الدور الفرنسي المتغير شرق أوسطيا

إميل أمين -

كاتب مصري -

ما الذي يجري على صعيد الدبلوماسية الفرنسية شرق أوسطيا وإفريقيا في الأشهر القليلة المنصرمة؟

حكما أن المراقب لتحركات وتصريحات الدبلوماسية الفرنسية يدهشه بعض تلك المواقف التي تعد بالفعل غريبة عن السياقات التاريخية للتوجهات الفرنسية، ومن بين تلك المواقف، تعنتها إزاء التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الخمس من جهة وبين إيران من جهة على صعيد الملف النووي الإيراني، فقد أبدت نوعا من التشدد، أدى إلى اندهاش سلبي من قبل المراقبين الدوليين، إذ فاقت في تصلبها الموقف الأمريكي نفسه.

وعلى صعيد آخر نرى فرنسا تعود من جديد إلى الداخل الإفريقي عبر استخدام أدواتها العسكرية، وقد كانت زيارة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الأخيرة لإسرائيل بدورها مبعثا للكثير من التساؤلات عن الدور الفرنسي الجديد في الشرق الأوسط … ماذا عن ذلك؟

المعروف تاريخيا أن الدور الفرنسي لا سيما تجاه قضية النزاع العربي ـ الإسرائيلي، كان دائما يتسم بالعقلانية والتوازن ولذلك كانت الأوساط العربية سواء النخبة أو العوام, ينظرون لفرنسا نظرة ذات اعتبار واحترام في الوقت نفسه، وربما تبدت من هنا المفارقة مؤخرا وبات السؤال ما الذي يريده الفرنسيون، وهل تغيرت وجهتهم الاستراتيجية تجاه العالم العربي والإفريقي أم أن هناك موجة من اللااتزان الدبلوماسي تعتري الجسد الفرنسي المريض والتعبير هنا للقطب الاشتراكي الفرنسي الكبير البروفيسور ميشيل روكار رئيس وزراء فرنسيا سابقا؟

بداية يمكن القطع بأن حالة التوازنات الدولية ربما أجبرت فرنسا مؤخرا على تغيير بعض من مساراتها التقليدية فالشرق الأوسط يحمل علامات جديدة مختلفة بما كان سائدا طوال عقود، فالدور الأمريكي كما هو واضح للعيان في تراجع مستمر والدبلوماسية الأمريكية تفقد يوما تلو الآخر زخمها في المنطقة، وفي الوقت نفسه نجد الدبلوماسية الروسية تعود بعد غياب ناهز العقود الثلاثة لتملأ فراغا كبيرا خلفته وراءها، وهنا بدأت فرنسا تتحرك على عدة أصعدة وملفات متباينة، وكذلك مواقفها منها بدت مختلفة، فقد رأيناها في الملف الفلسطيني – الإسرائيلي، ورأينا تشددها في الملفين السوري والإيراني على التوالي.

في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي كان هولاند واضحا في قضية الموقف من الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، حيث قال: «يجب وقف الاستيطان بشكل كامل ونهائي. معتبرا أنه يقوض فرص التوصل إلى اتفاق سلام وحل الدولتين، وأن القدس يجب أن تكون عاصمة لهاتين الدولتين».

والشاهد أن الموقف يعد إيجابيا وتقدميا في الوقت عينه وربما يجد أصداء طيبة في العوالم والعواصم العربية، غير ان مواقف فرنسا المتشددة من سوريا وإيران تُوجد علامة استفهام معاكسة. ففي سوريا كانت فرنسا قوة دفع ناحية الحرب وهو الموقف الذي عارضته بقوة روسيا، ولاحقا استطاعت عبر صفقة الأسلحة الكيماوية مع الولايات المتحدة الأمريكية إبطاء سياقات المواجهات العسكرية لصالح الحلول الدبلوماسية، وهو أمر لم يلق هوى أو رضا عند الفرنسيين، وكأنهم كانوا يسعون إلى إعلان الحرب على سوريا بأي ثمن وبأي تكلفة.

أما على صعيد الملف النووي الإيراني، فإن الرئيس الفرنسي كان دائما يؤكد على أن العقوبات المفروضة على إيران ستظل قائمة حتى تنبذ بلا رجعة البرنامج النووي العسكري وأن فرنسا لن تسمح لإيران بالتزود بالسلاح النووي، وأن الأمر يرجع إلى إيران لتستجيب ليس فقط بالكلمات أو التعهدات الغامضة بل بإجراءات ملموسة. وغير خاف على أحد أنها عرقلت من قبل التوصل إلى اتفاق بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد، ولاحقا لم تبد رضاها عن اتفاقية جنيف، ما السبب وراء هذه المواقف الفرنسية غير المعتادة والتي تنزع إلى التعنت لا الليونة واليسر؟

قبل المواقف من سوريا وإيران لا يمكن للمحلل السياسي أن يغفل مشهد فرنسا رأس حربة حلف الناتو في ذاك الذي جرى في ليبيا فقد قادت ولا شك الهجومات التي أسقطت رئيس ليبيا السابق معمر القذافي، ولاحقا لعبت دورا أوليا في التدخل العسكري في مالي، وبدأ وكأنه في الوقت الذي تتخلى فيه واشنطن عن دورها كشرطي للعالم، تحاول فرنسا أن تحل محلها في لعب هذا الدور والسؤال هنا: «لماذا ثم كيف»؟.

يمكن للمرء أن يشتم رائحة العودة للدبلوماسية الفرنسية في عهد زعيم فرنسا الأشهر الجنرال «شارل ديجول» والذي عمل طويلا على أن لا تعتمد بلاده على الآخرين في الساحة الدولية التي تهيمن عليها الحرب الباردة، وقد أبعد ديجول بالفعل فرنسا عن العملاقين السوفييتي والأمريكي وكذلك عن إسرائيل، واستمرت هذه السياسة في ظل رئاسة الرئيس الاشتراكي الراحل فرنسوا ميتران في الثمانينات والتسعينات، وبلغت ذروتها في 2003 عندما رفض الرئيس جاك شيراك المشاركة في غزو العراق… ما الذي تغير إذن؟.

ربما ظهور أجيال دبلوماسية جديدة في فرنسا تميل إلى ناحية اليمين وتتعاطف مع الولايات المتحدة الأمريكية بنحو خاص، سواء داخل قصر الأليزية أو في الخارجية والجيش والاستخبارات الفرنسية، وهذا ما تبدى بشكل واضح جدا في مواقف كل من نيكولا ساركوزي ومن بعده فرنسوا هولاند، وغير خاف على أحد أن مواقفهما تلقى تشجيعا عاليا من رجالات المحافظين الأمريكيين، وبقية السياسيين الجمهوريين المتشددين، فعلى سبيل المثال كتب السنياتور الأمريكي الجمهوري جون ماكين أحد الذين يرفضون الحلول الدبلوماسية مع إيران، تغريدة عبر وسائط الاتصال الاجتماعية، مفاخرا فيها بمواقف فرنسا من اتفاقية جنيف الأخيرة يقول فيها «عاشت فرنسا».

هل تسعى فرنسا عبر هذه المواقف المتشددة إلى حماية مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط؟

ربما يكون ذلك كذلك بالفعل وهذا أمر يتطلب منها توازنات دقيقة للغاية في سياساتها تجاه منطقة مشتعلة بخلافات عقائدية ولوجستية، ومليئة بملفات أقرب إلى الألغام قابلة للاشتعال في أية لحظة، وفي الوقت الذي ترتبط فيه مع إسرائيل بعلاقات وثيقة فإنها أيضا ترتبط بدول الخليج لا سيما المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة بعلاقات قوية.

وفي كل الأحوال يمكن القول وإن لم تكن فرنسا بنفس قوة وقدرة الدبلوماسية أو العسكرية الأمريكية، في الشرق الأوسط أو حول العالم، فإن فرنسا تستطيع بدرجة أو بأخرى أن تلعب دورا أكثر ديناميكية وفعالية وإيجابية عن غيرها من العواصم الأوروبية على نحو خاص.

هل يعني ما تقدم أن فرنسا تراجعت عن ثوابتها في الشرق الأدنى والأوسط والأقصى؟

ترى بعض الأصوات الأكاديمية والإعلامية الفرنسية أن مواقف فرنسا الأخيرة تفوت عليها فرصة، وكذلك تفوقها على شركائها، فرصة كان يمكن لها أن تستثمرها جيدا وجديا لو أنها كفت عن اتباع منهج يؤدي بسياساتها الدولية شأن سياساتها الداخلية إلى الانغلاق إن لم نقل التناقض.

خذ إليك على سبيل المثال مواقفها من إيران، فدبلوماسية فرنسا لم تر أن الانتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة قد جاءت برئيس يريد انفتاحا حقيقيا لبلاده على العالم، وأنه يعد رئيسا إصلاحيا بالفعل وتأمل كثير من دول العالم أن تقتفي فيها إيران، أي في فرصة الرئيس الجديد، أثار فترة حكم محمد خاتمي التي أطلق عليها تسمية فترة حكم الإصلاحيين.

لكن عوضا عن ذلك يبدو أن دبلوماسية فرنسا الراهنة تفتقد الانخراط في سياقها التاريخي الذي قام على محاولة ارتياد آفاق جديدة واعتماد طرق ثالثة بغرض استئناف مفاوضات متعثرة وإجراء اتصالات في الكواليس، واقتراح مبادرات، والتزام مواقف متماسكة يمكن قراءتها بوضوح على ضوء تطورات الأحداث المتلاحقة… هل وصلت عدوى البراجماتية السياسية الأمريكية المعهودة إلى نظيرتها الفرنسية؟

بل ربما فاقت الثانية الأولى، وهنا يرى الدكتور مصطفى اللباد، الخبير في الشأن الإيراني أن فرنسا وسعيا وراء مصالحها الخاصة كانت بالفعل وراء محاولات تعطيل الاتفاق النووي الإيراني ـ الغربي الأخير… كيف ذلك؟

لمن تابع الأحداث فإن وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس لعب دورا سياسيا في تعطيل الاتفاق، إذ سرب تفاصيل تفاوضية مهمة للصحفيين عند وصوله إلى جنيف، ثم عاد وخرق البروتوكول عندما كشف في مؤتمر صحفي فشل الجولة الأخيرة من المفاوضات وذلك قبل المؤتمر الصحفي المشترك لمنسقة الشؤون الخارجية الأوروبية «كاترين اشتون» ووزير الخارجية الإيراني «محمد جواد ظريف» في ختام جولة المباحثات.. هل هذا كل شيء؟

الثابت أن التعطيل الفرنسي لم يتوقف عن ذلك، فقد أخذ فابيوس على مسودة الاتفاق أنها صيغت إيرانيا وأمريكيا، وأنه لا يريد أن يصبح مجرد شاهد على الاتفاق. فقد آثار فابيوس نقطتين أساسيتين: الأولى أن بلاده لا تريد أن تستكمل إيران البناء في مفاعل آراك، الذي يعمل بالمياه الثقيلة، أثناء فترة المفاوضات النهائية، والمتوقع لها وقتها أن تبلغ ستة أشهر بعد التوقيع على «اتفاق الإطار»، والثانية أن فرنسا تريد الحصول على مكاسب من تحويل اليورانيوم الإيراني المخصب لدرجة عشرين بالمائة إلى قضبان نووية تصلح للاستخدامات الطبية والزراعية حصرا وهي تقنية تملكها فرنسا وحدها.

هل كانت إسرائيل وراء المواقف المتعنتة الفرنسية لا سيما موقفها من الاتفاق النووي الإيراني؟

يرى البعض أن السلوك الفرنسي محكوم باللوبي الإسرائيلي القوي في باريس، ووفقا لببعض وسائل الإعلام الإسرائيلية والفرنسية فإن اتصال عضو البرلمان الفرنسي «مائير حبيب» الذي يحمل جواز سفر إسرائيلي أيضا، والمتحدث الرسمي السابق باسم حزب الليكود في فرنسا وصديق بنيامين نتانياهو، بوزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس قد ساعد في تصلب المواقف الفرنسية، إذ قال له إن إسرائيل سوف تهاجم المنشآت النووية الإيرانية في حال عقد الصفقة الحالية الموجودة على الطاولة.

«مائير حبيب هو نائب رئيس «الهيئة التمثيلية للمؤسسات اليهودية في فرنسا»، وهي المكافئ الفرنسي لـ«لجنة العلاقات العامة الأمريكية الإسرائيلية «(أيباك). كما أن كاتب خطابات وخطب الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في الظل هو أيضا عضو في الهيئة المشار إليها.

ولهذا قام فابيوس بإثارة المخاوف الأمنية الإسرائيلية في عرقلة جنيف، في حين كان الرئيس الإيراني حسن روحاني ووزير الخارجية محمد ظريف قلقين من التعرض للعرقلة من قبل المعارضة الداخلية المتمثلة في «الحرس الثوري الإسلامي» المتشدد، ولذلك كان مطلبهما الأول عدم تسريب أية تفاصيل عن الصفقة أثناء المفاوضات، وهذا ما فعله فابيوس بالضبط، فقبل أن يهبط كيري في جنيف، كان فابيوس يصرح لمحطة إذاعية فرنسية بأن باريس لن تقبل بما أطلق عليه «لعبة الأغبياء».

هل ما نراه من تحركات دبلوماسية فرنسية تكاد تبدو متناقضة يكمن خلفها دوافع اقتصادية ومالية؟

يمكن قطعا القول إن فرنسا تسعى إلى ترميم مصداقيتها في العمل كقوة كبرى في منطقة نفوذها التقليدي تاريخيا، وبخاصة في إفريقيا، وهذا ما رأيناه من خلال تدخلها العسكري في مالي، وفي ذلك هي تحاول تعويض أزمتها الاقتصادية الداخلية، وتراجع مكانتها الأوروبية لصالح غريمتها التاريخية ألمانيا.

في هذا الإطار تذهب بعض الأصوات إلى أن التعنت الفرنسي تجاه إيران تقف وراءه دوافع اقتصادية تتمثل في الخسائر التي حاقت ببعض شركاتها مثل «بيجو» من جراء العقوبات الاقتصادية التى فرضت على إيران من جهة، ومن جهة ثانية فإن هناك دولاً أخرى تلوح لفرنسا بنصيب وافر من كعكة بناء محطات نووية في منطقة الخليج العربية، وهذه قصة قائمة بذاتها.

يقر البروفيسور «ميشيل روكار» الزعيم الأسبق للحزب الاشتراكي الفرنسي، ورئيس وزراء فرنسا الأسبق أن فرنسا تعاني مرضا عضالا وهي مريضة في واقع الأمر إلى الحد الذي دفع مؤسسة ستاندر آندبورز» أخيرا إلى خفض تضنيفها الائتماني السيادي، وهو ثاني خفض لتصنيف البلاد في أقل من سنتين.

ويرى كذلك أن الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد تعمل على عرقلة مساعي الحكومة الرامية إلى تنفيذ الإصلاحات الصعبة، وقد برهن زعماء فرنسا على عجزهم عن نقل خبرات الماضي بفعالية أو تطبيقها في تحليل التهديدات الحالية.

وبدلا من ذلك، لجأ قادة فرنسا إلى تكتيكات التضليل من خلال الانهماك في معارك خطابية مبالغ فيها حول خلافات طفيفة. ولكن لا يمكنهم أن يتجاهلوا مشاكلهم إلى الأبد، وقد تكون العواقب المترتبة على تأخير الإصلاحات التي تحتاج إليها فرنسا مأساوية.

لقرون طويلة مثلت فرنسا للعالم العربي رمز الحرية والعدالة والمساواة والإخاء فهل من مصلحتها أن تتغير هذه الصورة في عيوب العرب والشرق أوسطيين؟