هل أضحت بديلا عن الحروب العسكرية ؟
تأليف « جايمس ريكاردز – عرض وتحليل : إميل أمين –
في الأول من ديسمبر المنصرم كتب عالم الاقتصاد الأمريكي الشهير«نورييل روبيني» محذرا من أن العالم مقبل على نوع جديد من أنواع الحروب يعرف بحروب العملات.. فما الذي دفع روبيني لهذا القول؟
لقد كان القرار الأخير الذي اتخذه بنك اليابان بزيادة نطاق التيسير الكمي بمثابة الإشارة إلى أن جولة أخرى من حروب العملة ربما تكون في الطريق إلينا. إن محاولة بنك اليابان إضعاف قيمة الين الياباني تندرج تحت نهج إفقار الجار الذي يستحث ردود فعل سياسية في مختلف إنحاء آسيا والعالم.
هل توقف الأمر عند حدود اليابان فقط؟ يبدو أن هناك بنوكا أخرى قد عمدت إلى الفعل ذاته منها البنوك المركزية في الصين وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وتايلاند، والتي ذهبت إلى تخفف قيود سياساتها النقدية، أو قد تزيد من تخفيفها خوفا من خسارة القدرة التنافسية نسبة إلى اليابان. ومن المرجح أن يتبنى البنك المركزي الأوروبي والبنوك المركزية في سويسرا والسويد والنرويج، وعدد قليل من بلدان أوروبا الوسطى برامج التيسير لكمي أو ربما تستخدم سياسات غير تقليدية أخرى لمنع قيمة عملاتها من الارتفاع.
لماذا تتعلق أساسا بالدولار رغم أنه ليس سوى نسخة متغطرسة لذاته السابقة؟
هل يعني ذلك أننا دخلنا بالفعل في حروب العملات؟
ربما يجدر بنا قراءة هذا الكتاب حتى نتأكد من الجواب…. إن حروب العملات هي نوع آخر من الحروب، بعد الحرب الباردة وحروب الشرق الأوسط، يتحول إلى صراع حقيقي بين الدول العظمى، صراع بلا دوي مدافع وقصف طائرات، يحدث خلسة وخفية وعبر مكائد اقتصادية ويفضي إلى كوارث مالية تعزز واقعا سياسيا جديدا ونظما غير التي كانت قائمة، فقط يتغير القادة، من عسكريين أشداء إلى اقتصاديين محنكين، دارسين متابعين.
مؤلف الكتاب
المؤلف هو جايمس ريكاردز كاتب ومحام وخبير اقتصادي ومستشار ومستثمر مصرفي ومدير مسؤول عن إدارة المخاطر. حائز على دكتوراة من كلية الحقوق بجامعة بنسلفانيا وماجستير في الضرائب من جامعة نيويورك للقانون. يملك خبرة خمسة وثلاثين عاما في أسواق رأس المال في وول ستريت.
ولعل الأهم في كل ذلك أن مستشار وزارة الدفاع ومجتمع الاستخبارات الأمريكية وأكبر صناديق التحوط في شؤون النظام العالمي، وهو معلق اقتصادي في أهم وسائل الإعلام، وأستاذ محاضر في جامعة نورث وسترن، وفي كلية الدراسات الدولية المتقدمة.
في كتابه هذا يضع المؤلف يده على هذه الحرب.. الأسهل من حيث الوسائل والأشد فتكا بالمجتمعات من الداخل، ويقدم أزمة العام 2008 المالية، ويحلل أسباب حدوثها، وكيف حاول الخبراء تفاديها بداية ومحاولات تفاديها التي باءت بالفشل والتي كادت تفضي إلى مخاطر أكبر.
كما يستعرض مفاعيل حرب العملات، من انهيار للأوراق المالية وتجميد للأصول، ومصادرة للذهب، وفرض للرقابة على رؤوس الأموال فضلا عن التلاعب بعملات الدول. وفي هذا الكتاب يحذر من مغبة حرب العملات، وتأثيرها البالغ في البلدان ذات الأسواق الناشة، بحيث ترفع قيمة عملتها الوطنية، وبالتالي قيمة صادراتها وتصبح أكثر عرضة للخسارة وأقل قدرة على النمو، ويشير إلى ردود فعل تلك البلدان ولاسيما الصين والهند والبرازيل واندونيسيا ومواقفها من نفوذ الصندوق الدولي، ويخص الدول العربية كلاعب استراتيجي اقتصاديا وجغرافيا إذا شاء أن يوجه ضربات قاتلة إلى العملات الأجنبية.
طبيعة حروب العملات
تعتبر حرب العملات التي تخوضها دولة ضد أخرى عن طريق الخفض التنافسي لقيمة العملة الواحدة من أكثر النتائج تدميرا للاقتصاد الدولي والأشد إثارة للخشية. وهي تعيد إحياء شبح الكساد الاقتصادي الكبير عندما انخرطت الأمم في عمليات «الامتلاك بلا رحمة» المتمثلة في خفض قيمة العملة وفرض التعريفات الجمركية، ما أدى إلى انهيار التجارة العالمية.
ويذكر هذا بالسبعينات عندما ارتفع سعر النفط بالدولار سبعة أضعاف بفعل جهود الولايات المتحدة الآيلة إلى إضعاف الدولار من خلال قطع ارتباطه بالذهب. وهو يذكر أخيرا من بين اختلالات أخرى بواحدة من أزمات الجنيه الإسترليني في عام 1992، والبيزوس المكسيكي عام 1994، والروبل الروسي في عام 1998. وترابطت هذه الأزمات المالية وغيرها، سواء امتدت على فترات طويلة أو تميزت بالحدة، مع الركود والتضخم والتقشف والذعر المصرفي وغير ذلك من النتائج الاقتصادية المؤلمة، لأنه لا ينتج عن حرب العملات أي أمر ايجابي على الإطلاق.
ما الذي أدى إلى بدء الحرب؟
يرى مؤلف هذا الكتاب الهام أن نخب المال العالمية صدمت وانزعجت لسماع وزير المال البرازيلي «غيدو مانتيغا» يعلن في أواخر سبتمبر 2010 وفي شكل قاطع عن بدء حرب العملات الجديدة.
لم تكن الأحداث والضغوط التي أدت إلى إعلان مانتيغا جديدة بالطبع أو خافية على تلك النخب. فقد أخذ التوتر الدولي في شأن سياسة سعر الصرف، وامتداد أسعار الفائدة والسياسة المالية، في التراكم حتى قبل الكساد الذي بدأ في أواخر عام 2007، واتهم شركاء الصين التجاريون الكبار بكين تكرارا بالتلاعب بعملتها، اليوان، إلى مستوى منخفض مصطنع وبالقيام في السياق نفسه بتجميع فوائض احتياطية من دين الخزانة الأمريكية.
بيد أن ذعر عام 2008 ألقى ضوءا جديدا على النزاعات المتعلقة بسعر الصرف، وأخذت الشطيرة الاقتصادية فجأة في التقلص، بدلا من التوسع، وشرعت البلدان التي رضيت سابقا بحصتها من الشطيرة المتوسعة، في التقاتل على الفتات.
من ذلك الوقت استمرت دوار النخبة في اعتبار الإشارة إلى حروب العملات أمرا محترما بالرغم من الضغوط المالية العالمية الواضحة التي تراكمت بحلول عام 2010 واستخدم خبراء المال الدوليون بدلا من ذلك عبارات مثل إعادة التوازن والضبط في وصف جهودهم القاضية بإعادة تنظيم أسعار الصرف لتحقيق ما اعتقد البعض أنها الأهداف المنشودة. إلا أن استخدام التورية لم يخفف من التوتر في المنظومة.
حرب العملات الأولى 1921-1936
هل حرب العملات التي يتحدث عنها المؤلف في الأعوام الأربعة الأخيرة هي الأولى من نوعها أم سبقتها حروب أخرى من النوع نفسه؟
تخبرنا صفحات الكتاب عن انه في عام 1921 بدأت حرب العملات الأولى في شكل مثير في ظل الحرب العالمية الأولى إلى أن بلغت في عام 1936 نهايتها غير الحاسمة. وخيضت الحرب في جولات عدة في القارات الخمس وطاولت اهتزازاتها الكبرى القرن الحادي والعشرين. تحركت ألمانيا أولا في عام 1921 من خلال تضخم جامح صمم أساسا لتحسين التنافسية ثم امتد إلى إبعاد منافية للعقل ليدمر اقتصادا ثقلت عليه أعباء تعويضات الحرب. وتحركت فرنسا تاليا في عام 1925 عبر خفض قيمة الفرنك قبل العودة إلى قاعدة الذهب، واكتسبت بذلك هامشا تصديريا على بلدان مثل انجلترا والولايات المتحدة اللتين ستستأنفان العمل بقاعدة الذهب بمعدل ما قبل الحرب.
وقد تخلت انجلترا في عام 1931 عن الذهب واستعادت ما فقدته في عام 1925 لصالح فرنسا. وتلقت ألمانيا دفعة في عام 1931 عندما قرر الرئيس الأمريكي هربرت هوفر تأجيل مدفوعات تعويضات الحرب. واتخذ التأجيل صفة دائمة بنتيجة مؤتمر لوزان في عام 1932. وسلكت ألمانيا باضطراد بعد عام 1932 وبروز هتلر طريقها المستقل وانسحبت من التجارة العالمية لتصبح اقتصادا أكثر اكتفاء ذاتيا ولو بروابط مع النمسا وأوروبا الشرقية. وتحركت الولايات المتحدة في عام 1933 وخفضت هي الأخرى عملتها في مقابل الذهب واستعادت بعضا من الهامش التنافسي في تسعير الصادرات بعدما خسرته في عام 1931 لصالح انجلترا.
ثم جاء أخيرا دور فرنسا وانجلترا لخفض العملة من جديد وانفصلت فرنسا في عام 1936 عن الذهب لتصبح أخر دولة كبرى تخرج من أسوأ نتائج الكساد الاقتصادي الكبير في حين خفضت انجلترا من جديد قيمة عملتها لاستعادة بعض الأفضلية التي خسرتها ضد الدولار بعد عمليات الخفض التي قام بها روزفلت في عام 1933.
دخلت الاقتصاديات الكبرى جولة بعد جولة من خفض العملة والتقصير عن الدفع في سباق إلى القعر متسببا معه بفوضى تجارية ضخمة وبخسارة في الإنتاج وبتدمير للثروة، وجعلت الطبيعة المتقلبة للنظام المالي العالمي، والتي تهزم نفسها بنفسها، من حرب العملات الأولى في تلك الحقبة الحكاية النموذجية المطلقة لأيامنا هذه التي يواجه فيها العالم من جديد تحدي الديون الضخمة التي لا يمكن سدادها.
حرب العملات الثالثة (2010-….)
بحسب جايمس ريكاردز تعتبر العملات الثلاث الممتازة الدولار واليورو واليوان التي تصدرها الاقتصاد الثلاثة الأكبر في العالم أي الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والصين، بمثابة القوى الكبرى في حرب العملات الجديدة، حرب العملات الثالثة فقد جرت المقادير بحرب عملات أخرى في الأعوام ما بين 1967-1987، التي بدأت في عام 2010 كنتيجة لكساد عام 2007 وأخذت أحجامها وعواقبها تتضح للتو.
لا ينكر أحد أهمية العملات الرئيسية الأخرى في المنظومة المالية العالمية بما في ذلك الين الياباني والجنيه الإسترليني الانجليزي والفرنك السويسري وتلك التابعة لدول البريكس: الريال البرازيلي والروبل الروسي والروبية الهندية والرند الإفريقي الجنوبي، وتستمد هذه العملات أهميتها من حجم الاقتصاد الذي يصدرها والتجارة والصفقات المالية التي تنخرط فيها هذه البلدان. وبموجب هذه القياسات تحتل الدولارات المحلية التي تصدرها استراليا ونيوزيلندا وكندا وسنغافورة وهونج كونج وتايوان، إضافة إلى الكورون النرويجي والون الكوري الجنوبي ودرهم الإمارات العربية المتحدة مكانة تدعو إلى الفخر، إلا أن الناتج الإجمالي المحلي المشترك للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والصين نحو 6 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي يوجد مركز ثقل تلتحق به نوعا من كل الاقتصاديات الأخرى والعملات.
خطوط حروب العملات
هل من خطوط معينة لحروب العملات؟ يرى جايمس ريكاردز أن لكل حرب خطوط جبهاتها الرئيسية وعروضها الجانبية الرومانسية والدامية في الغالب. وشكلت الحرب العالمية الثانية النزاع العسكري الأعظم والأكثر كلفة في التاريخ، وانقسمت وجهة النظر الأمريكية من الحرب العالمية الثانية بوضوح بين أوروبا والمحيط الهادي فيما اشتملت وجهة النظر اليابانية على إمبراطورية استعمارية تمتد من بورما إلى الهجوم الذي بالغت في التوسع فيه على بيرل هاربور. أما الانجليز فبدأ أنهم حاربوا في كل مكان دفعة واحدة.
هل ينطبق الأمر على حروب العملات؟ ذلك كذلك بالفعل. إذ أخذت خطوط الجبهة الرئيسية ترتسم على مسرح الدولار- اليوان عبر المحيط الهادئ، ومسرح اليورو– الدولار عبر الأطلسي، ومسرح اليورو- اليوان في مساحة اليابسة الأوربية الأسيوية. أنها معركة حقيقية لكن بمواقع جغرافية مجازية. لأن حروب العملات تخاض في الواقع دفعة واحدة عالميا في كل المراكز المالية الكبرى على مدى 24 ساعة في اليوم. ويشارك فيها المصرفيون والمضاربون والسياسيون والأنظمة الآلية، ويصبح مصير الاقتصاديات ومن يتأثر بها من المواطنين معلقا في كفة الميزان.والشاهد انه لم تعد المشاركة في حرب العملات اليوم حكرا على المصدرين الوطنيين للعملة وبنوكهم المركزية، بل يمتد التورط إلى المؤسسات المتعددة الجنسيات والعالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبنك التسويات الدولية والأمم المتحدة إضافة إلى الكيانات الخاصة مثل صناديق التحوط والشركات العالمية والمكاتب العائلية الخاصة لأصحاب الثروات الفاحشة. وتؤثر هذه المؤسسات الخاصة سواء المضاربة منها أو المتحوطة أو المتلاعبة، على العملات كما تؤثر عليها البلدان التي تصدرها. وما على المرء لرؤية أن خطوط الجبهة عالمية، إلا أن يتمعن في قصة صندوق التحوط الذي أداره جورج سورس و«أفلس بنك انجلترا» في عام 1992 جراء رهان ضخم على العملات. وتوجد اليوم صناديق تحوط ذات رفع مالي بمليارات عدة من الدولارات أكثر مما أمكن لسورس تخيله منذ عشرين عاما.
كيف بدأت حروب العملات الثالثة؟
بدأت المعارك في مسارح حرب العملات الثالثة في المحيطين الهادئ والأطلسي وفي اوراسيا بما يشبه عروض شرائح الصور المهمة في البرازيل وروسيا والشرق الأوسط وفي أنحاء آسيا كافة، غير أن حرب العملات الثالثة لن تخاض على مصير الريال أو الروبل، بل على القيمة النسبية لليورو والدولار ولليوان، وهو ما سيؤثر في مصائر البلدان التي تصدرها كما في مصائر شريكاتها التجارية.وها أن العالم يدخل اليوم حرب العملات الثالثة في أقل من مائة سنة، وليس واضحا أن كانت ستنتهي بطريقة مأساوية كما في حرب العملات الأولى أو تتمكن من الهبوط في شكل سهل كما في حرب العملات الثانية والأمر الواضح هو أن حرب العملات هذه – إذا أخذنا في الاعتبار نمو الاقتصاديات الوطنية منذ الثمانينات وطباعة المال والرفع المالي من خلال المشتقات – ستكون عالمية حقا وتخاض على نطاق أضخم من ذي قبل. ويشارك في حرب العملات الثالثة كل من اللاعبين الرسميين والخاصين. ويزيد هذا التوسع المتصاعد في الحجم وفي الجغرافيا وفي المشاركين من خطر الانهيار، ولم تعد المخاطرة تتعلق اليوم بخفض قيمة عملة ما في مواجهة أخرى أو بزيادة في سعر الذهب. بل يتمثل هذا الخطر في انهيار النظام المالي نفسه : فقدان الثقة بالعملة الورقية وهروب كبير للأصول الثابتة. وقد تصبح حرب العملات الثالثة أخر حرب عملات نظرا إلى مخاطر الإخفاق الكارثي أو في إعادة صياغة لكلمات «وودرو ويلسون»، الحرب التي تنهي كل حروب العملات.
الأضرار الناجمة
عندما يستخدم المتقاتلون الرئيسيون في أي حرب أسلحتهم يعاني غير المحاربين من الأضرار الجانبية، وحرب العملات لا تختلف عن ذلك بشيء. فالتضخم الذي سعت إليه الولايات المتحدة يائسة لم يجد طريقه إلى الصين فحسب بل وفي شكل عام إلى الأسواق الناشئة أيضا. وسرعان ما ظهر التضخم الذي تسببت به طباعة الأوراق المالية الأمريكية في كوريا الجنوبية والبرازيل واندونيسيا وتايلندا وفيتنام وغيرها من خلال تركيبة من الفوائض التجارية ودفق الأموال الساخنة الباحثة عن عائدات اكبر لاستثماراتها. وتبنى رئيس الاتحاد الفيدرالي الأمريكي «برنانكي» بكل سرور مقاربة «إلقاء اللوم على الضحية» قائلا: انه ليس لدى هذه البلدان من تلومه سوى أنفسها لأنها رفضت رفع قيمة سعر صرف عملاتها في مقابل الدولار من أجل خفض فوائضها والتخفيف من سرعة تدفق الأموال الساخنة.
وقال برنانكي بلغة المصرفيين المركزيين المسكنة: «يمتلك صانعو السياسة في الأسواق الناشئة نطاقا من الأدوات القوية.. التي يمكنهم استخدامها لإدارة اقتصادياتهم وتفادي السخونة المسرفة، بما فيها تعديل سعر الصرف.. وساهم الطلب الصادر عن الأسواق الناشة إلى حد كبير في الارتفاع الأخير في أسعار السلع العالمية. وبصورة اعم ساهمت محافظة بعض الحكومات على ما دون السعر الفعلي للعملات في نمط من الإنفاق العالمي غير المتوازن وغير المستدام».
…. ما الذي تجاهله برنانكي هنا ؟
يرى جايمس ريكاردز انه تجاهل واقع أن الكثير من السلع التي استهلكها المقيمون في هذه البلدان، مثل القمح والذرة والزيت والصويا والخشب والبن والسكر تسعر في الأسواق العالمية وليس المحلية. وفي حين رفع المستهلكون في أسواق محددة الأسعار ردا على طباعة الاحتياطي الفدرالي للمال، لم ترتفع الأسعار في هذه الأسواق وحدها بل في العالم كله.
الأموال والأسواق الناشئة
لم يقتصر الشعور السريع بتأثيرات طباعة الاحتياطي الفيدرالي للمال على الأسواق الناشة الناجحة نسبيا في شرق أسيا وفي أمريكا اللاتينية فحسب، بل امتد أيضا إلى المناطق الأكثر فقرا في إفريقيا وفي الشرق الأوسط، فارتفاع سعر الغذاء يشكل إزعاجا لعامل المصنع الذي يعيش على 12 ألف دولار في السنة. أما ارتفاعه بالنسبة إلى المزارع الذي يعيش على ثلاثة آلاف دولار في السنة فيشكل الفارق بين الأكل والجوع، وبين الحياة والموت. فالاضطرابات المدنية وأعمال الشغب والتمرد التي اندلعت في أوائل عام 2011 في تونس وامتدت سريعا إلى مصر والأردن واليمن والمغرب وليبيا وغيرها جاءت كرد فعل على ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة وانخفاض مستويات المعيشة بقدر ما جاءت رد فعل على غياب الديمقراطيات. تكبدت بلدان في الشرق الأوسط في موازناتها لدعم سلع رئيسية مثل الخبز الكثير للتخفيف من الآثار الأسوأ لهذا التضخم. وقد حول هذا مشكلة التضخم إلى مشكلة مالية كبرى في عدد من بلدان العالم العربي، وأصبح الوضع على حد كبير من الفظاعة تطلب معه قيام مجموعة العشرين المجتمعة في مايو 2011 في دوفيل في فرنسا بالتعهد على عجل تدبير 20 مليار دولار من الدعم المالي الجديد لمصر وتونس، وكان برنانكي قد أصبح بالفعل بعيدا كل البعد عن متاعب الأمريكيين العاديين، وها هو يصبح بعيدا كل البعد عن العالم.
الأزمة العالمية التالية
في حديثها عن هذا الكتاب تقول صحيفة الفاينانشيال تايمز ذائعة الصيت «فلنأمل فقط أن يكون الكاتب مخطئا».. في أي شيء تأمل الصحيفة العريقة ذلك؟
تشتمل حروب العملات تاريخيا على عمليات خفض تنافسية في أسعار الصرف تمارسها الحكومات الساعية إلى خفض كلفة هيكلياتها وزيادة صادراتها وإيجاد الوظائف وإعطاء اقتصادها دفعة على حساب شريكاتها التجارية وهذا ليس بالمسار الوحيد الممكن لحرب العملات. بل يوجد سيناريو أكثر غدرا تستخدم فيه العملات كأسلحة، ليس بالمعنى المجازي بل بالمعنى الحقيقي، لإيقاع ضرر اقتصادي بالخصوم ويكفي أحيانا مجرد التهديد بالحق الضرر لإجبار الخصوم على تقديم التنازلات في مجال المعركة الجغرافي السياسي.
لا تنخرط الدول وحدها في هذه الهجمات بل الإرهابيون أيضا والعصابات الإجرامية وغيرهم من اللاعبين السيئين الذين يستخدمون صناديق الثروة السيادية والقوات الخاصة والموارد الاستخبارية والهجمات الالكترونية والتخريب والعمل السري. وليست هذه المناورات المالية من النوع المطروح للنقاش المهذب في اجتماعات مجموعة العشرين. تشكل قيمة صرف عملة بلد ما موطن ضعفه، فإذا انهارت أخذت معها كل شيء، وتترابط الأسواق اليوم عبر استراتيجيات تداول معقدة غير أن معظمها لا يزال منفصلا إلى حد ما. ويمكن لسوق الأسهم أن تنهار، وفي الوقت نفسه تنتعش سوق السندات. ويمكن لسوق السندات أن تنهار بفعل أسعار الفائدة الآخذة في الارتفاع. لكن يمكن نتيجة ذلك أن تبلغ أسواق سلع أخرى، بما في ذلك الذهب والنفط، ارتفاعات جديدة، وتوجد دوما طريقة لجني المزيد من المال في سوق ما فيما تهبط فجأة أسعار السوق الأخرى. إلا أن الأسهم والسندات والسلع والمشتقات وغيرها من الاستثمارات مسعرة كلها بعملة بلد ما، فإذا دمرت العملة دمرت معها البلاد بجميع أسواقها. وهذا ما يجعل العملة الهدف النهائي في أي حرب مالية.
ينبه المؤلف إلى أمر خطير وهو أن هذه التهديدات لا تحظى ولسوء الحظ بالانتباه الكافي داخل مجتمع الأمن القومي الأمريكي، ولاحظ بيل غيرتر في تغطية له في واشنطن تايمز انه : يقول مسؤولون أمريكيون ومحللون من خارج الإدارة إن البنتاجون والخزانة ووكالات الاستخبارات لا تدرس بفاعلية التهديدات التي تشكلها الحرب الاقتصادية والإرهاب المالي على الولايات المتحدة، وقال احد المسؤولين لا احد يريد الخوض في ذلك.
وفي كل الأحوال تشكل النظرة الشاملة إلى قوى العولمة ورأسمالية الدولة وهي نسخة جديدة من مركنتيلية القرن السابع عشر التي جسدت فيها الشركات امتدادا لسلطة الدولة، خطوة في اتجاه فهم المخاطر التي يواجهها الاقتصاد العالمي اليوم، ولا يمكن إدراك تهديدات الحرب المالية إلا في سياق عالم المال في عصرنا هذا.
وهو عالم مشروط بانتصار العولمة وبروز رأسمالية الدولة واستمرارية الإرهاب وما الحرب المالية إلا شكل آخر من أشكال الأعمال الحربية المتفلتة، وهي الأسلوب المفضل لمن يمتلكون مستوى ادني من الأسلحة ومستوى ارفع من الدهاء. لقد حصلت الانهيارات الاجتماعية والمالية مرات عدة، وسهل تجاهلها أو نسيانها، لكن التاريخ لا ينسى كما أن الأنظمة المعقدة لا تتورع عن القيام بما دأبت على القيام به، وهي تبدأ على مبدأ تنظيمي حميد وتنتهي بامتصاص كل أنظمة الطاقة المتوفرة وهي تدمر النظام بحد ذاته، وأسواق المال والعملات كناية عن أنظمة معقدة ستنهار في النهاية إلا إذا تم تفكيكها واحتواؤها، تجزئتها وإزالة ترسانتها. وتتعلق حروب العملات أساسا بالدولار بيد أن الدولار ليس سوى نسخة متغطرسة لذاته السابقة بفعل المشتقات والرفع المالي والطباعة والانتقاص من الذهب. ولم يفت الوقت على إنقاذه، غير أن الوقت اخذ في النفاذ.