الكاتب عادل الكلباني لـعمان الثقافي: «مقنيات.. وطن وطفولة» شبه سيرة لطفل معوق يخرج من قاع المجتمع

محتفيا بصدور كتابه الرابع ومراوحا كتاباته بين الشعر والسرد -

لا أفكر فـي كتابة الرواية لأنها من العيار الثقيل وتحتاج إلى نفس وقراءات متعمقة -

نزوى – محمد الحضرمي -

تصدر للكاتب عادل الكلباني مجموعة سردية جديدة هذا العام، بعنوان “مقنيات وطن وطفولة”، يصفها في هذا الحوار الذي أجرينا معه بأنها “شبه سيرة لطفل معوق”، ومن عمق قاع المجتمع، من “مقنيات” الأثرية بولاية عبري، المتاخمة لصحراء، ينبت عادل الكلباني، شجرة بريَّة تقاوم عصف الرياح والزوابع وثقل الرمال، في نصوصه يعبر عن أوجاعه وأحلامه في الحياة، صدرت له أعمال تشكلت بين الشعر والسرد، وهي: “الحصن الأسود”، و”الصَّفَّاع”، و”بيت السيح”.

يصف الكاتب عبدالله حبيب نصوصه: ﻳﺴﺮﻑ ﺑﻨﺎ ﻋﺎﺩﻝ ﺍﻟﻜﻠﺒﺎﻧﻲ ﻫﻨﺎ ﻭﻫﻮ ﻳﻘﺬﻑ ﺍﻟﻜﺮﺓ ﻓﻲ ﻏﺮﻓﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻴﺖ ﻟﻴﺤﻄﻢ ﺍﻟﻨﺎﻓﺬﺓ ﻭﺍﻟﻤﺮﻭﺣﺔ ﻭﻛﻞ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ، ﺛﻢ ﻟﻴﻤﻨﺤﻨﺎ ﺍﻟﺪَّﺭﺏ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺬﺍﻛﺮﺓ ﻛﻲ ﻧﺮﻛﺾ ﻓﻲ “ﺍﻟﻤﺪﻳﺴُّﻮﻩ” ﻭ”ﺍﻟﺘﻮﻟﺔ”، ﻭﻛﻞ ﺫﻟﻚ ﻳﺤﺪﺙ ﺇﻛﺮﺍﻣﺎً ﻟﺨﺎﻃﺮ ﺃﻛﺒﺮ ﻛﺬﺑﺔ ﻳﻤﻨﺤﻨﺎ ﺇﻳﺎﻫﺎ: ﻛﺬﺑﺔ ﺍﻹ‌ﺻﺎﺑﺔ ﺑﺎﻟﺸﻠﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺪﻡ ﺇﺑﺎﻥ ﺷﺮﺥ ﺍﻟﺼِّﺒﺎ.

ويكتب سماء عيسى عن لغة الكاتب الشعرية: تبلغ ذروة الجمال هنا في الجذر المأساوي والتمردي في آن. لا تدرك شروق المأساة في الريف العماني الغابر عن شروق التمرد في روح هذا الصبي، الذي حتى اليوم لم يغادر أرضه الا نادرا، ومع تجدد شروق الحياة، تتجدد روح الابداع، كتجدد روح الفصول، وتجدد رحيق الطفولة في وطنه الأم.

$ الثقافي يجري معه هذا الحوار، محتفيا مع الكاتب بعمله الجديد “مقنيات .. وطن وطفولة”، والذي سيكون متواجدا في معرض مسقط الدولي للكاتب، ضمن إصدارات مجموعة كبيرة من الكتاب العمانيين.


تتفاوت تجربتك بين كتابة القصة والشعر، فهل هما تجربتان متكاملتان أم لكل منهما حالة شعورية خاصة؟

القصة والشعر حالتان متكاملتان أحيانا لدى البعض، ولكن لا يجب الاستسهال فيهما، حتى لا يسقط الكاتب في فخ التكرار والتشابه او الابتذال، لمجرد أن البعض يريد ان يكتب في كل شيء، ويحوز على القاب أكبر منه (شاعر وروائي وقاص وكاتب و.. و…).

القصة والشعر من وجهة نظري ظاهرتان خاصتان بالحالة الشعورية التي يمر بها الكاتب، من خلال قراءاته الواسعة والمتعمقة، وأما تجربتي في حقل القصة والشعر الحداثي تحديدا، فبين مجموعة “الحصن الأسود” القصصية، وبين الكتاب السَّردي القادم (مقنيات.. وطن وطفولة)، الصادر حديثا في عام 2014م، أكثر من ست سنوات تقريبا، إذا أخذنا في هذا السياق النسبة الزمنية لكتابة السرد، لغة “مقنيات وطن وطفولة” مختلفة كليا عن لغة “الحصن الاسود”، في التعاطي مع الحدث أو الشخوص أو الأمكنة الواقعية التي يسردها الكتاب، لغة مفهومة وسهلة ربما أكثر من لغة الحصن الاسود، في كتاب “مقنيات وطن وطفولة” استغلال للهجة الدارجة العمانية كلغة ثالثة، حسب الروائي المرحوم عبدالرحمن منيف، وبساطة الوصف على مستوى الزمان والمكان، لتكون قريبة من كل القراء.


مع الشعر وسماء عيسى


ماذا عن تجربتك في كتابة الشعر، هل جاءت مع القصة في ذات المسار؟

تجربتي في الشعر تضمنتها مجموعة “بيت السيح” الصادرة في عام 2007م، والمجموعة الشعرية الجديدة القادمة، التي سوف تصدر بإذن الله في عام 2015م، ما يقرب أيضا من سبع سنوات، وأذكر في هذا السياق أنني أرسلت العام الماضي 2013م نصوصا تجمعت عندي، بعد قراءة في الشعر امتدت ما يقارب سنتين، اذ لم أقرأ فيهما الا الشعر (كلاسيكي/ الحر/ النثر)، هذه الاوراق التي كتبتها وحسبت انها شعر فيما بدت، أرسلتها لمعلمنا الشاعر المبدع سماء عيسى ليبدي رأيه فيها، قال عنها الشاعر دون مجاملة طبعا: إنها مستهلكة، ومعظمها سرد وانشاءات، لا ترتقي البته لوهج الشعر، وعليك الا تحتفظ الا بقصيدتين من كل هذا الورق، وبالطبع تألمت وحزنت، حتى قلت في نفسي: لأتركنَّ الشعر الى الأبد وسألتفت الى السرد، إذ تصور كيف يكون موقفك وانت تقرأ شعرا لمدة تزيد عن سنتين، وتكتب بعد ذلك شيئا تحسبه شعرا في داخلك، ثم ينير لي سماء عيسى نورا في آخر النفق، وأنا ملتبس بالعتمة، وسأخرج بعدها حزينا ومجروحا ربما، لكن ذلك الضوء الذي يقودني في النهاية الى الاتجاه الصحيح، هو الذي بقي لي، والشكر لهذا الصديق الكريم، حيث عدت الى ملاحظاته في الشعر، ونقده لي تأملته ما يقوله، جيدا فقد أوصاني في سنوات خلت، قبل مجموعة “بيت السيح”، بأن الشعر يأتي دون تصريح، وأنه عليك ان تؤثث النص داخليا، ليأتي مثمرا ناضجا، من عمق الجرح وأغواره السحيقة، وكثير من الملاحظات، حاولت بكل جهدي الثقافي والمعرفي والشعوري ما أستطيع، أن أطبق ما قاله الشاعر على ما سيأتي لاحقا من كتابة، ظللت على هذه الحالة أشهرا عدة، تركت القراءة جانبا، وبدأت اللغة الشعرية عندي تأتي قطافها، ربما لن تصدق اذا قلت: إن مقاطع شعرية كثيرة أرسلها على رقم نقاله، مستأذنا منه بتفضله لي، اذا كان هذا المقطع شعري ام سرد، وأظل انتظر في خوف وارتباك تأويله ووصفه لي لما أرسله له، كان معلمنا الطيب متجاوبا عندي الى اقصى الحدود، فما من مقطع أرسلته له الا وأجابني بصدق ومحبة، بأن هذا المقطع رائع شعريا واحتفظ به، وأن ذلك المقطع وقع في فخ السردية والخبرية والتقريرية، فاحذفه واكتب غيره، ظللت اشهر أرسل للشاعر مقاطع عن طريق هاتفه النقال، هو في العاصمة مسقط وأنا في بلدتي “مقنيات” حتى وصلت أخيرا الى مقاطع شعرية كثيرة، أعادت اليَّ الثقة أخيرا، بأن الشعر في أعماقي ينقصه فقط الوقت والخبرة والنضج حتى يكتمل في صورته البهية.


مأوى الطفولة والحنين


عناوين إصداراتك أسماء لأمكنة بعينها؛ “الحصن الأسود”، و”الصَّفَّاع”، و”بيت السيح”، و”مقنيات”، ماذا تمثل لك هذه الأمكنة؟ حدثنا عن علاقتك بالمكان؟

قريتي “مقنيات” أحب البلدان الى قلبي، هي مأوى الطفولة والحنين والذكريات، وكانت فيما مضى حاضرة ملوك النباهنة، وقد ذكرها الامام نور الدين السالمي في كتابه (تحفة الاعيان في سيرة أهل عمان) في صفحة واحدة اكثر من أربع مرات بالاسم تحديدا، اثناء ذكره لتاريخ النباهنة، ذكرها المؤرخ العماني المعروف محمد بن حميد ابن رزيق، المتوفى قبل اكثر من مائة عام في كتابه (الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين)، ذاكرا فيها اشهر ملوك النباهنة في تلك الفترة، فلاح بن محسن النبهاني الذي بنى فيها حصن الأسود قبل أربعمائة عام، فوق جبل منيع، والذي لم يرمم حتى الآن، وذكر ابن رزيق في كتابه بأن الملك فلاح بن محسن النبهاني، كان اول من زرع شجرة الامبا المانجو في مقنيات، ثم انتشرت زراعتها بعد ذلك في عمان.

لذلك ليس صدفة أن يفتخر كاتب مثلي بعراقة هذا البلد الطيب وأهله الطيبين، ما فعلته كان بعضا من رد الجميل ليس الا، لذلك وظفت تراث مقنيات في الأدب، كالحصن الأسود وبيت السيح والصَّفَّاع وبيت الجبل وغيرها الكثير، عناوين كتبي حملت أسماء أمكنة مقنيات، محاولة لتسليط الضوء عليها، فخرا بالتراث والإرث لأجدادنا العمانيين، الذين عاشوا في هذا المكان، ورحلوا كما نعيش فيه ونرحل مثلهم، لكنهم تركوا لنا مجدا، أحاول أن أطرزه في قصيدة شعر او أغنية أو لحن، نخيل مقنيات وأشجارها ووديانها وطيورها وسيوحها وجبالها وسماؤها وأرضها، وناسها الطيبون يهرعون دائما في ذاكرتي، محبة واحتراما واجلالا وتقديرا، أكتبها في اليقظة والحلم، وأشاهدها تتحرك في دمي، أكتبها علّني أشفى منها، ومقنيات عشقي الذي لا أمله ما حييت، حتى اتوارى في ترابها بعد الموت، لأنها المعين والمنجم الذي استقي، وأستخرج منها كل تفاصيل ذهب الجمال والشعر والقصص والحياة والحنين.

الآخرون يبحثون عن العقارات والاموال والنفوذ وأنا أبحث في مقنيات كالمجنون، عن كلمة او بيت شعر أو لحن لتهدأ بها الروح، أبحث عن الحقيقة التي تجرح، ولكنها تخرج الدم الفاسد دائما، حسب أسامة انور عكاشة، ولكن عندما يجرفنا الموت، سيرى الذين يأتون بعدنا ماذا سيبقى في ذمة التاريخ؟


حريق ينعكس في المرايا


نشأت طفلا معوقا، فهل كانت الإعاقة دافعا لك نحو الإبداع الأدبي والكتابة السردية؟

لا أدري، ربما، ولكني كنت منذ أن كنت طالبا في صفوف الابتدائية والاعدادية، كنت متفوقا في حصة الانشاء، وكان المعلم يعطيني الدرجة كاملة في التعبير، ولكن أحيانا أحس بأوجاع وأحزان تجثم في صدري، فأحرق كل أوجاعي وأحزاني في الكتابة، ربما هي مطهري الوحيد، وشفائي من العبث والتمزق، الذي نشاهده ونراه في كل الوطن العربي، هي منفاي ووطني الوحيد أحس بالعزلة فيه، ولكنه بعيدا عن الانتهازية والنفاق وإراقة ماء الوجه، فالمثقف صاحب موقف، وعليه أن يتحمل مسؤولية موقفه في النهاية.

يمرضني المتعالين على الناس، لذلك لا أستطيع البته أن أشفى من تصرفاتهم، وأصاب بحالة ألم وتعب وهذيان، الا أنه عندما أسقطهم في قصصي أو شعري، بوجوه تشبه الصعاليك أو المتسولين، بعدها فقط أحس بهدوء باذخ كالفرح في صدري، افتح نوافذي واستمع الى موسيقاي الخاصة، أشم هواء نقيا، وأشاهد حريقهم ينعكس في المرايا.


ماذا عن تجربتك القرائية، هل تقرأ لكل كاتب، أم تختار أعمالا دون سواها؟

أنا أقرأ كثيرا، وأستطيع القول إنني قرأت كل شعراء الكلاسيكيين، وشعراء الحداثة، وأكثر الكتاب العرب في الرواية، وإذا لم يكن لدي ظروف عائلية، فأن قراءاتي في متوسطها اليومي على الاقل، تمتد لأكثر من خمس ساعات.


الرواية .. نفس طويل


هل فكرت في كتابة رواية؟ أم ترى أنها تجربة ما تزال بحاجة إلى نضج؟

مشروع الرواية يحتاج نفسا طويلا، وقراءات متعمقة في الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ، شخصيا لا أفكر في كتابة مثل هذا النوع من العيار الثقيل في الأدب، واذا فعلتها فلن أقدم على خطوة خطيرة مثل هذه، قبل استشارة من يحترف كتابة الرواية وليس الهواة، لأنك في النهاية تقود شخصيات لهم فكرهم ومنطلقهم ونظرتهم، ومعتقدهم في الحياة، سواء كان ما يفكرون فيه صحيحا أم خاطئا، عليك ان تقود حياتهم الخاصة بأقدار مقنعة للقارئ، لأنك في النهاية أنت من يوجد هذه الشخوص في كتبك، عليك ان تتحمل مسؤولية تصرفاتهم، التي يجب ان تكون مقنعة وواثقة، بأنك قدتهم حقيقة الى الاتجاه الصحيح، استغرب ممن أصبح يستسهل هذه الكتابة الخطرة والوعرة، ليقال عنه: إنه روائي/ روائية، في النهاية سنرى ماذا سيبقى في ذمة التاريخ.


سيرة لطفل معوق


ولعُك في سَرْد الحنين، كما في عملك الأخير: “مقنيات وطنٌ وطفولة”، ماذا تمثل لك هذه المدينة التي تعيش فيها؟

كتاب (مقنيات وطن وطفولة) يحكي طفولة معوق في هذا البلد، مواقف وشخصيات طيبة، عاشت معه ببساطة وحب وجمال، أمكنة وضواحي واقعية وموجودة في الواقع، ليس من الخيال في شيء، الا أنني لم أكتب على غلاف الكتاب (سيرة ذاتية)، لأن لهذه الكلمتين عمق ووعيا وتجربة وخبرة وعمرا ونضجا واستحقاقا، كل ذلك لم أصل إليه حتى الآن، تركت الغلاف مفتوحا دون توصيف عن قصد، متروكا لما يؤوله القارئ، هي شبه سيرة، لطفل عماني معوق، أو نصوص أو قصص، استغرب من بعض الكتاب، يحشد كثيرا من الأحداث، ويرصُّ بعضها ببعض ويختمها لنا بمسمى رواية في الغلاف – حسدا منا على رأي أحدهم -، ولو وضعت كثيرا من الروايات التي يصدرها العمانيون في ميزان النقد، لأتحفنا الكثير منهم بالصَّمت زمنا طويلا.