التعليم في الطفولة المبكرة : ضرورة أم ترف ؟

Share Button

من ذكاء الطفل يتشكل في السنوات الأربع الأولى من عمره –

د. عامر بن محمد بن عامر العيسري –

حاز الأطفال وتعليمهم نصيب الأسد من اهتمام القادة والمشاهير في العالم فجرى ذكرهم على ألسنتهم، في أقوالهم ، فعلى سبيل المثال المهاتما غاندي قال “إذا أردنا أن نحقق السلام الحقيقي في العالم، فعلينا أن نبدأ بتعليم الأطفال’’ ، وكانت وما زالت الطفولة وكل ما يتعلق بها من موضوعات محل عناية التربويين وعلماء النفس كونها مرحلة مهمة في التنشئة والتكوين والتكامل لحياة الإنسان بأبعادها المختلفة وفيها تتكون أهم السمات الشخصية للطفل والجوانب الأساسية للنمو الجسدي والحسي والعقلي والانفعالي والاجتماعي والوجداني واللغوي ، ومما توصلت إليه الدراسات الحديثة أن للخبرات المبكرة للأطفال تأثيرا قويا على طبيعة نموهم وقدراتهم العقلية ، كما كشفت خلاصة الأبحاث عن تأثر ذكاء الطفل بالخبرات والمثيرات المحيطة به ، فقد ثبت أن ذكاء الطفل بنسبة 50% يتشكل في السنوات الأربع الأولى من عمره ويتشكل ما نسبته 30% من الذكاء بين عمر أربع إلى ثماني سنوات .


وقد خلص الباحثون التربويون إلى نتيجة مفادها أن الأطفال الذين يدخلون المدرسة بعد الالتحاق بالتعليم قبل المدرسي أكثر نضجا من النواحي الجسمية والعقلية من الذين لا يلتحقون به ، فالأطفال الذين يأتون عن طريق مؤسسات التعليم المبكر يكونون أكثر قدرة على التعبير ويمتلكون دافعية للتعلم وإرادة ورغبة أكثر من غيرهم ، والأطفال غير الملتحقين بمؤسسات التعليم المبكر يكونون عرضة للمشكلات النفسية والانفعالية والاجتماعية، ومشكلات الكلام أكثر من الأطفال الملتحقين بالتعليم المبكر.

ومن خلال تتبع الأهداف التي ترسمها معظم دول العالم من التعليم المبكر يمكن الخلوص إلى أهداف متشابهة تتمثل في العناية بالصحة السليمة وغرس العادات والسلوك السليم ، ويتم ذلك من خلال مناهج وأنشطة وخبرات متنوعة صممت لتعويد الأطفال على النشاط والعمل قبل أن تعمل على تعليم الأطفال مبادئ الكتابة والقراءة والحساب ، وتقدم هذه المناهج بالاستعانة بطرق وأساليب ومبادئ تعليمية مناسبة للأطفال وضعها روسو وفرويد وبلوم وفروبل ومونتسوري وغيرهم من علماء التربية.

وأجمع التربويون على أن الخبرات المقدمة للأطفال في مؤسسات التعليم قبل المدرسي لها آثارها الإيجابية على الطفل قبل التحاقه بالتعليم المدرسي ، ومنها : تهيئة الطفل للالتحاق بالمدرسة حتى لا يتفاجأ بالانتقال من البيت إلى المدرسة ، ومساعدته على اكتساب مهارات وخبرات جديدة ، وتوفير البيئة التعليمية المناسبة لتنمية شخصيته وإشباع حاجاته وتطوير تفكيره ومعرفته وخياله ، كما تعمل على الاهتمام بنموه الجسدي والحركي من خلال التمارين والأنشطة والألعاب المنظمة والهادفة التي تنمي عضلاته الكبيرة والصغيرة مثل أنشطة مهارات استخدام يديه وأصابعه في الإمساك والقص واللصق والتركيب والفك والتجميع و التلوين ، وتعمل أيضا على رعاية وتنمية المهارات العاطفية وذلك بالتعبير عن مشاعره ومنحه الثقة في تحمل المسئولية وتقويم عمله ، كما أن من آثارها تنمية قدرات الطفل اللغوية وذلك عن طريق الحوار والتعبير وإبداء الرأي وتقليد الأصوات ، وتعمل كذلك على توجيهه للسلوك الصحيح ، وتدريبه على الثقة بالنفس لمن خلال التعبير عن رأيه وتنمية قدراته في المشاركة والاختيار والعمل الجماعي، وأخذ القرارات، وكذلك تعويده على النظام المدرسي واحترام الآخرين .

وتأكيدا على التأثير الإيجابي الفعال للتعليم المبكر يمكننا استعراض ما أكدته المؤسسات البحثية العالمية في هذا الشأن ، فقد وجدت مؤسسة هاي سكوب الأمريكية البحثية التربوية High/Scope Education Research Foundation في أن الراشدين الذين التحقوا ببرامج رياض أطفال ذات نوعية عالية، عندما كانت أعمارهم ثلاث أو أربع سنوات هما أقل جرائم من غيرهم ، وذوي دخل اقتصادي عالٍ، وناجحين في حياتهم الزوجية ، وأن الفشل في الدراسة يمكن أن يعزى إلى سنوات الطفولة المبكرة ، كما تؤكد الدراسات والبحوث التربوية الحديثة أن مرحلة الطفولة المبكرة لها أثركبيرعلى النتاجات التعليمية في المراحل الدراسية اللاحقة.

وتهتم العديد من دول العالم بالتعليم المبكر اهتماماً خاصاً، بل قرر بعضها إدراجه ضمن السلم التعليمي المدرسي (وخاصة السنة الأخيرة منه) أي ما بين سن 5 و6 سنوات فالتعليم في بريطانيا يستمر السلك التعليمي لمدة 13 سنة يبدأ من مرحلة التعليم قبل المدرسي من سن الخامسة إلى السابعة ، وفي فنزويلا يتضمن السلم التعليمي أربع مراحل أولها التعليم قبل المدرسي وهو تعليم إجباري يبدأ من عمر خمس سنوات ، أما في فرنسا فالتسجيل متاح للأطفال في رياض أطفال حكومية من سن ثلاث سنوات ، كما يمكن أن يلتحق الأطفال من عمر سنتين لمرحلة الرياض في حالة توفر شواغر ، وتمكن الطفل في الذهاب إلى رياض الأطفال والاعتماد على نفسه ، وفي اسبانيا تعتبر مرحلة رياض الأطفال مرحلة اختيارية، وليست إلزامية، ومع ذلك فهي تُصنَف كأول مُستويات النظام التعليمي وتكمن أهميتها في تطوير مهارات الأطفال، وتنميتهم بدنيــًا وعاطفيــًا وأخلاقيـــًا، وبهذه المرحلة يلتحق الأطفال، حتى ما قبل سن السادسة ، والتعليم الإلزامي، في مُعظم الولايات الأسترالية، يبدأ من 5 سنوات وحتى 15 سنة، والسلم التعليمي السائد، يتألف من مرحلتين أساسيتين، وقبلها مرحلة ما قبل المدرسة، وهي مرحلة اختيارية، وفي تونس يبدأ السلم التعليمي، من مرحلة ما قبل المدرسة، التي تعنى بالأطفال ما بين 3: 5 سنوات، ولا تقتصر على رياض الأطفال وكفى، بل تشمل أيضـًا الكتاتيب، وما يُعرف بالسنة التحضيرية، التي تستقبل الأطفال في عُمر 5 سنوات.

وتمثل فئة الأطفال في سن مرحلة التعليم المبكر في الوطن العربي نسبة كبيرة من المجتمع العربي، وبالرغم من وجود اهتمام من عدد من الدول العربية بهذا التعليم والسعي لإدراجه ضمن السلم التعليمي الحكومي إلا أن عدد مؤسسات هذا التعليم قليل جدا مقارنة بعدد الأطفال في هذه المرحلة العمرية، كما لا توجد فرص متوازنة لتعليم الذكور والإناث و لا لتعليم الأطفال في المناطق الريفية والجبلية مقارنة بالمدن ، كما أن مهمة التعليم المبكر محصورة في عدد من الدول العربية في التعليم الخاص وبالتالي فهي خدمة تعليمية تقدم بمقابل مادي قد تعجز عنه الأسر المتوسطة والفقيرة ، ولا يلقى التعليم قبل المدرسي نفس الأهمية التي يوليها القطاع الحكومي لمراحل التعليم الأخرى، إضافة إلى معاناة التعليم قبل المدرسي في الدول العربية من جوانب قصور عديدة تتمثل في عدم توفر مبان معدة خصيصاً لهذه المرحلة ، وقلما تقدم الحكومات الإمكانات والدعم الكافي لإنشاء مؤسسات التعليم قبل المدرسي.

وقد اهتمت السلطنة بالطفولة وتسعى لإعطاء هذه الشريحة المهمة من المجتمع حقها من جميع نواحي الحياة ، فقد أقيمت العديد من الفعاليات والملتقيات الخاصة بالطفل العماني في البلاد وتوجد حدائق ومتنزهات مناسبة للأطفال كما يوجد متحف خاص بالطفل ، وخصص مجلس الوزراء عام 2012 عاما للطفل ، وتم مؤخرا إنشاء جمعية ( الأطفال أولا ) برئاسة صاحبة السمو السيدة الدكتورة منى بنت فهد آل سعيد والتي تعمل على تعزيزالقيم بين أطفال المدارس في السلطنة بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم كما تعمل على إيجاد أنشطة عملية تعزز الابتكار والتفكير الإبداعي لدى الطفل العماني بما يتلاءم وطبيعة القيم التي ينبثق عنها ، وتوج الاهتمام بالأطفال في السلطنة مؤخرا بصدور المرسوم السلطاني رقم (22 /2014) بإصدار قانون الطفل ، كما أن ندوة التعليم في عمان التي عقدت مؤخرا في فندق قصر البستان اشتملت على 24 ورقة عمل تطرقت معظمها بأسلوب مباشر أو غير مباشر إلى أهمية التعليم قبل المدرسي وضرورة زيادة الاهتمام به وتقديم الدعم اللوجستي والفني لتطويره.

والنظام التعليمي العماني الحالي إلزامي بمرحلة التعليم الأساسي من سن 6-15، وغير إلزامي في مرحلة التعليم ما قبل المدرسي و التعليم ما بعد الأساسي ، ولا يوجد التعليم ما قبل المدرسي ضمن السلم التعليمي الحكومي ، وإنما تتكفل مدارس القطاع الخاص بتقديم الخدمات التعليمية فيه ، ومع تنامي أعداد الأطفال من هذا العمر وقلة توفر المدارس الخاصة وخاصة في المناطق البعيدة يتطلب تبني الحكومة ممثلة في وزارة التربية والتعليم لمشروع إقرار مرحلة التعليم قبل المدرسي كمرحلة تعليمية إلزامية ضمن السلم التعليمي في نظامنا التربوي، لأسباب منها على سبيل المثال أن مرحلة رياض الأطفال هي مرحلة أساسية تعد أطفالنا نحو المراحل المدرسية الأخرى فإذا حصل الأطفال على التهيئة والإعداد الجيد سيكونون على استعداد تام لدخولها بدون أن تواجههم صعوبات تعليمية محتملة .


ويمكننا هنا استعراض بعض المبررات التي تؤكد ضرورة إدراج التعليم ما قبل المدرسة ضمن السلك التعليمي أهمها :

– تؤكد المؤشرات الإحصائية أن نسبة الأطفال الذين يلتحقون بالتعليم في عمر ( 4-5 ) سنوات في السلطنة لا تتعدى 16.12 % من إجمالي عدد الأطفال الذين بلغوا هذا العمر ، بينما قرابة 83% من الأطفال في السلطنة لا تتوفر لهم فرصة التعلم ، وفي الوقت ذاته يصل معدل التحاق الطلاب بالصف الأول تراوح بين 89% و 99 % من مجمل الأطفال في عمر 6 سنوات بالسلطنة ، وهذا نتيجة توفر التعليم الحكومي للأطفال من هذا العمر .

– أجرت وزارة التربية والتعليم في العام الدراسي 2004 /2005 دراسة تقيس الضعف القرائي لدى تلاميذ الحلقة الأولى من التعليم الأساسي ، خلصت إلى شيوع أخطاء القراءة الجهرية لدى التلاميذ بنسب تتراوح بين 63% إلى 91% وهي نسب مرتفعة ، وضعف درجة إتقان التلاميذ لعدد من مهارات فهم المقروء مثل فهم المفردات وتصنيف الأشياء وترتيب الأفكار وتمييز الأساليب ودلالات المفاهيم والمصطلحات ، حيث كانت هناك 13 مهارة من أصل 14 درجة الإتقان فيها دون المستوى المطلوب ، وقد رأى أفراد عينة هذه الدراسة أن من أهم أسباب الضعف القرائي لدى تلاميذ الحلقة الأولى من التعليم الأساسي ضعف مستوى التلاميذ في المهارات القرائية الأساسية ، وضعف الاستعداد القرائي للتلاميذ ، ونقص الثروة اللغوية لدى التلاميذ .

ومن خلال استعراض نتائج هذه الدراسة وغيرها من الدراسات الدولية والمحلية مثل دراسة البنك الدولي مع وزارة التربية والتعليم ، يتبين مدى الضعف الكبير في الإعداد والتهيئة للأطفال قبل دخولهم الصف الأول الدراسي مما ينتج عنه ضعف مستمر في السنوات اللاحقة ، وهذا يؤكد ضرورة الاهتمام بجدية بمرحلة التعليم ما قبل المدرسي حتى يتم تهيئة التلاميذ بصورة جيدة للالتحاق بالتعليم المدرسي .

– بدأ قسم طفل ما قبل المدرسة بكلية التربية بجامعة السلطان قابوس استقبال دفعات من الطالبات منذ عام 2006م ، بمعدل 25 طالبة كل عام بهدف إعداد معلمات متخصصات لمرحلة رياض الأطفال ، وقد بدأت تخريج دفعات منهن منذ عام 2010م ، حيث تخرجت دفعتان إلى الآن 2010 و 2011م ، ويتوقع ان يتخرج حتى 2015 ما لا يقل عن 150 معلمة رياض الأطفال ، كما توجد عدد من خريجات المرحة الثانوية ( الدبلوم العام ) ممن قمن بمواصلة الدراسة في هذا المجال عن طريق الدراسة خارج السلطنة ، من هنا سيتوفر لدينا في السنوات القادمة عدد كبير من خريجات هذا التخصص دون أن يجدن فرصة العمل الحكومي الذي يعطي راتبا شهريا للمعلم بمتوسط يفوق القطاع الخاص ، لذا يمكن الاستفادة من هذه الكوادر بالإضافة إلى الكوادر التي قامت وزارة التربية والتعليم بتدريبها في هذا المجال للسعي إلى البدء في العمل على إدراج التعليم قبل المدرسي ضمن السلم التعليمي الحكومي من خلال فتح عدد من الصفوف للتعليم ما قبل المدرسي في بعض المدارس ، وخاصة المدارس التي تكون في مناطق لا تتوفر فيها الخدمات التعليمية للقطاع الخاص .

والخلاصة ، رأينا جليا اهتمام الدول المتقدمة بمرحلة التعليم المبكر من خلال توفير فرصة التعليم للجميع ، وخاصة الأطفال في هذه المرحلة الحاسمة ، كما يتضح لنا من خلال المبررات التي تطرقنا إليها وغيرها من المبررات التي قد لا يتسع المجال لاستعراضها هنا ضرورة العمل بجدية من أجل تقديم الخدمة التعليمية لهذه الشريحة المهمة سعيا لتطوير التعليم بجميع مراحله ، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال وضع استراتيجية واضحة للتعليم في هذه المرحلة وتذليل الصعوبات التي قد تحول دون نجاحه، وعلى رأسها وجود مؤسسات حكومية متعددة تشرف على التعليم بهذه المرحلة تقدم جهودا متبعثرة هنا وهناك ، مما يستدعي ضرورة تخصيص جهة إشرافية واحدة لهذا التعليم في البلاد ، كما تبرز على السطح صعوبات أخرى تواجه التعليم المبكر في السلطنة نذكر منها إعداد الكوادر وتدريبها وضرورة امتلاكها الكفايات الأساسية للعمل مع الأطفال في هذه المرحلة، وتوفير البيئة التعليمية المناسبة ، وتقديم التمويل المستمر الذي يضمن تطور التعليم قبل المدرسي ، ولكي لا نواجه صعوبات كثيرة في الخطوات الأولى لتحقيق إنجازات جادة في هذا الشأن ينبغي الاستفادة من خبرات القطاع الخاص في إدارة التعليم المبكر وتقديم الدعم الحكومي المادي واللوجستي والفني الملائم للنهوض بالتعليم في هذه المرحلة ، تأسيا بالتجربة الناجحة التي حققتها السلطنة من خلال دعمها للقطاع الخاص للنهوض بالتعليم العالي.