بيروت ـ جورج جحا “رويترز”: يكتب الروائي السعودي طاهر الزهراني في عمله الذي حمل عنوانا هو (أطفال السبيل) بمزيج من الواقعية والرمزية عن عالم يختلط فيه الفقر والتعاسة ويقيم مفارقة بين غراب يسعى الى التعالي وبين هذا العالم الذي يغوص في بؤسه.
وقد كتب الناشر عن هذا العالم وهو منطقة “السبيل” فقال “كيف يبدو “السبيل” من فوق؟ ينظر الغراب أولا وهو يفتش عن جيفة ما فيرى “السبيل” بدقائقه وتفاصيله ويصفه لنا. ثم في رحلة السقوط (الموت) كذلك. وما بين صعود الغراب وسقوطه يروي لنا المؤلف قصة حياته في السبيل منذ طفولته الى بلوغه وقصة حبه الفاشل وآماله وخيباته.
الرابط بين رؤية الغراب وصعوده وسقوطه و”السبيل” وقصة حياة الراوي يفصح عنه المؤلف في نهاية روايته فيقول: “اما السبيل فهو مكان للخردة، الخردة التي تجتاح كل مكان بواطن الدور وظواهرها. الخردة تمثل حقيقة حالنا خيباتنا وآمالنا الصدئة.”
يضيف في استرجاع الى أفكار وآراء في الانسان وتطوره منذ صغره “يولد الطفل بريئا (ملاكا) ثم يكبر فلا يعود للبياض معنى فالطهر والجمال والحب والبراءة كلمات كنا نعيها عندما كنا ملائكة ويصعب أن نتحلى بالطهر ونحن على الارض.. انا بشر مشوه بالكبر والشهوة يرجو العروج ويتخبط في الطين.”
وقد جاءت الرواية في 156 صفحة متوسطة القطع وصدرت عن دار (رياض الريس للكتب والنشر) في بيروت.
ولتقديم صورة جلية صارخة عن السبيل يقول الكاتب “بعض أطفال السبيل أيتام ولقطاء ومنبوذون لا آباء لهم ولا مأوى بعضهم نتاج رجال يمارسون الجنس في الازقة والطرقات في اواخر الليل يجدون قوارير يسكبون نزواتهم فيها بثمن بخس… دقائق سريعة ثم تتحمل المرأة التي لا شجرة لها او الهاربة من بيت خراب عقوبة التسعة أشهر اذا لم تجهض مبكرا.
“في السبيل تجد في كل حين مولودا في بؤرة أو برميل زبالة او عند عتبة بيت أو أمام مسجد أو عند ثلاجات مياه السبيل الموزعة في الشوارع ثم يجدون صدورا حانية ولبن أمهات لا ينقطع.
“السبيل يعج بالاطفال بيض وسمر وسود أطفال عراة غرل يزرعون المكان شقاء وضحكات لا يركضون إلا في نحر الظهيرة، يشربون من مياه السبل ويتبولون في الطرقات ينسبون إلى الامهات ولعنات تلحق بالاب الآبق”.
يتحدث الكاتب عن المعاناة والفقر واليتم ونمو الاطفال في ظل كل ذلك وبلوغهم المراهقة حيث تتلقف بعضهم أيدي نساء.
تبدأ الرواية بفصل عنوانه “تحليق” وفيه تصوير للاجواء والظروف. يقول طاهر الزهراني “الغراب الاعصم الذي ألقيت في رأسه الرعونة بعد الطوفان ينفض جناحيه النتنين في كوة يعلوها الغبار في قصر خزام المهجور يطوف فوق سماء جدة كعادته كل صباح تأسره التفاصيل.. تفاصيل المدينة الموبوءة الشوارع القذرة، مياه المجاري الطافحة الاحياء الشعبية المهملة.
“ورغم بؤس المدينة الا أنها تؤوي النازحين من القرى والباحثين عن الرزق والكثير من القادمين الذين خلعوا أرديتهم البيضاء بعد زيارة الاماكن المقدسة وقرروا المكوث في المدينة التي تكتنف الجميع. أعراب من الصحراء. هنود سمر. أفارقة سود. فطس من جاوة. لحى من بخارى …”
وتحت عنوان “الهاث” قال طاهر الزهراني “بيوتنا المتحاشرة تعج بالخطايا ونحن نمارس التلون في الطرقات ندعي الطهر ونردد مع المآذن ونقف في الصفوف لنفكر في أقرب الطرق للرذيلة. كل يوم يمر علي أكره البشر وعفونتهم وفي نفس الوقت أغرق في الخطايا والعهر تغتالني الصور وتسيطر علي الشهوة…”
ويكتب المؤلف برمزية تبدو غامضة أحيانا على رغم وضوح الفكرة العامة التي يريد ايصالها. يختتم روايته بفصل حمل عنوانا هو “سقوط” تحدث فيه عن رحلة الطيران الاخيرة للغراب. وقد بدا أن هناك سقوطا مزدوجا سقوط الغراب الذي حاول التعالي ورفع نفسه وسقوط اخر تحته هو سقوط ذلك المجتمع الذي وصفه الكاتب. انه صراع بين عالمين يكاد الانسان يعجز عن ان يقول ايهما اشد نتانة.. انه صراع بين عالمين بائسين.. هذا العالم وعالم الغربان.
قال “يسري الطاعون في المدينة الموبوءة ينخر أدمغة الناس وأجسادهم فينزفون فوق الأردية البيضاء حتى الموت. الغربان الواجمة بسبب الشمس الملتهبة لا تدري ان البشر يكيدون لها كيدا. الغراب الاعصم كان يتربص بصندوقه ناجي عله ان ينال فرخا وهو على يقين انه لن يؤتى الا من طرف ناجي لذا اكتفى بالتربص من بعد لينعم بالامان ولكن الرصاصة التي نفذت منه ونتفت بعض الريش قررت امرا آخر.
“طار عاليا! اتجه نحو القصر المهجور قاصدا الكوة القديمة بدأ يشعر بان هناك ألما يخترقه كان الدم يلوث المكان لقد أصيب… لم يصدق انه سيموت…انه سيموت في مقتبل العمر والسواد. اراد ان يستقر في أعلى مكان في المنطقة ولكنه لم يجد إلا البيوت المتحاشرة والخردة التي تملأ الاسطح. الاسطح التي تعج بكل شيء خردة حبال غسيل حنفيات صدئة تقطر هوائيات عتيقة.
“يعبر فوق حارة المظلوم حيث القذارة والانقاض والعفن حيث التاريخ المهمل والبشر المشردون والغرف المستباحة… يطير يطير يخترق العنان يصبح نقطة صغيرة سوداء في سماء الله… ثم تتوقف المضغة السوداء في داخل النبض ويتوقف كل شيء. يصبح كومة من الريش الاسود يتقلب بين السماء والارض عين واحدة مفتوحة عين واحدة بدأت تلتقط المشهد الاخير.”
ويمضي بما يجعلنا نتساءل هل هو موت عالم واحد ام موت عالمين اثنين.
يقول “يرى البر والمستنقعات الاسنة وركام النفايات الذي يملأ ظاهر المدينة.. يرى البحر والشواطىء القذرة والجرذان التي استحلت المدينة… وفي بحيرة الطين سقط… لقد مات ونزع منه الموت ريشته العصماء فارقته دون ان يسجل علامة فارقة في سجل الموت لقد مات غرابا مثل آلاف الغربان التعيسة مات بغير ميزة ريشته المنزوعة من السواد تعلو وتهبط مع الموج ستبقى في هذه البحيرة الراكدة الملوثة بقذارة البشر…”