السماء الثامنة – سلام الكندي..«الراحل على غير هدى»

عاصم الشيدي -

قبل أكثر من عقد ونصف من الزمن كنت أستمع إلى برنامج إذاعي على إذاعة لم أعد أذكرها، ولكنها ليست محلية على أية حال، وكان محور البرنامج يدور حول مفكر وفيلسوف عماني لا مثيل له في العالم العربي اليوم.. مفكر هو امتداد لعميد الأدب العربي.. طه حسين. شعرت حينها بكثير من الفرح أن تتحدث هذه الإذاعة التي كنت أتابعها كثيرا عن شخصية عمانية، وأي شخصية، مفكر وفيلسوف يقيم في فرنسا، ويعتبر امتدادا لأيقونة الفكر العربي.. طه حسين. بعد دقائق من بدء البرنامج استطعت أن أتبين أن الفيلسوف المعني في البرنامج هو سلام الكندي.

طال الأمد على البرنامج كثيرا ولم أعد أذكر الكثير عن التفاصيل التي ذكرت فيه رغم أنها كانت تمجد كثيرا وتعلي من شأن الفيلسوف العماني. وبعدها بفترة عثرت على مجلة، أحسب أنها مجلة المجلة، وقد كتبت عن مفكر وفيلسوف عماني يوازي شموخه طه حسين. وأنه يقدم رؤية جديدة للشعر الجاهلي، أو شعر ما قبل الإسلام كما سأقرأ لاحقا في كتاب «الراحل على غير هدى»، وهي رؤية تتقاطع مع رؤية عميد الأدب العربي طه حسين في نسبة ذلك الشعر لعرب ما قبل الإسلام. ويقدم الشاعر البدوي بوصفه إنسانا هائما في الصحراء يطوي عذاباته، قبل أن يعود إلى دياره شاردا فلا يجد إلا بقايا الطلل ووشم المنازل تحت الرمال.

ومرت عدة سنوات قبل أن أسمع أن سلام الكندي في عُمان، وكنت حينها طالبا في كلية التربية بصحار أدرس الأدب الجاهلي على يد دكتور مصري اسمه «عبدالغني» واتصلت بسلام الكندي لأتحدث معه حول رؤيته للشعر الجاهلي وتقاطعاته مع أطروحة طه حسين «في الشعر الجاهلي» ولكن سلام لم يشأ أن يحدثني في كل ذلك، وكان كثير التوجس من مكالمتي، وبدا محققا حول الطريقة التي حصلت فيها على هاتفه النقال. ولم أستطع في كل المكالمات التي تلت تلك المكالمة وحتى اليوم أن ألتقي بسلام الكندي أو أتحدث معه أو حتى لاحقا أن أجري معه حوارا حول كتابه الذي عده الكثيرون مهما جدا، كتاب «الراحل على غير هدى.. شعر وفلسفة عرب ما قبل الإسلام». وهو الكتاب الذي قال عنه البعض تلميحا وتصريحا أن اللغة «الفرنسية» التي استخدمها سلام الكندي في كتابته لا يمكن أن تكون له أبدا نظرا لرقيها ولرصانتها التي لا يملكها سلام الكندي. والحقيقة أنني حاولت أن أتقصى الأمر عندما كنت في باريس.. والحقيقة أنني لم أصل إلى من ينفي نفيا قاطعا صلة سلام الكندي بلغة الكتاب، لكنهم أكدوا أنها ليست لغة صاحبه ألان باديو أستاذ الفلسفة في جامعة باريس قطعا. وهو أمر في صالح سلام الكندي لا شك، رغم أن الشاعر خالد معالي صاحب دار الجمل التي ترجمت الكتاب حدثني عن الصعوبات الكثيرة التي واجهت المترجم محمد بنعبود ودار الجمل في توثيق الكثير من مراجع الكندي حتى أن الكتاب صدر بدون قائمة المراجع في نهايته. وهذا يبقي التهمة والسؤال مطروحا.

كل ذلك ليس مهما اليوم، ليس مهما على الإطلاق، وليس هدف كتابة هذا المقال هو التشكيك في أن يكون سلام الكندي قد كتب «الراحل على غير هدى» أم لا فذلك حمل لا أطيقه اليوم، ولكن المهم هو أين سلام الكندي؟ لماذا اختفى بهذه السرعة ومشروعه لم يكتمل بعد؟!!

لماذا يختفي ومشروعه في العتبات الأولى، وهي عتبات استطاعت أن تقنع الباحثين في الجامعات الفرنسية، ولفتت النظر إلى الشعر الجاهلي الذي كان قد ترجمت معلقاته إلى اللغة الفرنسية… فباديو نفسه يقول في مقدمته للكتاب «لن أنسى مقدار الانبهار الذي انتابني عندما وصلتني أخيرا بفضل سلام الكندي هذه المعلقات (يعني معلقات الشعر الجاهلي) سليمة عفية، بالرغم من ستائر الضباب والسراب التي تنسجها الترجمة فتراءت أمامي واضحة سوية». ويكمل «لقد انتابي وأنا اقرأ هذه القصائد شعور مرير بأننا معوقون روحيا دون أن ندري، لا يماثله الا ذلك الشعور الذي تملكني حين قرأت من قبل ملحمة «قول الجينجي» واكتشفت انه بينما كنا في أوروبا القرن الحادي عشر نكتب بصعوبة ملاحم بدائية فجة، سبقت السيدة مورازاكي في اليابان، مارسيل بروست بتسعة قرون بأكملها، ليس في دقة تحليل نذر الحب وتوهجات العشق وآلامه وحسب، بل أيضا في عمق التأمل فيما يعنيه لحن قيثارة أو مشهد حزام أزرق على خصر فستان أو اشاحة مروحة في يد امرأة، من قدرة الابداع الروائي على تشكيل الماهية المطلقة للزمان».

ورغم الصعوبة الكبيرة التي يلقاها قارئ الكتاب المترجم عن اللغة الفرنسية، بترجمة محمد بنعبود، وصعوبة الرجوع إلى مراجع استشهاداته واكمال الأبيات الشعرية في بعض الأحيان إلا أن هذه الدراسة يكفيها أن تكون قد لفتت نظر الغرب والفرنسيين منهم على وجه الخصوص إلى ما أنتجه عرب ما قبل الإسلام.. وهي نصوص لا تضم شعرا فقط بل تضم فلسفة عربية عميقة يمكن أن تقرأ تفاصيلها في متون أكثر من 280 قطعة شعرية وصلت عن تلك المرحلة.

مرة أخرى أين سلام الكندي ولماذا اختفى بعد رجوعه إلى السلطنة. لست معنيا بحضوره الاجتماعي إن كان موجودا فيه أيضا ولكني معني بحضوره الثقافي والبحثي والعلمي. وهل كان حقا صاحب مشروع فلسفي وفكري أم كانت تلك سحابة صيف على رأي أكثر المنصفين من الذين لم تعجبهم فكرة أن يكون البحث ليس لصاحبه.. خاصة وأن الطريقة التي ظهر فيها سلام الكندي إعلاميا كانت مثار شك كبير عند الكثيرين.. وفكرة أن يظهر كتاب ويقدموا «بيضة الديك» ثم يختفوا واردة جدا، وقد حدثت إبداعيا مع الكثير من الكتاب. ولكن مشروع «الراحل على غير هدى» لم يكتمل بتلك الصورة، إنه مشروع كان يحتاج لجهد أكبر من الباحث حتى يكتمل المشروع خاصة وأن المشهد تغير عن تلك المرحلة التي ظهر فيها طه حسين.. وما كان محرما في عهد طه حسين صار مباحا جدا في عهد سلام الكندي.

أتمنى أن نرى أو نسمع أي جديد عن سلام الكندي الإنسان قبل أن نسمع عن سلام الكندي المفكر والفيلسوف. ويمكن أن تكون هذه دعوة له للعودة إلى مشروعه، وإلى المشهد الثقافي العماني الذي لا يكاد يعرفه فيه الكثيرون حتى شكلا.