عبدالرزّاق الربيعي –
الطاعنون في الغربة يعرفون مدى صعوبة ترك الإنسان المكان الأوّل الذي نشأ به، ودرج على ترابه، لذا كان النفي عقوبة قاسية ما بعدها قسوة .
و«يعتبر التهجيرعقابا خطيرا للغاية، وكان يُستخدم في كثير من الأحيان، حتى القرن العشرين، كبديل لعقوبة الإعدام»، كما تشير«الموسوعة الحرّة»، مؤكّدة أن ّآشور، وبابل، وروما في الأزمنة السحيقة « استخدمت التهجير لشعوب كاملة عقوبة لقيامها بالتمرد عليها، وذلك من منطلق الاعتقاد بأن الشعب المهجّر من أرضه سيتفكك ويزول. وبالفعل لم تصمد غالبية الشعوب أمام التهجير» .
واليوم نسمع ونقرأ في الأخبارعن حالات عديدة للتهجيرالقسري منها ما يتعرّض له اخواننا المسيحيّون، من سكّان مدينة الموصل، لتقتلعهم عواصف «داعش» العاتية من الجذور، وقد عبّرت الشاعرة دنيا ميخائيل المقيمة في أمريكا عن حزنها، على قبر جدتها الغافي وسط تساقط أشلاء الأحلام، في نص لها عنوانه «قبرجدتي»:
«الآن جاء البرابرة،
الى نينوى أم الربيعين.
كسروا قبرَ جدتي: لَوْحِيَ الطيني
ليثبتوا أنهم موتى، أكثر أوأقل قليلاً.
هشّموا الثيران المجنّحة،
عيونُها الواسعة
المفتوحة
زهراتُ عبّاد الشمس
تنظرُ مدى الحياة
إلى أشلاء أحلامِنا الأولى…»
وفي روايته الجديدة «جحيم الراهب» يلقي الروائي شاكر نوري الضوء على معاناة المسيحيين في ظل صراع المذاهب، لذا عندما دعت جمعية مساعدة الأقليات في الشرق إلى «تبسيط وتسريع الإجراءات للمرشحين للجوء إلى فرنسا قدّم عشرة آلاف مسيحي طلبات تأشيرة إلى القنصلية الفرنسية في أربيل، ولسان حالهم يقول «نارالغربة ولا جحيم الوطن»، وقد وصل الأسبوع الماضي حوالى 150 لاجئاً مسيحيّا إلى باريس إذ استقبلهم وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس، وهي ثاني دفعة من اللاجئين تتوجّه إلى فرنسا بعد الدفعة الأولى التي ضمّت نحو أربعين لاجئاً.
وبذلك ستخسر المنطقة، بسبب ما جلبته ريح الأحداث الأخيرة من نيران التطرّف الديني، مكوّنا مهمّا، يعدّ من أصحاب الحضارات القديمة في المنطقة، فالأشوريون الذين سكنوا المناطق الشماليّة من العراق يعود عمر حضارتهم إلى حوالي 7 آلاف سنة، اعتنقوا المسيحية في القرن الأوّل للميلاد، ومنهم انتقلت إلى بلاد الشام لتنتشر هناك مع حلول القرن الرابع الميلادي، يتكلمون الآرامية التي هي أصل اللغة السريانية، إلى جانب العربية التي يجيدونها، حديثا وكتابة، وصل تعدادهم في العراق إلى حوالي مليوني نسمة، ومع حلول التسعينات بدأوا بمغادرته، وازدادت هجرتهم بعد2003 م ليصل عددهم إلى النصف، وفق تقريرالأمم المتّحدة لعام2007م، هذا المكوّن الذي ساهم في بناء المجتمع، معظم أفراده، متعلّم، منفتح على الآخر، مسالم، لذا ربطتني صداقات عميقة مع الكثير من المسيحيين، عندما كانت تختلط تكبيرات الجوامع مع رنّات أجراس الكنائس في سمفونيّة عذبة، ترتفع إلى عنان السماء، حتى جاء المتطرفون حاملين سمومهم، ومعاولهم ليهدموا الكنائس، ويهجّروا سكان الأرض الأصليين!، ولم يشفع لهم أن المسيحيين من الكتابيين الذين نالوا تقدير المسلمين الأوائل واحترامهم، فحين ضيّق سادة قريش على المسلمين في السنوات الأولى من نشر الدعوة، أشار عليهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يهاجروا إلى الحبشة، وكان ملكها النجاشي نصرانيا، فأكرمهم، ورحّب بهم، وقد حفظ القرآن الكريم حقوق أهل الكتاب، فعاشوا في كنف الدولة الإسلامية في عصورها الزاهرة، وقد وردت في القرآن الكريم العديد من الآيات الكريمة التي تؤكّد هذا، منها قوله تعالى «لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون*وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين» المائدة 81-85.
لكنّ حرائق التطرّف امتدّت لهم، ولم يسلموا من أذاها، فتعرّضت كنائسهم للعديد من الجرائم الإرهابية، لعلّ أشهرها ماجرى في كنيسة «سيدة النجاة» ببغداد أثناء أداء مراسم قدّاس الأحد، عندما شنّ مسلّحون ينتمون لتنظيم»القاعدة هجوما ارهابيّا في 31-10-2010م انتهى بمجزرة راح ضحيّتها أكثر من 50 من المصلّين، إلى جانب جرح المئات ممن كانوا بداخل الكنيسة، لذا توجّهت أنظارهم إلى الغرب، تقول نينا شيا مديرة معهد هدسون للحريات الدينية والمفوض السابق في لجنة الولايات المتحدة للحريات الدينية العالمية « حالما يهرب مسيحيو الشرق الأوسط الى الغرب فإنهم لا يعودون» .
وها هم اليوم يشدّون الرحال إلى أوروبا في طريق اللاعودة لتصمت أجراس الكنائس !