حكمة أنقذت المنطقة من حريق هائل!!

د. عبدالحميد الموافي -

منذ الأحد قبل الماضي، الرابع والعشرين من نوفمبر عندما استيقظ العالم على نبأ التوصل الى اتفاق مبدئي في جنيف حول البرنامج النووي الإيراني، وهو ما يمكن وصفه باتفاق نزع الفتيل، والحديث لم يتوقف، عبر العديد من وسائل الاعلام والمجلات المتخصصة والمواقع الالكترونية وغيرها، حول الكيفية التي حدث بها هذا الاختراق المفاجئ، وحول الإسهام الذي قامت به السلطنة، وجلالة السلطان المعظم ذاته– وفق العديد من هذه الروايات– في تحقيق هذا النجاح الذي شعرت معه كل الاطراف تقريبا بالراحة والسرور. ولم يكن غريبا ان تنزعج اسرائيل من هذا الاختراق، او ان ينتقده نتانياهو ووزراؤه بالرغم من ان نتانياهو نفسه كان قد اخذ علما بجانب مما يجري تحت السطح، عندما اتصل به الرئيس الامريكي في شهر سبتمبر الماضي، حسبما ذكرت احدى الروايات الاسرائيلية.


وبالرغم من الحديث الواسع عن الاسهام العماني الايجابي في التمهيد لهذا النجاح، والروايات الغامضة حينا، او المستندة الى معلومات متناثرة بهذا الشأن حينا آخر، فإن مما له دلالة عميقة ان المعنيين بالامر لم يستهوهم او يجتذبهم هذا الحديث والتصفيق، بل ان معالي يوسف بن علوي بن عبدالله الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية حرص على اغلاق القناة العمانية في هذا الحديث كالعادة، ليس فقط لان العمانيين لا يحبون الحديث عن انفسهم، ويعزفون عن الظهور الاعلامي الذي يصطنعه البعض او يبحثون عنه احيانا، ولكن ايضا لأن الامتلاء العماني، التاريخي والحضاري وفي مجال التعامل والاسهام في شؤون المنطقة، يجعل العمانيين ينظرون الى ما حدث– وهو انجاز كبير- على انه امر طبيعي من جانبهم، وان اسهامهم هو من منطلق الايمان العميق بأهمية وضرورة بذل كل ما يمكن لتحقيق سلام المنطقة واستقرارها. وان النجاح لا يدير رؤوسهم ولا ينسيهم التزامهم القوي بأسلوبهم وطريقتهم في التعاطي مع مختلف التطورات والاحداث من حولهم. ومع ان امتنان الآخرين، بشكل مباشر وغير مباشر، هو امر طيب، لأنه يؤكد ادراكهم وتقديرهم لاهمية وقيمة ما حدث والجهود التي بذلت، الا ان ذلك يظل أمرا ثانويا لأن هناك ما هو أكثر أهمية بالنسبة لشعوب هذه المنطقة الحيوية. وفي هذا الاطار فإنه يمكن الاشارة باختصار شديد الى عدد من الجوانب لعل من اهمها ما يلي:

** أولا: إن المفاجأة الكبيرة فيما حدث تتمثل في الانتقال من حافة الصدام والاقتراب من امكانية تعرض المنطقة لحريق هائل، وذلك في ضوء التصريحات الاسرائيلية المحرضة على ضرب ايران، والمحاولات المتواصلة لحكومات اسرائيل على مدى العقد الاخير لدفع واشنطن للتورط في ضرب المنشآت النووية الايرانية، الى اتفاق تدرك كل الاطراف انه سيكون له ما بعده. وانه بقدر ما يبتعد بالمنطقة عن حافة الصدام، وبقدر ما يقلل من فرص اشتعال الحريق، بقدر ما يحمل من فرص جديدة لاوضاع ومصالح ومعطيات تنتظرها المنطقة في الواقع، حتى يمكنها الاتجاه الى بناء حياة افضل لشعوبها. ولأن هذه النقلة النوعية الكبيرة، والمفاجئة لا يمكن ان تتم خلال جلسة او بضع جلسات من المفاوضات بين إيران والدول الست الكبرى، لأن الاختراق الكبير– كما حدث – يحتاج لمعطيات من نوع آخر وإلى قدرة على الثقة في تجاوز رواسب الماضي او على الاقل الاستعداد لذلك، فانه كان من الطبيعي أن يسعى الكثيرون إلى التفتيش وراء ما حدث، لمعرفة الطرف الذي استطاع حمل الجانبين الامريكي والايراني تحديدا على الوصول الى حيث لم يتوقع الكثيرون، او على الاقل تشجيعهما على الاقتراب المتبادل والثقة فيما يتخذه كل منهما من خطوات على طريق الالتقاء.

وبدون الدخول في أية تفاصيل فإنه ينبغي الاشارة الى نقطتين اساسيتين: اولهما ان القيادة العمانية تتمتع بمكانة وثقة عميقة من جانب كل الاطراف الاقليمية والدولية، وانها تمتلك رصيدا كبيرا من المصداقية لدى كل الاطراف، ليس فقط كوسيط نزيه ومخلص، ولكن ايضا كطرف امين لا يرغب ولا يسعي– تحت أي ظرف– للاستفادة الذاتية مما يقوم به من مساعٍ او جهود لصالح سلام المنطقة واستقرارها. ولم يكن مصادفة ان تكون القناة العمانية اكثر القنوات التي تلتقي عندها مختلف الاطراف وتثق في جهودها ومساعيها الحميدة. والامثلة في هذا المجال اكثر من ان تحصى، بما في ذلك على صعيد العلاقات الامريكية الايرانية. اما النقطة الثانية فانها تتمثل في ان السلطنة لم تكن ابدا بمثابة “صندوق بريد”، كما انها لم تكن ابدا بقعة “معزولة” على طرف شبه الجزيرة العربية، ولكنها كانت دوما، وخاصة في ظل قيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم– حفظه الله ورعاه– طرفا له رؤيته وتقييمه للاوضاع والتطورات في المنطقة ومن حولها، وله اسهامه الايجابي والملموس في كل ما يمكن ان يعود بالخير على دولها وشعوبها جميعها ايضا. كما انها كانت الارض والجهة التي يلتقي عندها وفيها الاطراف المختلفة، خليجية وعربية واقليمية ودولية، في الكثير من الاحيان، والقائمة طويلة في هذا المجال، وبرغم ذلك لم تتحدث عمان ابدا عن هذا الجانب الايجابي والنشط والفعال في دبلوماسيتها ومساعيها على اعلى المستويات. ولكن النتائج تتحدث دوما عن نفسها، وتشير بوضوح الى من اسهم في انجاحها، بقدر اشارتها في بعض الاحيان الى من حاول عرقلتها. والجميل في الجهد العماني، المؤمن بالسلام والعامل من اجله، انه لا يطلب ثمنا، ولا ينتظر عائدا من وراء ذلك، فالسلطنة اعتادت ان تقوم بما تراه مناسبا وضروريا، لصالح اصدقائها والمنطقة، عندما تتيقن ان الظروف والاطراف المعنية مهيأة لذلك. ولم تكن الاشارة الى “ربط الخيول” مصادفة قبل نحو عامين. وقد تم ربط الخيول بالفعل بحكمة وابعاد المنطقة عن حافة الخطر الى حد غير قليل على الاقل.

** ثانيا: انه اذا كان الاسهام العماني قد هيأ للطرفين الايراني والامريكي الفهم والادراك الصحيح لمواقف واهداف الطرف الآخر، ولمخاوفه ايضا، فإن ما تم التوصل اليه عبر المفاوضات هي في الواقع مسؤولية الطرفين وحدهما بالطبع. ومعروف ان نتائج اية مفاوضات تعبر بدرجة كبيرة عن اوراق كل طرف وما يملكه من عناصر قوة، وعن مدى قدرته على توظيف ذلك لصالحه في النهاية. ويمكن القول ان المفاوضات الامريكية الايرانية الثنائية، متعددة المراحل والمستويات، والتي توجت بمفاوضات ايران مع مجموعة (5 +1) قد وضعت ايران والولايات المتحدة بوجه خاص، والمنطقة بوجه عام امام منعطف تاريخي يؤثر بالضرورة على حاضرها ومستقبلها، خاصة اذا تم تحويل الاتفاق المبدئي الى اتفاق نهائي خلال عام، وسوف تبدأ المفاوضات بين طهران والدول الست بهذا الشأن الاسبوع القادم. ومع الوضع في الاعتبار ما يتصل بالجانبين الايراني والامريكي بوجه خاص، وما يتصل بمواقف ومصالح الاطراف الاخرى، اقليمية ودولية، فانه ليس من المبالغة في شيء القول: إن مصالح كل الاطراف– ودون استثناء– تتمثل في نجاح الاتفاق المبدئي الذي تم التوصل اليه في 24 نوفمبر الماضي. ومع ادراك ان الصراخ الاسرائيلي سيخفت على الارجح، خاصة اذا نجح اوباما في طمأنة نتانياهو بشكل او بآخر، فإن الاتفاق يشكل قاعدة او ركيزة تطلعت اليها وترغب فيها كل من طهران وواشنطن من زاويتين مختلفتين وفق مصالح وأولويات كل منهما. ففي حين يسهم الاتفاق في سير واشنطن نحو الالتزام بسياسة اوباما التي اكد عليها والمتمثلة في عدم الدخول في حروب اخرى في المنطقة، واعادة الجنود الامريكيين الى بلادهم، والتركيز بشكل اكبر على شرق اسيا والباسفيكي، دون الانسحاب من الشرق الاوسط، وافساح المجال امام الدفع بالشرق الاوسط الى آفاق وصيغ جديدة، ستتكامل على الارجح خلال السنوات القادمة، فان الاتفاق على الجانب الايراني أرضى التطلع والشعور الوطني الايراني عبر التسليم بقيام ايران بتخصيب اليورانيوم على اراضيها بنسبة لاتتجاوز 5% وهذه النقطة تحديدا بالغة الاهمية لايران سياسيا ونفسيا ووطنيا ايضا من ناحية، كما انه سيفتح المجال امام تخفيف العقوبات التي اضرت بالاقتصاد والمواطن الايراني الى حد كبير، ومن ثم فإنه يتيح لإيران مواصلة برنامجها النووي بضوابط تطمئن الغرب والعالم بشأن سلمية برنامجها، ويسمح لها في الوقت ذاته بالتقاط انفاسها والتخلص من العقوبات ومعاودة الانطلاق بقوة على طريق التقدم، وهو ما يمكنها في النهاية من السير نحو اهدافها في مختلف المجالات. واذا كان العلم الذي يكتسبه الفرد او الدولة، لا يمكن انتزاعه، فان من حق ايران ان تنعم بما حققته من كسب علمي، في أي مجال من المجالات، ودون تهديد للآخرين على اي نحو، وعلى الآخرين ان يسعوا جاهدين من اجل تطوير كفاءاتهم وقدراتهم العلمية وتوظيفها لخدمة مصالحهم واهدافهم القريبة والبعيدة. فحفظ الامن يبدأ اولا من الاعتماد على الذات، اما إلقاء المسؤولية على الآخرين والاعتماد عليهم، فانه بمثابة السراب في مجال السياسة الدولية. وقد قدمت ايران نموذجا يحتذى به في هذا المجال، وهو أمر لا يمكن انكاره او التقليل من اهميته.