو إطالة أمد عدم الاستقرار فهو تصور سياسي يقوم على الحفاظ على المظاهر الشكلية للدولة من مؤسسات خصوصاً أجهزة الأمن والقضاء والخدمات الأساسية, وعدم الوصول إلى حالة التفكك القومي (التقسيم للمجتمع والأرض) والتفكك السياسي (تفتيت الدولة إلى دويلات), ومن الناحية الاقتصادية يلعب الاقتصاد الموازي أي الاقتصاد الذي يدار خارج الأطر المشروعة الدور الرئيس في تلبية حاجات المجتمع, مثل هذا السيناريو يجسد حالة الفوضى من حيث المضمون وليس من حيث الشكل, فمظاهر الدولة الشكلية قائمة ولكنها معطلة من حيث الفاعلية, والمجتمع يبدو ظاهرياً كما هو محافظ على صورته القديمة بينما من حيث الواقع مفتت وأبناؤه يتصارعون يومياً في الشارع بل داخل الأسرة الواحدة. وبنظرة سريعة على المشهد العام في بلدان التغيير يتضح أنها تعيش مثل هذه الحالة من عدم الاستقرار, بغض النظر عن محاولاتها المتواصلة لاستعادة الاستقرار. وبما أن النهايات مرتبطة بمقدماتها, وحيث لا تتغير المقدمات أو الأسباب, فإن النهايات أو الوضع الراهن لا يتغيران والعكس صحيح.

وعندما تتواصل مرحلة عدم الاستقرار، وتبقى الأسباب كما هي إلا من متغير جديد يتمثل في عجز السلطات القائمة عن الوفاء بالحد الأدنى للاحتياجات الأساسية للمواطنين خصوصاً بالنسبة للطبقات الفقيرة, يقع ما يعرف بثورة الجياع, وهي بمثابة انفجار اجتماعي يشنه الفقراء ضد الأغنياء.

وبالنظر إلى التآكل المستمر لشريحة الطبقة الوسطى في اتجاه انتقالها إلى الطبقة الفقيرة يتسع حجم الأخيرة ومن ثم تزداد قدرتها على التحرك الجماعي المؤثر. ويصعب القول: إن مجتمعات دول التغيير أصبحت في وضع ثورة الجياع, وذلك بسبب السياسات التدخلية التي تقوم بها السلطات القائمة لمنع هذا الاحتمال, إلا أنها مسألة وقت أكثر منها قاعدة ثابتة, بمعنى أن ما يجري من تدخلات هو لتأجيل الكارثة في حقيقة الأمر وليس لمنعها في المستقبل.

هنا إطالة أمد الأزمة والاستنزاف المستمر في القدرات الاقتصادية لهذه البلدان يسرعان بوقوع الكارثة, ولذا يظل السيناريو قائما.

في ظل عدم الاستقرار والتهديد بثورة جياع ينبثق السيناريو الثالث من التوقعات السيئة, وهو قيام نظم حكم توصف بأنها فاشية وديكتاتورية, وهي التي تستغل حالة الأزمة الصعبة لدى القطاع الأوسع من الناس للالتفاف خلف قيادة سياسية متعصبة للشعور الوطني الضيق والمعادية لأي نوع من المعارضة أو النقد والمساءلة بدعوى حماية الوطن والمواطن, وغالباً ما تتعصب أيضاً لصالح فئة أو جماعة أو مذهب معين ضد آخرين. مثل هذا السيناريو يكون جاهزا في الأوقات العصيبة من حياة المجتمعات التي تتعرض لأزمات حادة نتيجة تدخل خارجي أو فشل داخلي. وعندما تصل الأوضاع في بلدان الربيع العربي إلى الحرب الأهلية وانسداد كل قنوات الحوار بحثاً عن حلول سياسية ووصول الوضع الاقتصادي إلى مشارف ثورة الجياع إن لم يكن معايشتها فعلاً, فإن الجماهير التي كانت قد وقفت إلى جانب الثورات تكفر بها وتستدعى قيادات سياسية فاشية وديكتاتورية ترى فيها الإنقاذ, وكأنها بذلك تنتقل من النقيض إلى النقيض. ومع أن سيناريو كهذا لم يظهر في الأفق بعد ثلاث سنوات من اندلاع ثورات الربيع العربي, إلا أن المعارك السياسية الضارية التي تشهدها بلدانه حول مطلب الحرية السياسية وإقامة أنظمة سياسية جديدة تحققه يدلل على أن القلق من هذا السيناريو حقيقي أو أن أسبابه قائمة بالفعل ويجري محاصرتها حتى لا تحوله إلى واقع.

بالتوازي مع كل هذه السيناريوهات السيئة هناك توقعات طيبة. فبرغم التعثر الذي تعيشه هذه البلدان والذي يجعل صورة التوقعات السيئة تطغى على المشهد, يتراوح الجهد الرئيس للأنظمة الجديدة لعبور المرحلة الانتقالية بين العمل على إقامة دولة وطنية ذات توجه ثوري وترفع شعاري الحرية والعدالة, والعمل على إقامة دولة وطنية إصلاحية بتوجهات انتقالية منضبطة, ولأن التصورين متداخلان في المشهد العام يشق على المتابع أن يحدد بدقة خصائص كل منهما, ولكن من الواضح أن كلا منهما يمثل جناحاً مختلفاً عن الآخر في تقسيم القوى السياسية التي تتصدر المشهد.

ومرة أخرى يأتي العامل الاقتصادي عنصراً مميزاً لكل منهما عن الآخر, وربما يكون حاسماً في ترجيح أي منهما. فالداعون إلى الدولة الوطنية الثورية يرون أن الحل الجذري للوضع الاقتصادي البائس الذي ترتب على الثورات إنما يكمن في اتخاذ إجراءات ثورية عميقة على المستويين السياسي والاقتصادي بغض النظر عن الثمن الذي يتعين دفعه. لا يريدون خططا انتقالية بل إحداث التغيير كاملاً ومرة واحدة.

وبالمقابل يرى الجناح الآخر أن التغيير يجب أن يأتي متدرجاً لأن مراحل الانتقال من طبيعتها اتخاذ خطوات توفيقية بين الماضي والحاضر والشعوب ليست أدوات سهلة يجري تشكيلها في لحظة من الزمن بل كائنات إنسانية مركبة المشاعر والأهواء ومواقفها نسبية في كل الأحوال, ويعززون موقفهم بوطأة الأزمة الاقتصادية التي تضع الجميع بين خيارين: إما أن يتم تحقيق بعض المطالب وتأجيل البعض الآخر, وإما لا يتحقق شيء بالمرة, وبناء عليه يتعين الاعتدال في المطالب السياسية الثورية, أو بالأحرى التعامل بلغة الإصلاح وليس الثورة, مع وضع ضمانات تساعد مستقبلاً على تحقيق كل مطالب الثورة. هذا السيناريو الأخير هو الأقرب للتحقق إذا ما قدر للتوقعات الطيبة أن تتفوق على التوقعات السيئة.