بريطانيا وفرنسا.. وإعادة ترتيب البيت من الداخل

مروى محمد إبراهيم -

حالة من الصدمة أصابت غالبية الدول الأوروبية، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا. فقد كانت النتائج بمثابة صفعة قوية للأحزاب الحاكمة في هاتين القوتين الأوروبيتين، وسط مخاوف من أن تكون هذه النتائج الأوروبية مؤشرات على التغيرات المرتقبة في الخريطة السياسية للبلدين. فقد تجاهلت القيادات الفرنسية والبريطانية على مدى الأعوام الأخيرة تذمر المواطنين ورفضهم لإجراءات التقشف، التي أثرت إلى حدٍ كبيرٍ على المستوى المعيشي المرتفع الذي طالما تمتعوا به. وما كان من المواطنين إلا أن لجأوا إلى صناديق الاقتراع لإنزال أقصى عقوبة ممكنة بقياداتهم السياسية.. ألا وهي الإطاحة بهم من فوق عرش البرلمان الأوروبي.

وعلى الرغم من أن البرلمان الأوروبي لا يتمتع بصلاحيات واسعة داخل دول الاتحاد، ومسؤوليته تتجلى في اختيار الرئيس الجديد للمفوضية الأوروبية، أووضع سياسات عامة تستوجب موافقة الدول الأعضاء قبل تنفيذها، إلا أن الواقع يؤكد أن نتائج الانتخابات الأوروبية مؤشر مهم لنتائج الانتخابات في كل دولة أوروبية على حدة.

ولا يمكن أن نتجاهل الزلزال السياسي الذي ضرب بريطانيا، التي تعد واحدة من أكبر وأهم دول الكتلة الأوروبية، لدى صعود حزب الاستقلال البريطاني اليمين المتطرف بزعامة «نايجل فاراج» والذي تستند شعبيته على شعارات معادية للاتحاد الأوروبي ودعواته المتواصلة لانسحاب بريطانيا من الكتلة الأوروبية. وكان فوز حزب الاستقلال بأكثر من 26% من أصوات الناخبين البريطانيين، متفوقاً بذلك على الحزبين الرئيسيين في البلاد: العمال والذي حصد 24.43% والمحافظين الحاكم والذي حصل على 23%، بمثابة مؤشر مخيف على تغير الخارطة السياسية في المملكة المتحدة. فهي المرة الأولى التي تفلت فيها الأغلبية الحزبية البريطانية في البرلمان الأوروبي من قبضة العمال والمحافظين منذ الانتخابات العامة في 1906. فقد شهد هذا التاريخ المرة الأولى التي يصعد فيها الليبراليون للسلطة، حيث تولى زعيمهم هنري كامبل بانرمان رئاسة الوزراء، حيث تفوق على المحافظين آنذاك بزعامة آرثر بالفور وحصد أكثر من نصف مقاعدهم البرلمانية بما في ذلك مقعد بالفور نفسه.

وقد أرجع المؤرخون الهزيمةَ التاريخيةَ التي لحقت بالمحافظين في بداية القرن الماضي إلى الضعف الذي أصاب الحزب بسبب انقسامه حول حول قضية «التجارة الحرة» والتي كانت تقضي بفرض جمارك تفضيلية على بعض البضائع، وهو الأمر الذي أثار غضب البريطانيين آنذاك خوفا من أن يؤثر على أسعار المواد الغذائية، وهو ما أدى في النهاية إلى نجاح الليبراليين في تمرير القانون الاجتماعي الذي عُرف آنذاك باسم «الإصلاح الليبرالي».

وكانت هذه في واقع الأمر المرة الوحيدة التي فاز فيها الليبراليين بالأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة في تاريخ بريطانيا.

أما بالنسبة للحالة الراهنة، فهي المرة الأولى التي يتراجع فيها المحافظون – وهو الحزب الرئيسي في الائتلاف الحاكم مع الحزب الليبرالي الديمقراطي- إلى المركز الثاني بعد حزب العمال. كما أنها المرة الأولى منذ عام 1984 التي يفشل فيها الحزب الرئيسي في المعارضة -وهو العمال في هذه الحالة- في الفوز بأغلبية المقاعد في البرلمان الأوروبي. لقد نجح حزب الاستقلال وبجدارة في قلب جميع الموازين في عالم السياسة البريطانية ليؤكد أنه لا يوجد ما يمكن وصفه بالثبات السياسي، وأن هذا العالم لا يعرف الركود أوالملل.

كما نجح نايجل فراج وحزبه في الإطاحة بالحزب الليبرالي الديمقراطي من على الخارطة السياسية، إلى حدٍ أن المراقبين أعلنوا وفاة زعيمه نيك كليج سياسياً.

وبالطبع لم يتوقف فراج عن الحلم، حيث أكد أنه لن يسمح للمحافظين بالسيطرة على الحكم مرة أخرى وأن حزبه اليميني المتطرف سيتولى مقاليد الأمور في الانتخابات المرتقبة العام المقبل، مؤكداً أنه سيعتزل السياسة بمجرد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

ولكن يبدو أن فراج هو الشخص الواقعي الوحيد في المعارك السياسية البريطانية، فقد استفز إد ميليباند زعيم حزب العمال المواطنين بإعلانه عن اعتزامه تطبيق ضريبة جديدة على الممتلكات أوالثروات، كما أطلق عليها، بالإضافة إلى الضرائب الحالية. وهو بالطبع ما أثار حالة من الذعر بين المواطنين الذين اعتبروا أن ميليباند لا يقدر ما يعانونه من متاعب في الوقت الراهن في ظل إجراءات التقشف والمتاعب الاقتصادية التي تعاني منها البلاد منذ الأزمة المالية العالمية في 2008 وحتى الآن.

ولم يكن المشهد في فرنسا أفضل حالا مما هو عليه في بريطانيا، فقد أصيبت الحكومة بحالة من الاضطراب بمجرد صدور النتائج والتي كشفت عن حصول الحزب اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان على 25% من الأصوات، مقابل 20% لحزب يمين الوسط المعارض بزعامة الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، في حين لم يتجاوز نصيب الحزب الاشتراكي الحاكم من أصوات الناخبين الـ14% في ضربة قاسمة له تكشف عن تدهور شعبية الرئيس الفرنسي فرانسو أولاند.

ولم يجد أولاند بدا من تحميل الاتحاد الأوروبي نفسه مسؤولية هذه الهزيمة النكراء التي لححقت بحزبه، مشيراً إلى أن أداء الحزب اتسم بالغموض. أما لوبان فأكدت أن الشعب الفرنسي يرى أنه يتم «قيادته من الخارج» وهو الأمر الذي يرفضه تماماً ويسعى لتغييره.

بالطبع تعتبر هذه النتيجة الأسوأ بالنسبة لأي حزب فرنسي حاكم منذ بداية انطلاق الانتخابات البرلمانية الأوروبية في 1979. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على رفض الفرنسيين لأداء الرئيس الحالي وحزبه الحاكم، في ظل حالة التراجع وبطء التعافي الاقتصادي الذي تعاني منه البلاد، إلى جانب الارتفاع المطرد في معدلات البطالة. وهو أمر يتحمل الحزب الحاكم مسؤوليته، من وجهة النظر الشعبية، وليس الاتحاد الأوروبي كما يدعي الرئيس الفرنسي.

وتستند شعبية الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة في فرنسا، على فكرة رفض المهاجرين بدعوى انهم يستنفدون موارد الدولة ويستهلكون خدماتها والتي هي من المفترض حق أساسي للمواطنين الذين تنتمي جذورهم لهذه البلد. وعلى الرغم من أن وجهة النظر هذه ربما تحمل رؤية سطحية للأمور، إلا أنه من الصعب إلقاء اللوم على حشود الشعب الفرنسي، ببساطة لأن قيادتهم السياسية فشلت في طرح رؤية أعمق وأفضل لحل الأزمات التي يعيشونها مع إدراك أهمية الاتحاد الأوروبي باعتباره مظلة حماية وليس مصدر تهديد وخطر.

فمع تراجع شعبية أولاند إلى أقل من 19% خلال الأشهر الماضية، لم يستطع الرئيس الفرنسي إنكار أن استمرار هذا التراجع في شعبيته وفشله في خفض معدلات البطالة سيحرمه من الفوز في الانتخابات الرئاسية بعد ثلاثة أعوام، بل إنه ربما لن تواتيه الجرأة للترشح مرة أخرى لهذا المنصب بعد كل هذه الإحباطات الشعبية.

لابد وأن نؤكد هنا أن اليمين المتطرف في بريطانيا وفرنسا لم يأت ليبقى، لكن صعوده غير المتوقع كان بمثابة صرخة غضب شعبية ضد الأحزاب الحاكمة، والتي فشلت عاما بعد الآخر في تلبية مطالب المواطنين. كما أنها لم تتمتع بالرؤية والذكاء لإيجاد حلول مبتكرة للأزمات التي يعاني منها المواطنون.. وبالتالي جاءت الانتخابات الأوروبية كصفعة قوية لإيقاظهم من أوهام السلطة والقيادة التي بدأت تهتز وأصبحوا مهددين بخسارتها.