أحمد بن سالم الفلاحي –
يرى كثير من المهتمين بالاتجاهات الحديثة للبشرية، او لما وراء الحاضر، ان هناك نموا للنزعة الفردية، وان هناك نموا للمناطقية العالمية، وان هناك انحسارا للشعور الوطني المطلق، وان هناك انحسارا للشعور بأهمية التعاون العالمي في كل ما من شأنه ان يرخي سبل السلام، ويعيد الأمن والاستقرار للعالم اجمع.
ويبدي هؤلاء قلقهم الكبير لمثل هذه التحولات عند الأنسان الفرد، ذلك ان تكاثر مثل هذا الشعور، وتعميمه على امتداد الكرة الأرضية من شأنه ان يزرع الكثير من الشعور النافر من معاني التعاون، والاخاء، والترابط، وما يقلق اكثر لدى هؤلاء وغيرهم هو انحسار أهمية الدين كضابط محوري لمثل هذا الشعور، او غيره مما يؤدي بالبشرية الى الهلاك، والعودة الى حيث النزعة الفردية الأولى لانسان الغابة، حيث الحياة للأقوى، قبل ان تهجنه، او تروضه مجموعة القيم الضابطة من الدين، والمجتمع، والنظم، والقوانين، والتشريعات العديدة المختلفة، التي اقرها الناس على امتداد حيواتهم طوال هذه الآلاف من السنين.
قد تكون هذه النظرة، في بعض اجزائها تشاؤمية، ولكن الواقع يؤصل شيئا من الحقائق في نمو هذه الفردية، وكلما قطعت الحياة شوطا في اعمار نموها ازدادت هذه الصورة تأصلا، ولذلك فالخائفين جدا يقلقهم مثل هذه التحولات الاجتماعية، ويروا فيها تشظيات ما ينبغي أن تظهر على السطح ابدا، ذلك ان الانسانية في تقديراتهم يجب ان تكون عقلانية، وتزداد هذه العقلانية كلما قطعت البشرية عمرا آخر في اكتساب الخبرة الحياتية، واكتساب عمر آخر للوعي الجمعي الذي يعول عليه الكثير من الاهمية في ضبط مختلف الانشطة الانسانية، وخاصة المعنوية منها، لأنها خاصة بكل فرد على حدة، ويعول كثيرا في مسألة الوعي الجمعي الشامل على مدى تطور وسائل الاتصال، ونحن نعيش اليوم ثورة اتصالية غير مسبوقة من قبل في مسألة التواصل الانساني على امتداد الكرة الارضية، وبالتالي فأي انفصال، او بروز لظاهرة معينة، وخاصة في جانبها الاجتماعي – المخوف عليه اكثر – يقينا سوف يصل الى اقصى نقطة انسانية على امتداد هذه الكرة الارضية التي اصبحت بفعل هذه الثورة الاتصالية قرية كونية واحدة، يتبادل فيها البشر مختلف انشطتهم الواعية، واللا واعية، وبالتالي اصبحت مسألة التأثير، والتأثر واردة، وبذلك تظل مجموعة الضوابط الحاكمة في كل مجتمع على حدة تعيش محنتها الكبيرة حقا، خاصة اذا وجد، وهذا امر وارد، ان هذه الضوابط الحاكمة تقابل من بيئتها عدم القبول، اما لأنها عفا عليها الدهر وشرب، واما انها تصطدم بطموحات هذا الانسان اليوم الذي يريد ان يعيش حريته المطلقة بالصورة التي يريدها، وليس بالصورة التي يريدها منه المجتمع الذي يعيش فيه، وخاصة اكثر، اذا لم يستطع هذا المجتمع ان يحقق لهذا الفرد الكثير مما يريد تحقيقه، ويريد ان يرى شخصيته ظاهرة فيه، وهذا ما يجعل محاضن التربية، بوجه خاص، تعيش محنة اكبر.
لا شك اننا ننحاز الى حقيقة ان شعور الانسان بخدمة نفسه تفوق شعوره بخدمة وطنه، وهذا فهم لا يختلف عليه اثنان، خاصة اذا لم يستطع الوطن ان يحقق للفرد كل حاجياته الاساسية، التي تشعره بأهميته كفرد في الوطن، يمتلك كل او كثير مما قد يمتلكه الآخرون الذين يتقاسم معهم المعيشة في الوطن الواحد، نعم يأتي الوطن كأحد اهم المحاور الاساسية لبقاء الانسان واستمتاعه بحريته، وبوجوده، وبالتالي فعلى الوطن ان يحقق لهذا الفرد او ذاك الاساسيات المهمة التي يحتاجها من خلال مشاركته هو كفرد في تحقق هذه الأساسيات عبر العمل والانتاج، وذلك من خلال قيامه بدوره الكامل في هذا الجانب، ولذلك نرى لدى شعوب كثيرة هذا الانحياز نحو الفردية انعكاسا لأن اوطانها لم تستطع ان تحقق لها شيئا مما تأمل فيه ان يحققه لها الوطن، ولذلك تتنازع هذه الأوطان اليوم الثورات، والاعتصامات، والمظاهرات، والعبث بالمنجزات، لأن الشعور الوطني المأمول فيهم وصل الى ادنى درجة من درجات سلم اهتماماتهم لشعورهم ان الوطن لم يعد يحقق لهم من الحاجيات الجمعية التي يأملها كل ابناء الوطن، وهذا من اقسى المحن التي تمر بها الأوطان، والمجتمعات الانسانية على حد سواء على امتداد التاريخ.
ومن خلال قراءة موضوعية لم يعد هناك وطن لن يستطيع ان يحقق الحاجيات الاساسية لأبنائه، ولكن هذا الامر ايضا مشروط بعدد من الاسباب، ومنها الاخلاص الجمعي من قبل كل ابناء الوطن، وبقدرة الوطن على محاسبة المقصرين المتهاونين عن المشاركة الصادقة في تعزيز البناءات الاساسية التي تحقق للوطن النمو والازدهار، والعدالة في مختلف مناخاتها لجميع المواطنين بلا استثناء، والضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه اللعب بمقدرات الوطن او الاخلال بها، بلا ادنى تهاون، لأن المسالة ليست محكومة بفترة زمنية فقط، حيث ينتهي الوطن ليأتي وطن بديل آخر، وبأناس آخرين حيث يبدأون انشاء وطن آخر جديد، انما هو وطن سرمدي ممتد، تتناوب على خدمته وانمائه الاجيال المتلاحقة، كل في مجال قدراته، واختصاصاته، والدور المطلوب منه خلال فترة حياته، على ان يكون الوطن للجيمع وليس لفئات متنفذة تمول ذواتياتها، وتحقق نفسها على حساب الجمع الممتد من ابناء الوطن، ولذلك كما نرى على الواقع هناك الكثير من الاوطان تعاني من هذه التشظيات في مفهوم الوطن الخالد، حيث تأتي فئات في فترات معينة لترى ان الوطن لفترتها فقط، وبالتالي عليها ان تكرس كل عواطفها ليخدمها الوطن، وليس العكس، ومنها تنشأ فترات تراجع الاوطان على ادوارها، ومن هنا تكرس الفردية، ويتماهى الشعور الوطني العام بأهمية الوطن ككيان لا يقبل التجزئة، ولا يقبل الانقسام، ولا يقبل ان تنفرد منه ذرة تراب واحدة عن موقعها المعروف.
منذ بدء الخليقة يتنامى الشعور باهمية وجود الامكانيات المادية التي تندرج تحت مفهوم «الاقتصاد»، كمحدد مهم للاستقرار، سواء على مستوى الفرد، او على مستوى الجمع، ولذلك فالدول القوية هي تلك الدول ذات الصيغ الاقتصادية القوية في العالم، وهي التي تتحكم في توجيه السياسات العالمية، ولها اليد، او القبضة القوية في تسيير المنظمات العالمية بما يتوافق مع اجنداتها المختلفة، وما يحقق طموحاتها، وخططها المستشرفة لأفق المستقبل، والامثلة على هذه الصورة كثيرة، ويكفي ان نعيش نحن في دول الخليج ثلاثة حروب متتالية تحقيقا لهذا النزعة نحو الفردية العالمية، طبعا تحقن الشعوب بشعارات لا أول لها ولا آخر، للاتكاء على مبررات شن الحروب لتسكين الشعور النافر نحو الرفض لمثل هذه الهيمنات المختلفة، والشعوب اليوم غيرها بالامس، حيث تكاد تختفي ظاهرة «عقلية القطيع» التي سادت قبل عهود التنوير المختلفة والممتدة. الشعوب اليوم تعي كل خبايا الدول التي ظلت ردحا من الزمن تخفي اجندتها تحت شعارات كثيرة، براقة بلا مضمون، ومهلكة للشعوب بلا هدف، ومضيعة للعمر بلا نتيجة، ولكن هذه حالة دولية لا مناص من حتمية وجودها على ارض واقع يعيشه الجميع.
من يتابع مجموعة التغيرات الديمغرافية التي تعيشها الشعوب اليوم يجد الكثير من التحولات الاجتماعية، وهي تحولات على قدر كبير من الأهمية، ربما قد لا يدركها الانسان العادي، ولكنها مقلقة للمتابع والراصد لمثل هذه التحولات الاجتماعية خاصة على مستوى الشعوب التي لا تزال نامية في مفهوم السياقات الاجتماعية، فالشعوب المتقدمة ربما قد تجاوزت مفهوم الاسر «النووية» – على سبيل المثال – واصبح الانتصار للفردية اكثر قبولا وحضورا فيها، بخلاف المجتمعات النامية التي ترتبك عندها المنظومة الاجتماعية عندما تذهب الى معايشة الاسر النووية، او الفردانية، فهي بقدر تخوفها من تشظي المجتمع ككل، ترى فيها ايضا تحلل الثوابت التي تحافظ على كينونة المجتمعات وتأصلها، ولكن هل هناك من يستطيع ان يقف هذه النزوح نحو الاسر النووية؟ بالطبع لا، لان هذه هي الصورة المقبولة في المجتمعات الحديثة، وبالتالي نمو هذا الشعور الاستقلالي يؤدي الى نمو الشعور فردية الفرد، وحرصه على تحقيق مصالحه اولا، قبل مصالح الجماعة، وهذا ما يمخر جسد التفاعل الاجتماعي، ويشتت وحدته، فلا يظل الشعور الوطني هو المهم، بقدر الحرص على تضخم الشعور الفردي، هل من حل لوقف النزوع نحو هذه الحالة؟ نعم، هو وجود حالة عادلة تشمل جميع ابناء الوطن، قدر الاكان، متمثلة في كل القيم المادية والمعنوية التي يتمتع بها ابناء الوطن الواحد، والزج بالطبقية في مقبرة النفايات، فهذا الرهان المقبول، وهذا لن يحققه الا التشريع الواضح في كل مجالات الحياة المختلفة، لأن «الحاجات غير المشبعة لمدد طويلة قد تؤدي إلى إحباط وتوتر حاد قد يسبب آلاماً نفسية، ويؤدي ذلك إلى العديد من الحيل الدفاعية التي تمثل ردود أفعال يحاول الفرد من خلالها أن يحمي نفسه من هذا الإحباط.»، كما يرى آخرون ذلك.