نوافـذ: سادرا في الحلم وعابرا من باب السلام

عاصم الشيدي –

assemcom@hotmail.com –

في كل مدينة أنزلها أحاول أن أستكشف معالمها فورا.. لحظات الكشف الأولى أكثر متعة وأكثر رسوخا في الذهن ودغدغة للمشاعر من أي لحظة أخرى لاحقة مهما كان الوعي فيها حاضرا. وهذا الليل ينتصف، وهذه المدينة تتجدد الحياة فيها كل لحظة وحين. لم أحض بشرف زيارة مدينة رسول الله قبل اليوم، ولذلك لم أكن أملك أي تصور لتفاصيل الزيارة ولا لمحطاتها الإيمانية.. لا أملك إلا رغبة في الزيارة وكفى.. ولذلك عندما وصلت إلى مقر بعثة الحج العمانية في المدينة المنورة كان همي الأول، وقبل أن استلم غرفتي، أن استكشف المدينة وأعرفها وأعانق فيها تاريخ يوم كان للإسلام دولة. بعثت على عجل مادة خبرية مصورة للجريدة وقلت لدروب المدينة وطرقاتها أنا قادم إليه وبشوق ملتهب.

كان الجميع مشغولا بترتيب أمر وفده وتسكينه والبحث عن حقيبته بين مئات الحقائب التي وصلت لتوها من المطار. قلت لزميلي مازن البريكي ممثل وكالة الأنباء العمانية الفرصة مواتية لاستكشاف هذه المدينة التي تغير التاريخ من فوق أراضيها. أخذنا عنوان الفندق وخرجنا دون أن يكون لأي منا معرفة مسبقة بالمدينة ولا بأماكن تواجد معالمها.. وخرجنا لا هدف لنا إلا أن نتنفس عبير المدينة ونعانقها عناق المشتاق.. خطوة خطوتان عشر ووجدنا أنفسنا أمام باحات الحرم المدني، مسجد رسول الله. كان الليل يسير إلى منتصفه، ولكن المكان يعج بمئات الآلاف من الزوار، وثمة أضواء إيمانية تسطع من كل مكان، وثمة بشر قادمون من كل بقاع الأرض، تختلف ألوانهم وأشكالهم وأنفاسهم وتوجهاتهم وقراءاتهم للدين ولكن تجمعهم في هذه اللحظة رغبة في السلام على رسول الله وفي أن تعود للأمة الإسلامية العزة والكرامة. دار حديث طويل حول شكل هذه المدينة قبل أكثر من 1400 سنة حينما كانت مقرا للدولة الإسلامية التي أسسها الرسول الأعظم. قال مازن في هذه الجنبات سار الرسول.. هنا هنا حيث نسير الآن، وقف هنا وكلم صحابته، وجهز جيوش الفتح، وخرج بالمسلمين إلى بدر، وهناك دفن أصحابه وفي مكان ما في هذا المسجد كانت حجرات زوجاته أمهات المؤمنين. لم نكن نعلم في تلك اللحظة الملتبسة بين الدهشة والإيمان أين يقع القبر بالتحديد، ولا من أي باب علينا أن ندخل حتى نصل إلى الروضة المشرفة ونستكين في بقعة هي روضة من رياض الجنان مصداقا لحديث رسول الله «بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة». ساقنا القدر في تلك اللحظة الخالدة من الليل إلى باب السلام، وربما أيقنا أنه هو الباب الذي سيوصلنا إلى الجنة حينها فالسلام وأبوابه لا توصل إلا إلى هناك. كان ثمة متسع، وهذا نادر ما يحدث خلال هذا الوقت من العام، وصلينا في منطقة قريبة من الروضة، التي عرفناها لاحقا. كنت أفكر وأنا أخوض ذلك الزحام الكبير متوجها إلى قبر الحبيب المصطفى كيف بدأ الإسلام «فكرة» سخرت منها قريش قبل أن تتحول تلك الفكرة، التي اعتقدوها وحي شاعر أو نفث ساحر، إلى دولة حكمت مساحات شاسعة من العالم. الفكرة التي تنزلت في غار حراء خوفا من بطش كفار قريش، صارت لاحقا دولة دكت جيوشها الفاتحة دولة الروم والفرس وأطفأت نيرانها وأشعلت دولة للعلم والحضارة.

وأخيرا وجدت نفسي مقابلا للحجرة النبوية حيث دفن رسول الله وصاحبيه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب. سرتْ هزة في جسمي.. إنه قبر الحبيب.. قبر رسول الله. ورغم أنني محمل بمئات التحيات له من الأهل والأصدقاء إلا أن شريطا تاريخيا اشتعل في ذهني في تلك الفترة.. الأهوال التي مرت بها الرسالة/ الفكرة حتى وصلت إلى هذه المرحلة.. ولاحقا الغرفة النبوية كيف كانت يوم دفن فيها الحبيب إلى هذا اليوم، مرت دول وسلاطين وإمارات وحروب وكوارث، واحترق المسجد النبوي، وأراد من أراد أن يسرق قبر الرسول إما بهدف نقله إلى مصر كما حدث في عهد العبيدي أو لأهداف أخرى منها محاولة إنهاء الدولة الإسلامية.. وتحول حال الدولة الإسلامية من عز إلى ذل ومن منعة إلى استباحة.

طلب منا رجل الأمن أن نخرج لنتيح الفرصة لغيرنا في السلام على الحبيب.. خرجنا من باب البقيع الذي يفضي إلى أرض البقيع حيث دفن صحابة رسول الله وأهل المدينة.

وقلت لمازن ونحن نسير نتلمس الطريق إلى حيث مقر البعثة شتان بين مدينة رسول الله ودولته الإسلامية التي شعت العالم بنور رسالتها وبين «الدولة الإسلامية» التي أظهرتها تحالفات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.