القدس: خواطر قانونية تفاوضية بشأن القدس!!

في زاوية أقلام وآراء كتب المحامي إبراهيم شعبان مقالا بعنوان: خواطر قانونية تفاوضية بشأن القدس!! ، جاء فيه: تدور مفاوضات سرية حثيثة بين الجانبين الفلسطيني الإسرائيلي منذ فترة يتوقع انتهاؤها قريبا. وتحظى هذه المفاوضات المصيرية برعاية الولايات المتحدة الأمريكية وبرعاية مباشرة من وزير خارجيتها جون كيري. وقد خطر لي كمواطن مقدسي أن أبث القراء جريدة «القدس» ببعض الخواطر القانونية في الشأن المقدسي على وجه التحديد، والتي يجب أن لا تنسى مهما كانت قوة إسرائيل العسكرية والاقتصادية. وهذه مجرد خواطر وإرهاصات قانونية تعّن على خاطري وليست دراسات أو أبحاثا.

لقد شكلت مدينة القدس منذ قديم الأزل مطمعا ومسرحا للغزاة والفاتحين، ومثالا لزعزعة الحكم وضعفه، ومظهرا من مظاهر الاضطراب والفوضى السياسيين. هذا الوضع تغير رأسا على عقب منذ قدوم الفتح العربي الإسلامي لمدينة القدس عام 626 ميلادي الموافق لعام 15 هجريا. فقد سادها الحكم العربي المسلم المستقر السلمي الفعال الهادئ الحائز غير المنازع، ودليل ذلك تلك الكمية من الآثار الإسلامية الهائلة الشاهدة على غنى هذا الحكم الرشيد.

ظلت مدينة القدس عربية إسلامية طيلة ذلك الوقت، حيث سكنها وتعاقب عليها العرب المسلمون بدءا من الخلفاء الراشدين مرورا بالأمويين والعباسيين والطولونيين والإخشيديين والفاطميين والسلجوقيين والمملوكيين وانتهاء بالعثمانيين. ولم يعكر صفو هذه السلسلة سوى الغزوة الصليبية قديما والغزوة العبرية حديثا.

إثر معاهدة لوزان عام 1923 وقبلها تفككت أراضي الدولة العثمانية وتوارت أقاليمها وأقانيمها وسيادتها تحت انتداب بريطاني وفرنسي، عصفت بالقدس رياح سوداء من خلال إعلان وعد بلفور 1917 أو من خلال قرار الانتداب البريطاني عام 1922 أو عبر قرار تدويل القدس عام 1947 وقرار 181.

بقيت مدينة القدس بعد عام 1948 رغم توحدها مع الإقليم الأردني تواقة بانتظار حل يكفل الأمن والاستقرار والعدالة لمواطنيها، ولمكانتها الروحية والوطنية والدينية. فهي لم تشكل العاصمة السياسية ولا مركز الإدارة الرئيس في المملكة الأردنية الهاشمية. لكنها كانت خاضعة وملتزمة بمنظومة القوانين الأردنية مثلها مثل بقية المدن الأردنية كجزء لا يتجزأ من الدولة الأردنية. فكان لها نوابها ومحافظها وموظفوها ومحاكمها وقضاتها وأمانتها البلدية. وبقي هذا الوضع إلى الخامس من يونيو من عام 1967.

اشتدت الرياح السوداء عصفا بعد حرب يونيو من عام 1947 حينما احتل الجيش الإسرائيلي كامل مدينة القدس بشقيها الشرقي والغربي، وسيطر على كل مرافق المدينة ومقدساتها، وفرض سيطرته الفعلية عليها، حينما قام بضمها إلى دولته عبر تعديل لذيل قانون البلديات في 28 /06/ 1967 ولاحقا عبر قانون للكنيست الإسرائيلي عام 1980. وكان من المفروض أن تطبق إسرائيل اتفاقية لاهاي الرابعة لعام 1907 واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 على القدس والمقدسيين، ولكنها ضربت عرض الحائط بالقانون الدولي الإنساني وقررت ضم القدس العربية إليها التي وسعوها أحد عشر ضعفا عن مساحتها الأردنية، رغم أن الضم باطل ولاغ وفق قواعد القانون الدولي. وغدا المقدسيون والقدس تحت رحمة قوة القانون الإسرائيلي فعليا. وأيدت محكمة العدل العليا الإسرائيلية الضم الإسرائيلي للقدس مبكرا وما زالت . وبذا دمرت حارة المغاربة كليا ببيوتها الخمسمائة، وأزيلت من الوجود، وقذف بسكانها إلى النزوح والهجرة والعراء، وتم خلق ساحة أمام حائط البراق. وقبر قانون الانتداب البريطاني الثلاثيني إلى غير رجعة، الذي يقرر أن حائط البراق ملك إسلامي خالص وأن حق اليهود فيه ما هو إلا رخصة إسلامية لممارسة حريتهم الدينية بقدر ما يجيزه المسلمون. وها هي مخططات البناء فيه والحفريات فيه تتحدى اليونسكو والمسلمين والعرب وقواعد القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة.

استولت السلطة الإسرائيلية المحتلة على جميع مظاهر النشاط الرسمي السيادي الأردني، فوضعت يدها على مجمع المحاكم والمحافظة ووزارة العدل وجميع المدارس ومقار وزارة الصحة والأمن والشرطة والبرق والبريد والهاتف. وألغت محكمة القدس الشرعية الابتدائية والإستئنافية وأغلقت المصارف العربية وجمدت أموالها.

وألغت بلدية القدس العربية ومجلسها البلدي بل أبعدت كثيرا من أعضائه لخارج الوطن. ومدت اختصاص مجلس بلدية القدس الإسرائيلية لشرقي القدس. واعتبرت أبناء القدس مقيمين وليسوا بمواطنين. وما لبثت أن بدأت بسحب هوياتهم لأنهم فقدوا حق الإقامة في القدس. وتهدم منازلهم بحجة البناء بدون ترخيص، وتحبسهم لعدم دفع الضرائب والرسوم وأخذت منازلهم وعقاراتهم عبر تطبيق ما يسمى قانون حارس أملاك الغائبين.

وفي ظل الاحتلال الإسرائيلي الطويل الأجل والذي يقارب الخمسة العقود، وإجراءاته الفعلية وسيطرته وقوته وسلطته، خيل للبعض أن السيطرة الإسرائيلية نوع من السيادة. وخلطوا بين السيادة المشروعة وبين السلطة غير المشروعة التي تستند إلى القوة المسلحة وحدها. ونسي الإسرائيليون وغيرهم أن الاحتلال العسكري ذو طبيعة مؤقتة ليس به ذرة واحدة من ذرات السيادة ولا يتصل به ولا يناقشها، والسيادة كامنة في الشعب الفلسطيني وملتصقة به دون سواه مهما غير المحتل من أوضاع وظروف وشوارع وطرق وبنى ودمر. ومهما غيروا التسميات المخادعة من سيادة فوقية وسيادة تحتية وسيادة إلهية وحوض مقدس وعاصمة أبدية. ومهما حاول الفقه الإسرائيلي من وضع نظريات مثل فراغ السيادة ووصاية المحتل، فلن يجدي ذلك سبيلا. فالقوة العسكرية والحرب وسيلتان محظورتان وليستا سببا قانونيا كافيا لمشروعية كسب ملكية إقليم ما. صحيح أن هذا الاحتلال من أغنى الإحتلالات وأطولها زمنا إلا أن ذلك لا يجعل منه شرعيا ولا يجعل من إجراءاته إجراءات شرعية بل تبقى باطلة ولاغية. ويجب أن يطبق القانون الأردني الذي كان مطبقا عشية الخامس من يونيو من عام 1967 طيلة فترة الاحتلال فالمحتل لا يملك قوة التشريع ولا صلاحيته وإن لم يكف القانون الأردني فتطبق مواثيق حقوق الإنسان على أهل القدس وليس القانون الإسرائيلي.

وعليه فجميع عمليات الاستيطان في القدس العربية غير مشروعة بغض النظر عن الإسناد المزعوم لكسب الملكية العقارية. ذلك أن كل نقل ملكية في القدس القديمة كان مربوطا بموافقة مجلس الوزراء الأردني. فضلا عن أن ذلك يشكل مخالفة صريحة للمادة 46 من اتفاقية جنيف الرابعة وبخاصة فقرتها الأخيرة. واستيلاء إسرائيل الرسمية أو أفرادها أو جمعياتها أو حركاتها على أملاك الفلسطينيين وعقاراتهم ومنازلهم وأراضيهم عبر حارس أملاك الغائبين أو ما يسمى قانون حماية المستأجر لعام 1968 الذي يجيز بيع حق الحماية أو عبر الشراء المزعوم من الأفراد لا يشكل أمرا مشروعا على الإطلاق. وحفرياتهم وأنفاقهم وآثارهم ليس لها وجود قانوني وجمعيات مثل ألعاد وهيمنوتا يفترض أن نشاطها غير شرعي وأعمالها وعقودها غير شرعية مهما حاولت تجميل نفسها عير عقود واتفاقات. والأصل ما كان موجودا في الخامس من حزيران عام 1967 وليس للأمر الواقع الحالي أية صلة بالمشروعية مهما زين أو جمل. فأراضي اللطرون وعمواس وقبية ويالو والمنطقة الحرام والحمة وحارة الشرف هي أراض فلسطينية مهما امتدت يد التغيير إليها.

والغريب أن إسرائيل أجازت لليهود استرداد أملاكهم في القدس الشرقية قبل عام 1948 ولكنها بالمقابل حظرت على الفلسطينيين المقدسيين استرداد أملاكهم في غربي القدس بدون سبب قانوني رغم أن هذا الحق هو حق فردي خاص لا يقبل التصرف والبيع والتأجير والرهن والهبة والتبرع والاستثمار إلا بموافقة صاحبه أو وكيله ،بكل ما يحمل ذلك من معنى. وطردت إسرائيل خمسة عشر ألفا من سكان القدس ومنعتهم من حقوقهم الطبيعية الإنسانية، ومنعت تزاوجهم مع شعبهم الفلسطيني الضفاوي الغزاوي، وبالقطع مع من هم لاجئو سوريا أو لبنان. ومنعت حتى تسجيل أطفالهم في قيودهم.

هذه خواطر غير جامعة ولا مانعة عبرت أفق خيالي في القدس وجنباتها. فهناك غيرها وتفصيلات كثيرة متناثرة هنا وهناك وهي مهمة المفاوض. فالهجمة الإسرائيلية على زهرة المدائن اكبر من أن يتصدى لها المفاوض الفلسطيني لوحده، فهو يحتاج لكثير من المساندة والمعاضدة والدعم.

كان الله في عون المفاوض الفلسطيني إذا دخل للتفاصيل والجزئيات في موضوع القدس، فالكليات أسلم وأفضل، والاستقامة هي السياسة الفضلى.