5004 حالات في السلطنة وعملية التشخيص محلك سر ولا يوجد تغير ملموس –
تحقيق :عبد الحفيظ العمري ، حمود البريكي ، ابراهيم الرشيدي ، عمر السعيدي –
تشير البحوث والدراسات إلى تفاقم مشكلة اضطراب التوحد في السلطنة في ظل الحراك البطيء لتشخيص وعلاج المرض وضعف الوعي المجتمعي بهذا النوع من الاضطرابات والخلط بينه وبين الأجناس الأخرى من الاضطرابات العقلية حيث إن هناك طفلا توحديا واحدا من بين كل 162 طفلا في السلطنة.
وهذا ما أكدته دراسة قامت بها جامعة تورنتو الكندية.
ويشير الدكتور يحيي الفارسي من كلية الطب والعلوم الصحية بجامعة السلطان قابوس إلى وجود ما يقارب 5004 حالات توحد في السلطنة، ويوضح أن طيف التوحد هو اضطراب نمائي تطوري يعيق استيعاب الدماغ للمعلومات وكيفية معالجتها ويؤدي إلى حدوث مشاكل لدى الطفل في عملية الاتصال بالمجتمع المحيط، يظهر هذا المرض خلال السنوات الأولى من عمر الطفل، وهو يصيب الذكور من الأطفال أكثر من الإناث.
ويتابع الدكتور الفارسي قائلا: إن هناك خلطا واضحا بين التوحد والاضطرابات العقلية الأخرى، إلا انه يمكن الفصل بينهما من خلال: عدم ارتباط التوحد بالتخلف العقلي، حيث إن هناك العديد من الأطفال التوحديين الأذكياء والمبدعين، بالإضافة إلى امكانية تحسن حالة الطفل التوحدي والقدرة على دمجه في المجتمع.
التشخيص والعلاج
وتؤكد إحدى الدراسات أن طفلا واحداً فقط من بين تسعة أطفال يتلقى التشخيص الطبي لحالته في الوقت المناسب، أي أن طفلا واحدا يمكن التعامل معه بصورة فعالة، وهنا يقول الدكتور يحيى الفارسي: هذه النسبة قابلة للزيادة بسبب اقتصار خدمة التشخيص والعلاج على مستشفى جامعة السلطان قابوس. وهو الأمر الذي يسبب تأخرا في تشخيص حالات الأطفال المصابين باضطراب التوحد، نظرا للوقت الذي يستغرقه الفحص الطبي.
وتؤكد الأخصائية الاجتماعية والنفسية خولة الوهيبية على ذلك بقولها: إن المشكلة الكبرى تمكن في أن الكادر العامل في مجال التشخيص والعلاج غير قادر على التعامل مع الكم الهائل من الحالات التي تعرض عليهم، فمثلا تتكفل موظفتين فقط بمهمة اختبارات الذكاء في عملية التشخيص!
وفي سؤالنا لها عن سبب هذا النقص تجيب: إن عملية التدريب والتأهيل تسير بشكل بطيء جداً، الأمر الذي يقود إلى مشكلة حتمية تستوجب التدخل السريع، فقد لاحظت أن عددا كبيرا من الأمهات تضطر لانتظار تشخيص حالة طفلها لما يزيد على سنة تقريبا.
النسب والأرقام التي تشير إلى مشكلة اجتماعية قادمة توالت علينا حين رصدنا نسبة 38% من الأمهات العاملات تركن وظائفهن للتفرغ لأطفالهن، وما يقارب 47% من الأمهات اضطررن لاستجلاب عاملة للعناية بالأطفال.
ويقول الدكتور يحيى الفارسي: هذه النسب ليست مجرد أرقام صماء، بل هي أبعاد أخرى لمشكلة اجتماعية اقتصادية تهدد الأسر التي لديها أطفال توحديين. فقد كشفت الدراسة أن ما يقارب 41% من معدل الدخل العام للأسرة يتم صرفه للتعامل والتأقلم مع حالة الطفل التوحدي. وهي أيضا تعتبر نسبة عالية جداً.
كما ان هناك عددا كبيرا لم تشر إليه الدارسات، وقد أكده غير واحد من أولياء الأمور والمختصين بهذا الشأن، فهم يفضلون الذهاب إلى دول أوروبية ودول في شرق آسيا على نفقتهم الخاصة، رغم المشقة والتكلفة الباهظة ولكنها بالنسبة للآباء أقل وطئاً عليهم من الانتظار لسنة كاملة للحصول على تشخيص لا تزيد مدته عن 30 دقيقة في بعض الأحيان.
حالة خاصة
ومن جهة أخرى أكدت أمٌ لطفل توحدي– رفضت الإشارة إلى اسمها– أن لكل طفل حالة خاصة لا يمكن مقارنتها مع طفل آخر، أي أن ما يحبه الأطفال التوحديون ليس نمطا واحداً من الأسلوب في التعامل أو لونا أو صنفا محددا من الطعام، ولذلك لا يمكن معاملتهم بالطريقة ذاتها، كما أن خصوصية اضطراب التوحد تحتم علينا إلحاق الطفل بمركز متخصص للتوحد، لا يوجد فيه أي شكل من أشكال الاعاقة الجسمية أو العقلية. كما أن الطفل التوحدي معرض لإيذاء نفسه بأي أداة تقع بين يديه.
وهذا ما أكدته أم حسام وأم محمد وأم فاطمة.
أما الدكتورة سحر الشربجي من قسم علم النفس في جامعة السلطان قابوس، فتؤكد أن مكمن الخلل في تعدد صفات مرض التوحد، في حين أن عملية التشخيص في مستشفيات ومراكز التوحد في السلطنة ما زالت تراوح مكانها بدون أي تغيير ملموس، وهذا من شأنه أن يوجد هوة بين مشاكل الواقع ومعطيات التشخيص وبالتالي تفاقم مشكلة الأطفال التوحديين في السلطنة.
وأضافت أن التوزيع الجغرافي للمراكز التخصصية يتمركز في مسقط، بواقع ثلاثة مراكز في العاصمة في حين أن باقي المحافظات تخلو منها، إذا ما استثنينا المراكز الناشئة والمساهمات والفرق التي لا تقدم سوى خدمة التثقيف السطحي ونصائح ارشادية يمكن أن يتوصل إليها أهالي الطفل التوحدي بضغطة زر واحدة على شبكة المعلومات العالمية.
معاناة أخرى
تشير الممرضة بثينة الهنائية إلى معاناة أخرى في الجانب الصحي المتعلق بهذه القضية حيث تقول: لا يوجد في السلطنة مستشفى ، أو طبيب ، أو حتى ممرض متخصص في مرض التوحد! معظم مرضى التوحد يتم علاجهم في قسم الامراض العقلية. مع انهم يحتاجون الى رعاية مختلفة وجهد كبير حتى يكونوا جزءا فعالا في المجتمع.. فمرضى التوحد اذكياء جدا مثل ما نعلم عن اينيشتاين، فقط تنقصهم الطريقة الصحيحة في إيصال المعلومة إليهم، وسيظهر الابداع، ومن كلامي هذا أعني انهم ليسوا معوقين.
خيارات التعليم المحدودة
وتشير دراسة وعي المعلمين باضطراب التوحد، المطبقة على عدد من مدراس السلطنة إلى أن العديد من المعلمين لا يعرفون ماهية مرض التوحد، ولا يجيدون معاملة الأطفال التوحديين، وفي أغلب الأوقات يحاولون الهرب من هذه الفئة اعتقاداً منهم بأنها نوع من الخلل العقلي، وقد وصل الحال عند بعضهم إلى الاعتقاد بأن اضطراب التوحد يمكن أن ينتقل من شخص إلى آخر، كل هذه المؤشرات تؤكد على أن البيئة التعليمية الحكومية تعاني من صعوبة في التأقلم مع الأطفال التوحديين.
إلا أن الواقع يفرض على المؤسسات التعليمية أن تطبق برامج مخالفة لما هو عليه الحال في العديد من المدارس، التي تضم بين أسوارها أطفال توحديين، فمن المعلوم أن الطفل التوحدي لا يمكن أن يلتحق بالمدرسة إلا في حالة تشخيص حالته بأنه طفل قادر على التأقلم مع الجو المدرسي رغم الإصابة بالتوحد.
وتقول منى الكثيرية وهي اخصائية اجتماعية في إحدى مدارس مسقط: إن الأغلبية الساحقة من الكادر التعليمي ليس لديها أي معرفة حول اضطراب التوحد، وغالبا ما يقسو هؤلاء المدرسون على الطالب التوحدي ازاء التصرفات التي تكون خارجة عن إدارته، ظنا منهم أنها ناتجة عن رغبة ووعي كامل، والأمر المقلق في الموضوع أن الطفل التوحدي لا يمكنه التعامل مع حالته إلا بمساندة الجميع، وبعض الأطفال يصاب بانتكاسة وخيبة أمل بعد تعرضه للتوبيخ من قبل المدرس.
وتؤكد الباحثة الدكتورة سحر الشربجي أن وجود الشخص المساند يساعد الطفل على المضي قدما في عملية العلاج، وعلى المساند أن يتحلى بالصبر لأن نتائج العلاج لا تظهر بسرعة على الطفل ولذلك يفضل أن يكون رفيق العلاج هي الأم.
وحول التقنيات المساعدة أكدت د. سحر الشربجي أن الصورة والرسم والألعاب مهمة جدا في استيعاب الطفل التوحدي، لأن المشكلة الأساسية لدى الطفل هي مشكلة اللغة والتخاطب، ولذلك يجب التركيز على هذا النوع من التعليم، وهو يثبت بالتجربة فائدته في العلاج، ومن الممكن ان تكون لغة الرسم والصور هي اللغة الرسمية لدى الطفل التوحدي. كما أن الألوان لها دلالاتها وأبعادها على الطفل نفسه، إلا أن المشكلة تكمن في التفاوت الكبير ما بين الأطفال التوحديين، وهذا يستلزم جهدا مضاعفاً.
وفي معرض إجابة الاخصائية الاجتماعية منى الكثيرية عن التقنيات والمنهجيات العلمية المساعدة في عملية التعليم تقول: هناك طرق كثيرة ولكن لا تستثني مرض التوحد، مثل المسرحيات وطريقة الشرح بالرسم، نظرا لاحتمالية أن يفهم الطفل التوحدي الكلام العادي فهماً خاطئاً ولكن وعي المدرس بهذا الأمر هو العائق الرئيسي.
مدارس خاصة
من ناحية أخرى أكدت أم حسام أن طفلها يعاني من مضايقات زملائه الطلاب في الصف نظرا لانطوائيته المبالغ فيها، ولا تخلو بعض المواقف من نظرات المعلمين الجارحة، وكلامهم القاسي في حق ابنها الذي لا حول له ولا قوة، وهنا يجدر التفكير حول أهمية أن يكون للأطفال التوحديين مدارس خاصة موزعة على المحافظات وكذلك يجب تدريب كوادر قادرة على التعامل مع هذه الفئات.
وتوقل منى الكثيري: إن هذا النوع من المدارس في العالم يكون مجهزا بأهم تقنيات التعلم ، وتحقيق الراحة النفسية للطفل، وتكون مهيأة ضد أي احتمال لإيذاء الطفل لنفسه.
وفي السياق ذاته تقول الممرضة بثينة الهنائية وهي أيضا عضو مشارك في إحدى الجمعيات المختصة بالتوحد: فيما يخص دمج الأطفال التوحديين في المدارس العامة فإن هذا غير ممكن في بداية المرض. مما يعني أنه يجب أن يدرس الطفل في مدارس خاصة خلال بداية مرضه، إلى أن تتحسن حالة الطفل وقدرته على التأقلم مع المحيط به وهنا يصبح من الممكن دمجه مع بقية الطلاب، ولكن الأمر سيحتاج إلى اهتمام اكثر من المعلم او ادارة المدرسة بشكل خاص. وأيضا يحتاج الى طرق مختلفة للشرح ومساعدة الطفل على التعلم والاستيعاب.
الانتقال إلى مسقط
أما أم فاطمة وهي من خارج مسقط فقد اضطرت إلى لانتقال إلى مسقط عندما لاحظت عدم جدوى بقاء طفلتها في المدرسة، وقد التحقت فاطمة بإحدى المراكز التأهيلية ولاحظت الأم مدى التغير في حالة فاطمة، فقد بدت أكثر قابلية للتواصل مع أفراد العائلة، وأصبحت قدرتها اللغوية في تطور ملحوظ. إلا أن التكلفة الباهظة التي تدفعها لقاء تأهيل طفلتها أنهكتها، ولكن لا بد من ذلك.
واختتمت حديثها متسائلة عن حال الأسر التي لا تكاد تجد متسعا للعيش، واذا بها تكتشف أن بين أفرادها طفلا توحديا؟!