قصة قصيرة: حب بعيد عن غزة

سما حسن –
أصرّ والداها أن تتعلّق بالأمل الأخير فوالدها بحكم منصبه أجرى الكثير من الاتصالات، واحتاج إلى تقديم الولاء لذوي الأمر والنفوذ، إلى درجة التوسّل، لكي يستطيع أن يمنحها تأشيرة سفر عاجلة إلى مصر مجتازاً قائمةً طويلةً من الإجراءات والتوقيعات التي لو تمّت لن تفعل شيئاً سوى إنقاص أيام عمر ابنته في الحياة، وهو يريدها أن تحيا أياماً أطول، فهي الابنة الثانية والأخيرة، وليس له أبناء ذكور وطالما داعبته قائلة: لا تخف يا بابا سوف أنجب عشرة أولاد، وأُطلق عليهم اسمك: أحمد. وتزوجت من شاب لا يحمل من صفات فارس الأحلام التي رسمها الأب في مخيّلته أي صفة، إلا أن ابنته تحبّه بجنون وهي التي حصلت على شهاداتها العليا من دولة غربية مما جعلها تقترب من منتصف عقدها الثالث بلا زواج، وهذا كان غريباً في مجتمعها الذي يبدأ في مصمصة شفاهه وتجهيز لافتةٍ باسم «عانس» لأيّة فتاة بمجرد اقترابها من عامها الثاني والعشرين بلا زواج، إن لم تشفع لها شهادة ضخمة تُلقي بها بين هذه الشفاه التي على وشك أن تمطّ وتضيق لتخرسها، وان لم يشفع لها أيضاً نصيب بارع من الجمال، ومنصب مرموق لأب واسع الصيت. وقد كان لها كلّ هذه المبررات التي جعلت مثل هذا الشاب يحكم شباكه حولها بالقليل من عبارات الغزل، والتي لم تكن تجد الوقت لتسمعها، ولكنّها فتحت لها نافذة قلبها فنفذت، وكان الزواج أمام الكثير من المعارضة غير المجدية من الأب، الذي لم يعتد أن يرفض لها طلباً وهي المدلّلة المرفّهة، والتي قطعت له وعداً بعشرة ذكور يحملون اسمه، ولكن سنوات من الزواج مرت ولم تبد أي بوادر لحفيد قادم، هيّأ الأب نفسه لاستقباله وتهيأت هي له منذ الأشهر الأولى للزواج، خاصّة أنّ أختها التي تكبرها بعام قد رُزقت بابنتين جميلتين، بعد عامين متتاليين لزواجها، وحين كانت تُظهر لزوجها قلقها وانتظارها، خاصّة مع اقتراب الموعد الشهري لطمثها، كان يردّد لها عباراتٍ على شاكلة ألا تستعجل، وألا تشغله ببطن منتفخة، ولكنها لم تكن أبداً سعيدةً ولا راضيةً، لأن حلم الأمومة كان يمرّ في مخيّلتها في كلّ ليلة يجمعهما فراش، نفسها التوّاقة تلك إلى طفل صغير يملأ عليها حياتها، خاصة وهي تكتشف يوماً بعد يوم خطأ اختيارها لشريك حياتها، الذي يبتعد عنها إلى عمله وصفقاته التي تتّسع بفضل اسم والدها وارتباطه بابنته.
حتى كان يوم شكت له من إفرازٍ ما بلونٍ داكنٍ تسرّب من ثديها بعد مداعبة طويلة تخلّلتها قسوة متعمّدة من ناحيته، وكأنه يعبر عن سطوته ونفوذه على جسدها، أخبرته متوجسةً ولم يزد أن ضحك منتشياً وهو يتخيّل نفسه رجلاً خارقاً للعادة، أما حين باحت بملاحظتها لأُمّها، فقد ضمّتها الأخيرة إلى صدرها وهي تحاول إيجاد مبرراتٍ واهيةٍ أو ساذجةٍ مثل: أن هذه علامة لحمل قريب بإذن الله، أو نتيجة لإغراقها بالتفكير في الحمل والأمومة، أو ربما رأت طفلاً صغيراً وتمنت لو كان ابنها وضمّته إلى صدرها ولكن الشكوى سرعان ما تحوّلت إلى عرض أصبح السكوت عنه مستحيلاً، هناك ورمٌ صغيرٌ في ثديها وألم يداهمها فجأةً ويختفي فجأةً، الزيارة الأولى للطبيبة مع أختها بعد إحجام الزوج عن مجاراتها حسب قوله لادعاءاتها وأوهامها، وضعت أمامها كشفاً كبيراً باللاتينية لمجموعة من التحاليل التي يجب إجراؤها، والتي لا تظهر نتائجها في نفس اليوم. سرطان الثدي، هكذا كانت نتيجة التحاليل، وهكذا أحجم زوجها عنها، ولم يحتج إلى كثير من الأيام، ليغادر البيت إلى غير رجعة…..
لقاؤها الأول به كان في قاعة أحد المستشفيات الكبرى بمصر، اللهجة الفلسطينية والغزّية بالتحديد جمعتهما في هذه القاعة، وأخبرته أنّها بصحبة والدها الذي يعالج من السرطان، لا تدري لم أخفت عنه الحقيقة، ربما هرباً منها وربما لأنها لا تريد عطفاً أكثر مما تجد ممن يعرفون حقيقة مرضها، أمّا هو فقد أخبرها أنه يقوم بنفس المُهمّة، ولكن بصحبه أخيه الذي يعاني من سرطان المثانة وتلا ذلك لقاءات يومية كانت في حديقة المستشفى الواسعة والعابقة بالزهر، رغم تسرّب رائحة البنج والدواء إليها، ولكنّها حين تنظر إلى عينيه المُتعبتين واللتين يتسرّب إليهما الوهن يوماً بعد يوم، كانت تشعر أنها في أجمل بقاع الأرض، وأكثرها نُضرةً وخضرة، الحديث بينهما يصل إلى كل شيء إلا المنطقة المُحرّمة والتي رأتها كذلك، فلم تُخبره بأمر الزّوج الذي ولّى هرباً، أمّا هو فلم تعرف عنه إلا منشأه البسيط، وعمله في مساعدة أخيه المريض، وأن وصولهما إلى هذا المستشفى الضخم، كان بعد حصولهما على تبرّع كبير من أحد أثرياء غزة. كان ينظر لها كما ينظر المرء إلى وردةٍ جميلةٍ توشك أن تذبل بعد قطافها من بستانها بأيام، فتُطبق عيناه على محاسنها كما تُطبق تلك الزهرة بحنوّ على أوراقها التي تحتضر، وكما تُطبق فراشةٌ على جناحيها وهما يوشكان على الاحتراق من لهب مصباح جذبها نوره وبهاؤه. اقترب موعد عودتها إلى غزة ومعها تقرير طبي مختصر أن وقتها في هذا المستشفى هو إهدار لساعات وداعٍ يجب أن تقضيها بين ذويها، التقت به في الحديقة التي شهدت لقاءاتهما الأخيرة، وهمّت بأن تفتح فمها لتخبره الحقيقة، فسبقها دمعها وشقّت سكونه وظلمته بحكايتها التي لم يُعقّب عليها بحرف، ولكن أضاف عليها أنه يعرف كل شيء منذ اليوم الأول للقائهما، ولكن ما لا تعرفه انه أيضاً يُعالج من سرطان في مراحله الأخيرة، وليس أخوه كما ادّعى، ضمّها إليه أكثر، وحضن الليل احتضار حبّهما حتى الفجر، وحين أفلتت يدها منه، كانت تعلم أنه اللقاء الأخير به، ولكنّها شعرت لأول مرّة في حياتها أنها قد ارتوت، ارتوت بعد ظمأ شديد، من قطرة ماء.