إيران والعالم العربي

أ.د. داخل حسن جريو -

مستشار التعليم التقني – وزارة القوى العاملة -

إيران موطن إحدى أقدم حضارات العالم حيث تعود حضارتها لأكثر من (2800) سنة قبل الميلاد. وقد أثرت الفلسفة الفارسية والأدب والطب والفلك والرياضيات والفن في الحضارة الإسلامية، فقد كان الكثير من الفرس رجال علم وفكر بارزين في الحقب الإسلامية المختلفة. تشير الدراسات إلى أن اسم إيران يعني باللغة الفارسية «أرض الآريين»، وقد استخدم الساسانيون هذا الاسم في العصور القديمة، وأعيد استخدامه مجددا عام 1935م بدلا من تسمية بلاد فارس التي كانت سائدة حينذاك.

تضم إيران حاليا خليطا من قوميات مختلفة، أبرزهم الفرس الذين يشكلون نحو (50%) من إجمالي سكان إيران، يليهم الأذربيجانيون وهم من أصل تركي تتري بنحو (20%)، والأكراد بنحو (9 %)، وقوميات أخرى قليلة العدد نسبيا، أبرزهم العرب والتركمان والقاجار، يتركز العرب في منطقة الأحواز والساحل البحري المطل على الخليج العربي وبحر عمان. ويدين معظم سكان إيران بالديانة الإسلامية، وتدين أقلياتها بديانات مختلفة مثل المسيحية واليهودية والزردشتية والبهائية بحرية تامة.

إيران بلد مترامي الأطراف حيث يعتبر البلد الثامن عشر في العالم من حيث المساحة، والبلد العشرين من حيث عدد السكان البالغ عددهم حاليا أكثر من (75) مليون نسمة، وتشغل موقعا جغرافيا إستراتيجيا في العالم، وتحتل مركزا مهما في مجال الطاقة بسبب مخزونها الكبير من النفط والغاز الطبيعي حيث تمتلك ثاني أكبر مخزون احتياطي من الغاز الطبيعي في العالم، ورابع أكبر مخزون احتياطي مؤكد من النفط.

شهدت العلاقات الإيرانية العربية أزمات عديدة في التاريخ الحديث، من أبرزها قيام إيران الشاه عام 1969 بإلغاء اتفاقية الحدود المعقودة بينها وبين العراق، كما تتهم بعض الدول العربية إيران بحق أو بدونه بالتدخل في شؤونها الداخلية، وقطعت العلاقات الدبلوماسية بين إيران ومصر عام 1981 في أعقاب اغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات، كما تتهم إيران بعض هذه الدول بالتدخل في شؤونها هي الأخرى عبر تمويل بعض الجماعات السياسية المناوئة لها.

ولم تكن العلاقات العربية الإيرانية علاقات متوترة على طول الخط، بل كانت علاقات متطورة وإيجابية مع معظم الدول العربية، فقد كانت هذه العلاقات مجيدة بين نظام شاه إيران وجميع النظم الملكية العربية لدرجة المصاهرة مع بعضها، وارتباط البعض منها بأحلاف عسكرية معها،أبرزها حلف بغداد في منتصف عقد الخمسينات من القرن المنصرم الذي ضم العراق وتركيا وباكستان وإيران بالتعاون والتنسيق بين هذه الدول والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا للوقوف بوجه المد الشيوعي المتعاظم حينذاك.

لعبت إيران في زمن الشاه وتلعب حاليا دورا مؤثرا في السياسة الدولية، فقد كانت أحد الأعضاء الخمسة المؤسسين لمنظمة البلدان المصدرة للنفط «أوبك» التي تأسست في بغداد عام 1961 بمبادرة من حكومتها حينذاك، وعضوا مؤسسا لمنظمة المؤتمر الإسلامي في ستينات القرن المنصرم بالتعاون والتنسيق مع المملكة العربية السعودية ودول إسلامية أخرى، وبعد قيام الجمهورية الإسلامية في إيران بنهاية عقد السبعينات انهارت الترتيبات الأمنية الغربية في المنطقة، وفي مطلع عقد الثمانينات تصاعد الصراع بين إيران والعراق بشدة ليتطور لاحقا إلى حرب ضروس امتدت ثماني سنين تكبد فيها البلدان خسائر مادية وبشرية هائلة دون جدوى. وشهدت هذه الفترة تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية بهدف تعزيز أمنها وتوحيد مواقفها في القضايا الدولية المختلفة وإبعاد المنطقة عن الصراعات الدولية وتداعياتها. احتفظت دول مجلس التعاون بعلاقات متوازنة مع إيران إلى حد ما طيلة فترة الحرب العراقية الإيرانية مع دعم واضح لجهود العراق العسكرية.

وفي ضوء ما تقدم نقول ان التناقض في مصالح الدول ليس غريبا في الماضي أو الحاضر بحسب الظروف الذاتية والموضوعية التي تمر بها هذه الدول ومدى ضعف وقوة كل منها، وقدرتها على تدبير شؤونها وتعاملها مع الدول الأخرى بحكمة وعقلانية،فلا عجب أن تشهد العلاقات العربية الإيرانية حالات من المد والجزر بسبب اختلاف نظمها السياسية أحيانا، أو بسبب اختلاف رؤاها الفكرية أو السياسية في هذه القضية أو تلك، أو حتى تعارض مصالحها أحيانا. إلاّ أن ذلك ينبغي أن لا يفسد للود قضية كما يقال، فالاختلاف أمر طبيعي يمكن معالجته بالحوار الهادئ البناء الذي يمكن أن يفضي إلى حلول توافقية تلبي مصالح جميع الأطراف بعيدا عن مداخلات القوى الدولية الخارجية.

إلاّ أنه يلاحظ بأسف أن البعض ينفخ دوما في الرماد لإيقاظ نار الفتنة التي ان اندلعت لا سمح الله فانها لا تبقي ولا تذر، ولن تكون في مصلحة إيران أو البلدان العربية، وذلك بنبش التاريخ والتقاط كل ما يؤجج الأحقاد بين العرب والفرس بدعوى عداء تاريخي وكراهية مزمنة لتأجيج الصراعات، بدلا من توظيف المعطيات التاريخية التي توحد العرب والفرس في إطار من المحبة وتعزيز المصالح المشتركة وضمان الأمن والاستقرار لجميع بلدان المنطقة بعيدا عن مداخلات الدول الأجنبية.

تزخر إيران والبلدان العربية بخير عميم يفترض توظيفه لمصلحة شعوبها، والسعي لتعزيز روابطها الاقتصادية والثقافية والحضارية والدينية التي تمتد لمئات السنين، فضلا عن الروابط الجغرافية بحكم الجوار. وفي ضوء ذلك نقول ان لا مصلحة لإيران أو أي من البلدان العربية في إثارة موجات الاستعداء بين الحين والآخر، وإثارة الأحقاد والضغائن، ونبش كل ما هو سيء في أحداث التاريخ، بل العكس هو الصحيح، البحث عن كل ما يمكن أن يقربهما من بعض أكثر فأكثر في إطار من المحبة والاحترام المتبادل وتبادل المنافع ودرء الأخطار التي قد تهدد أيا منها وعدم التدخل بخيارات كل دولة، السياسية منها والفكرية والاجتماعية بالطريقة التي تراها مناسبة لظروفها ومرحلة تطورها، وبذلك يمكن أن نجنب المنطقة ويلات الصراعات التي قد تكون دموية أحيانا، وحرمان الدول الخارجية من أية فرصة للتدخل والعبث بأمن هذه البلدان، وتوفير فرص أفضل للتنمية والتطور وتوظيف قدرات كل بلد للبناء والاعمار بدلا من هدرها بشراء الأسلحة والمعدات الحربية التي لا ينجم عنها سوى الخراب والدمار.

وخلاصة القول ان إيران دولة محورية وأساسية مهمة، ويمكن أن تلعب دورا مؤثرا سلبا أو إيجابا بأحداث المنطقة وقضاياها المختلفة، مما يستدعي إقامة علاقات متوازنة بينها وبين الدول العربية عامة ودول الخليج العربية خاصة لتعزيز أمنها واستقرارها من منطلق الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة وحسن الجوار والتعايش السلمي وعدم التدخل بشؤون الغير.

وحيث إن إيران قد بدأت الآن مرحلة جديدة في علاقاتها الدولية بفتح ملفاتها الساخنة العالقة منذ عقود، وفي مقدمتها ملفها النووي المثير للجدل دوليا وإقليميا، بفتحها حوارا جادا مع الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت توصف في الأدبيات الإيرانية بالشيطان الأكبر، كما توصف إيران بالدولة المارقة من قبل الإدارة الأمريكية، وبدؤها محادثات فعلية مع الدول الكبرى دائمة العضوية بمجلس الأمن الدولي وألمانيا، والتوصل الى اتفاق مبدئي حول برنامجها النووي، وهو ما رحبت به مختلف الاطراف المعنية في المنطقة وخارجها، فانها مدعوة في الوقت نفسه لفتح الملفات العالقة مع بعض دول الإقليم، بروح العدل والإنصاف لجميع الأطراف بإعطاء كل ذي حق حقه لضمان أمن واستقرار المنطقة التي يتعرض الكثير من دولها لمداخلات الدول الأجنبية تحت هذه الذريعة أو تلك لتأجيج الصراعات فيما بينها في الوقت الذي تتجه فيه معظم دول العالم إلى التعاضد والتكاتف بإقامة تكتلات إقليمية اقتصادية لتنمية بلدانها وتحقيق رفاهية شعوبها.

ونأمل أن يسفر الاتفاق المبدئي عن اتفاق نهائي بعد ستة اشهر، مما يمكن أن يمهد الطريق إلى قيام شرق أوسط خال تماما من مخاطر أسلحة الدمار الشامل بأنواعها المختلفة النووية والكيماوية والبيولوجية لتعيش بلداننا جميعا بأمن وسلام وتنعم بخيراتها، بعد طول معاناة من الأزمات والصراعات التي لا مبرر لها.