ظفار في كتابات الرحالة والمؤرخين العرب والأجانب

عبد الله بن علي العليان –

اكتسبت مدينة ظفار العمانية أهميتها في العالم القديم وعصور الحضارات المزدهرة. كالحضارات السومرية والفرعونية والبابلية والرومانية وغيرها من الحضارات القديمة لوجود «اللبان» تلك الشجرة التاريخية المهمة في تلك العصور كما ورد في اللوحات القديمة والكتابات والرسوم نظرا لمكانة شجرة اللبان ومادتها الثمينة دينيا واقتصاديا وحيث تعد مدينة سمهرم شرق ولاية طاقة بمحافظة ظفار التي تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد، والتي تعد إحدى المدن المهمة التي بنيت بعد ظهور تجارة اللبان مع الحضارات القديمة، وتفوقت أهميته التصديرية للخارج. ولما كان اللبان السبب الأكثر بروزا عبر التاريخ في ظفار في العالم القديم، فقد شغلت مساحة حضارية هامة في التاريخ لكونها مصدرا أساسيا لهذه المادة إلى جانب مادة الصمغ أيضا، وكان أثره كبيرا على تطور تاريخ المنطقة وعلى المنطقة الأوسع في الشرق الأوسط. ،وقد أثار اللبان في ظفار اهتمام المؤرخين الأوائل وكتبوا عن هذه السعة منذ 400 قبل الميلاد، بدءا من المؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت ثم بيليني وبطليموس وديودورس وسترابو وغيرهم، وهؤلاء جميعهم تركوا انطباعات وإشارات كما تقول المصادر التاريخية عن أهمية اللبان وندرته في العالم، والتي كانت سببا في ازدهار المنطقة التي تحتكر إنتاج اللبان وكان الطلب التجاري عليه من أمم العالم القديم، لا يضاهيه الطلب علي أية سلعة أخرى.وقد شكل ميناء سمهرم شرق صلاله مركزا بحريا هاما لتصدير اللبان الى العالم القديم، بالإضافة إلى المراكز البرية المعروفة التي انتشرت على طول قوافل تجارة اللبان، كانت حضارات الشرق الأدنى تعتمد على ميناء سمهرم في جلب ما تحتاجه من اللبان اللازم لمعابدها.

ومن الطرق القديمة التي ورد ذكرها من المؤرخين والجغرافيين الأوائل، الطريق الذي يربط بين ظفار وشرق بلاد العرب حتى بلاد سومر في العراق. فالطريق البري يبدأ من ظفار غربا عن طريق النجد الى جنوبي مدن الجزيرة العربية مثل شبوة وحضرموت،ثم شمالا الى نجران حتى غزة، ويذكر لنا المؤرخ (سترابو) أن الرحلة البرية تسلك طريقا مباشرا عبر منطقة الربع الخالي. وتذكر بعض المصادر التاريخية أن بطليموس أول من رسم خريطة لمنطقة ظفار ظهرت نسخ منها في القرن الثاني عشر الميلادي، من مصادر عربية وأوروبية تعكس رؤية بطليموس لجغرافية المنطقة، حيث وضح موقع تصدير اللبان سمهرم، ( خور روري) وقد حدد بطليموس هذه المنطقة (ظفار) وسماها (سوق العمانيين )،ويقول البروفيسور بوريس زاريتز. في فترة العصر الحجري الحديث حيث كانت هناك معابر الطرق التجارية وخاصة الربع الخالي، بدليل أن الأواني والمعدات التي تنتمي إلى العصر الحجري الحديث قد وجدت على طول المنطقة وفي كل بقعة من شبه الجزيرة العربية. ووجدت بقايا هذه الحضارة في محافظة ظفار وفي شمال عمان وفي المناطق الداخلية من اليمن، وفي منطقة عسير في السعودية، وعثر على نماذج من فنون الرسم من تلك الحقبة على جدران الصخور والكهوف.أعقب عهد العصر الحجري الحديث ما يسمى بالعصر البرونزي الذي يؤكد روابط شرق شبه الجزيرة العريية مع غربها ومع بقية مناطق عمان ومع بلاد السومر في جنوب العراق، ويعود تاريخ أول النقوش الكتابية في حضارة السومريين الى نحو 3200 قبل الميلاد، وفي الفترة المعاصرة إلى العهد الأخير من العصر الحجري في منطقتي ظفار والربع الخالي عثر على عدد من اللوحات السومرية « الكتابة القديمة» مكتوب عليها بخور روري، وفي سجلات أخرى نجد معنى أدق وهو تعبير البخور المستخرج من أشجار اللبان «.. وهناك تعبيرات أخرى معناها البخور المطلوب للحكام والقساوسة. وتنبئ الكتابات الأولية أن هذا البخور كان يقاس عن طريق الوزن. وكان يخلط معه الزيت.والشحوم لاستخدامه لأغراض الطقوس الدينية وكعلاج وكبخور عطري.. أما كلمة « الصمغ فلم تظهر إلا في الكتابات الآشورية اللاحقة في حوالي عام 1800 قبل الميلاد. وكان اللبان من واقع النقوش الكتابية يصدر إلى بلاد ومناطق العراق القديم عن طريق البحر. كما أثبتت الاكتشافات قيام هذه التجارة عبر الطرق البرية.

ويؤكد الباحثون أنه منذ حوالي 5000 سنة قبل الميلاد إلى 1800 كانت ظفار في ذلك العصر تسمى بأسماء مختلفة مثل بلاد بونت عند الفراعنة وأوفير عند الرومان وأو بار عند بعض المؤرخين الأجانب والمسلمين، ويروي بعض المستشرقين المهتمين بالتاريخ القديم أن سفينة النبي سليمان عليه السلام رست في بحيرة (سمهرم) وأخذت الجرار المملوءة باللبان تتدحرج من أعلى الجبل فتمتقع في السفينة التي أبحرت باللبان من (أوفير).. ويتحدث المؤرخ بيرين وكذلك بيسترن أن هذه المنطقة المنتجة للبخور لم تكن فقط منطقة مهجورة تقوم بتصدير سلعة هامة بل إنها كانت جزءا من مجتمع حضاري يرتع بهذا الثراء.كانت الأهمية التجارية لهذا الميناء مجال تنافس وصراع بين الحضارات القديمة في فترات مختلفة وتذكر بعض المصادر أن الإغريق والرومان قاموا بعدة حملات للسيطرة على هذا الميناء، وقام الأسكندر الأكبر بإرسال ثلاث حملات لاكتشاف الشواطئ العربية عام 324 قبل الميلاد ومنها ميناء سمهرم.

كما كتب بعض المؤرخين المسلمين عن مدينة (أوبار) وحددوا موقعها بشمال ظفار ومن هؤلاء نشران بن سعيد الحميري الذي يشير إلى أن أوبار كانت الاسم الذي يطلق على الأرض التي تملكها قبيلة عاد لكنها جفت بسبب فقدان المياه، وأن بها مباني عالية وكبيرة طمرتها الرمال بفعل الرياح. ويشير المؤرخ الطبري محمد بن جرير أبو جعفر (310-1295) إلى أن أو بار منطقة ضربها الجفاف بينما يشير الكسائي إلى أن الرياح العاتية دمرت أوبار وهو ما ذكره القرآن الكريم عن قوم عاد. ويعطينا ياقوت الحموي (626 -1228 م ) وصفا جغرافيا دقيقا عن المنطقة إذ يقول أن أو بار أرض واسعة يبلغ عرضها نحو 300 فرسخ 40 ميلا.. وهي أرض خصبة للغاية وغنية بثروتها المائية، وبأشجارها الكثيفة بما في ذلك أشجار الفاكهة، وقد تعاظم ثراء الناس بسبب الخصوبة العالية للأرض. إلا أن الآراء لم تستقر بين المؤرخين حول ما إذا كانت أو بار هي أرض قوم عاد، وهل هي أرض واسعة أم مدينة محددة تقع في ظفار، لكن الدلائل وتأكيدات أغلب المؤرخين تؤيد أن ظفار هي أرض قوم عاد، وهذا ما أظهرته الكتابات والرسوم في الصخور والكهوف في بعض الأماكن والوديان في جبال ظفار. ويذكر ابن المجاور (626-1221) أن هناك طريقا تسلكه القوافل التجارية يربط بين ريسوت وبغداد، وأن السلع الهندية والأقمشة كانت تنقل عبر ذلك الطريق من الهند إلى بغداد وتنقل إلى الهند تجارة تلك المنطقة، ويشير أيضا إلى وجود طريق تجاري بين مرباط وطاقة القديمة، وعبر هذا الطريق كان العرب يجلبون الجياد مرتين في العام ويقايضونها بالعطور والسلع الفاخرة.

وفي العصر الميلادي الأول بدأت تجارة البخور تقل عما كانت عليه في العصور السابقة لكن لم تتوقف تجارته، وذلك نتيجة لعوامل تاريخية في العالم الروماني مما انعكس سلبا على الحضارة المزدهرة في المنطقة بسبب تراجع الإقبال على هذه التجارة،. وبعد سقوط الدولة الحميرية في ظفار (سمهرم ) في القرن السادس الميلادي أي قبل وقت قصير من ظهور الإسلام. كما يقول الباعث س.ب مايلز. إلا أن ظفار الساحل (ويقصد مرباط ثم البليد) اعتمرت في التوسع والازدهار.وتعتبر منطقة البليد الأثرية العمانية التي تقع شرق مدينة صلالة إلى عهد ما قبل الإسلام ، اكتسبت بعده رونقاً إسلامياً فريداً من البناء المعماري ، يظهر ذلك جلياً من خلال مسجدها الكبير الذي يعد من أبرز المساجد القديمة في العالم.وقد زار الرحالة ابن بطوطة مدينة البليد لأول مرة في القرن السابع الهجري ، ثم زارها مرة أخرى بعد مضي عشرين عاماً ، ووصفها بأنها مدينة تكثر فيها المساجد وتصنع فيها أجود أنواع الحرير والملابس القطنية والكتان ، وتصدر أجود أنواع الخيول العربية إلى الهند ، حيث كانت مركزاً تجارياً في القرن الرابع عشر الميلادي بين الهند وساحل أفريقيا الشرقي .وأعيد تأسيس البليد في القرن الرابع الهجري في عهد دولة المنجويين ومؤسسها أحمد بن محمد المنجوي ، ويقال أن المنجويين نقلوا مقر ظفار القديمة من مرباط القديمة إلى البليد ، حيث كانت مرباط المرفأ الرئيسي لرسو السفن ، وقد لعبت البليد دوراً هاماً في النشاط التجاري ، وكان لها اتصال بالموانئ العالمية في ذلك الوقت مثل الصين وبلاد ما بين النهرين والهند والسند واليمن وحضرموت ، وبعض المدن العمانية مثل صحار وصور ، وقد ذكر الرحالة الإيطالي ماركوا بولو الذي زار ظفار عام 1285م ، عن ازدهار تلك المدينة وجمالها وروعتها في كتاباته ، وقد أورد أن هناك حركة ملاحية نشطة مع الهند التي ينقل إليها التجار الخيول العربية مما يكسبهم مالاً وفيراً .وقد عثر خلال الحفريات التي جرت في البليد على الكثير من الأواني الفخارية ، بالإضافة إلى عدد من الأعمدة المنحوتة من العصر الجيري .جدد بناءها سنة 620هـ أحمد بن محمد الحبوضي بعد انتهاء حكم المنجويين في ظفار ، وأحاطها بأسوار كبيرة وتحصينات قوية ـ وبنى المسجد الكبير الذي يحدث عنه المؤرخون .

ولم يكتب أحد الرحالة بالتفصيل عن مدينة البليد سوى هـ .ج كارتر حيث أعطى وصفاً تفصيلياً لظفار البليد حينما كانت الأطلال ما زالت واضحة . كما أنه قام بعمل رسم لتخطيطها لكن الكثير مما شاهده كارتر قد اختفى الآن مع مرور السنين ، وهجر الناس هذه المدينة إلى مدن أخرى أنشئت لاحقاً مثل الحصيلة وصلالة .

وقد اشتهرت مدينة البليد في ذلك الوقت بالتجارة الكبيرة مع الهند والصين ، وكانت السفن التجارية تجوب هذه المناطق مثل صحار وظفار وصور وبعض المدن التجارية العمانية ، حيث ازدهرت مدينة البليد تجارياً وسميت بأسماء مثل المنصورة والأحمدية والقاهرة .ويقول بعض المؤرخين أنها أحيطت بأسوار عديدة ، وفيها أبواب عدة منها (باب الساحل) ويقع على البحر ، وبابان في الركن الشرقي من المدينة أحدهما يسمى (باب حراقة) ويصل إلى عين فرض ، وهي عين ماء عذبة أشار إليها بعض الرحالة ممن زاروا مدينة البليد الأثرية .

وهناك أيضا باب يسمى (الحرجاء) ويقع على الجانب المحاذي لمدينة الحافة الحالية ومنطقة العفيف ، وفيها قرية كانت تعتبر سوقاً في ذلك الوقت وتسمى (قرية الحرجاء) وكان لمدينة البليد تحصين جيد بواسطة أسوار وبوابات قد عثر على ثلاث منها فقط أثناء عمليات التنقيب التي قامت بها وزارة التراث القومي والثقافة في مطلع السبعينات وأوائل الثمانينات .

أما فيما يتعلق بالبوابة التي تقع في منتصف سور المدينة الذي يقع بدوره على طول شاطئ البحر ، فإنها غالباً ما تكون جزءاً من نظام معماري أكثر تعقيداً ، حيث يضم بوابة أخرى لتكون معاً ممراً منحنياً خلال السور .وقد كانت البليد تسمى قبل أن تتكون أثرياً بوقت طويل ، باسم (ساحل جردفون) وهي تسمية محلية باللغة (الشحرية) وتعني البقعة الجرداء .ومن المحتمل أن مدينة ظفار ( البليد ) في عصور ازدهارها كانت تضم الكثير من المنازل المنعزلة ، علاوة على العديد من الضواحي التي تمتد كثيراً فيما وراء حدود المنطقة السكنية الرئيسية التي سبق وأن أشير إليها آنفاً ، ولقد اختفت معظم آثار هذه الضواحي وذلك لعد من الأسباب ، منها التدمير والتعديل أو بسبب تداعيها بفعل الزمن وزحف النباتات .

ومن بين المعالم الهامة والبارزة في مدينة البليد الأثرية المسجد الكبير الذي تم بناؤه في تلك الفترة ، والذي ما يزيد على 183 عموداً وسارية حسب ما أكد باولو ام كوستا في دراسة لمدينة ظفار إذ قال :كان الرحالة الوحيد الذي زار ظفار قبل توماس وأعطى وصفاً للمسجد الكبير هو الرحالة هـ .ج كارتر وذلك في عام 1846 ، علما بأن رحالة وزواراً آخرين سبقوه في الزيارة لم يعطوا وصفاً لهذا المسجد ، من أمثال الرحالة (الموجان بنت) عام 1895م والرحالة (س.ب.مايلز) عام 1883م .

ولقد أثمرت عمليات الحفر والتنقيب التي أجريت اكتشاف أن المنافذ الرئيسية إلى المسجد ، كانت من خلال حائط القبلة وبالتالي فإن هذا الجانب من المبنى اعتبر واجهة المبنى وقد زينته نقوش وزخارف ، وبالعكس فإن الجانب الآخر والذي كان المفروض أن يكون المدخل الرئيسي إلى المسجد ، نظراً لكونه قريباً من منطقة الوضوء ، لم تتعد أبوابه بابين اثنين ، ولم يحتفظ المحراب الكبير بتفاصيله المعمارية وذلك لسوء حالته .ولم تثمر عمليات التنقيب والحفر إلا عن القليل من المعلومات التي تتعلق بالتفاصيل المعمارية والزخارف ، ويرجع السبب إلى أن الكثير من الأحجار والأعمدة والأشكال الهندسية المعمارية التي أخذت من منطقة البليد استخدمت في إنشاء مساجد أخرى في صلالة وعوقد والحصيلة ، رغم أن الزخارف الموجودة تعطي نوعاً من الانعكاس البعيد للأشكال الزخرفية التقليدية المنتشرة في جميع أنحاء العالم الإسلامي ، وعلى مدى فترة طويلة من الزمن .

ويمكن وصف عمليات البناء والتشييد على أنها ذات نشاط وحيوية وتتصف بطابع الرفاهية والزخارف البهيجة في الأوقات التي سادت فيها التأثيرات الأجنبية ، وهو الأمر غير المستغرب في مدينة ساحلية لها ميناء يتعامل مع مختلف البلدان .

وقد قامت اللجنة الوطنية للإشراف على مسح الآثار في السلطنة والتي يترأسها معالي عبد العزيز بن محمد الرواس مستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية، بجهود كبيرة لتنقيب وترميم وتطوير الآثار في مدينة البليد بالتعاون مع جامعة آخن الألمانية حيث تم تحويل هذا الموقع الأثري الهام إلى متنزه عام للزوار .

وقد تم رصف طريق داخلي في هذا الموقع للمشاة بطول 2200 متراً وتزويده بإنارة وغيرها من الوسائل الأخرى الضرورية للتنزه .كما قام مكتب معالي مستشار جلالته للشؤون الثقافية في السنوات الماضية بالعديد من التوسعات والإضافات واللمسات الأخرى لمنطقة البليد الأثرية من خلال الخبراء والمختصين في علم الآثار.

وقد تم افتتاح هذا الموقع الأثري منذ فترة بعد تهيئته لاستقبال الزوار لمشاهدة آثار هذه المدينة العمانية التاريخية والتعرف على معالمها العربية الإسلامية الأثرية العريقة، كما تم افتتاح متحف ارض اللبان في متنزه البليد منذ عدة سنوات. كما زار ظفار الكثير من الرحالة والباحثين والرحالة والمستشرقين الغربيين منذ القرن السابع عشر إلى القرن العشرين، بينهم برترام توماس، وباولو.أم.كوستا،وه.ج.كارتر،وماركو بولو،وموجان بنت،وفيليبس،وس.ب.مايلز .وغيرهم من الرحالة والباحثين.