ثروة البهلوان

صالح العامري –

الكلمات لا تنام
نحن من ينام، بينما تبقى الكلمات مستيقظة.
نحن من يطمرنا النسيان في جوفه، ويبتلعنا الموت في بيته الضيق، بينما يسير دولاب حظ الكلمات إلى الأعالي، إلى المسار الذي تتناوبه الغيوم في تحولاتها وترحالاتها.
نحن من سيرقد الرقدة الأخيرة، بينما ستظل الكلمات تناوش حضورنا الآفل وشهوتنا المثقوبة وأسفارنا الغابرة.
نحن من سيمضي فحسب، بينما ستقيم الكلمات وحدها في ديارنا المهجورة.
قال لي
لو كنتُ ملِكاً لأصدرتُ مرسوماً ملكياً يقضي بتحويل الخنافس إلى أقمار، الضفادع إلى أطباقٍ طائرة، المدن إلى قرى مسحورة، العربات إلى مجرد حمامات، الطرقات إلى معكرونة بصلصة الشِّعر.
(قلتُ في نفسي: ماذا يقصد هذا الرجل؟ هل هو معتوه؟ أم ملاك؟).

أقاربي هي الطرقات
من هذه الطرقات، التي تسيل ثرواتها على قميصي ووجهي، لديّ فضة مدرارة، لا أعرف كيف أشحنها لكم. لديّ أفكارٌ ناضجة جدا، تتوالد في الطرقات، سرعان ما أنقعها في سائل العدم الصادق، فيخرج بهلوانها ليقتلني بالضحك والبالونات المتفجرة.
أشعر بامتنان كبير لهذه الطرقات، لأنها قرابتي المفضلة، ومنها- في فوضى الروح وشهوات الجسد- أغترف شوقي الكبير لاحتضان العالم.
أكثر من أنثى
أنتِ أكثر من أنثى، أكثر من امرأة. أنتِ لعنة مؤكدة، تهوّرٌ ينزف الشهد والنشيد، بلاغة إلهية تستعصي على الوصف، طغيان يجرفني ويجرف الأرض التي أقع على صفحتها، فتنة تطوّح برأسي في مجرة التين والعنب والحليب، رعبٌ حلوٌ يخترق ضلوعي لنأكل بعضنا بعضا، مدفع شهيّ يدكّ أفكاري المسبقة عن النساء، حربُ استنزافٍ تطحنني لكي أفهم معنى اليمام الساكن في خديك، طلقة تخترق جبيني لكي أولد طفلاً من جديد في عصف روائح تفاحك، سهم ينغرس في قلبي لكي أغني في ريق لسانك، طائرٌ من حُلم وزنابق أختبئ بين جناحيه، ولع مكرّرٌ مدوّرٌ مجنونٌ يجتاحني ألف مرة ومرة في اللحظة الواحدة، عُرْيٌ مضاعفٌ يحدثني عن صلف الوردة وجحيمها العذب.
نملة ناجية من الطوفان تتحدث
أغرقنا الحقير بطوفانه، مستخدماً خرطوم مياه غليظ، في الوقت ذاته الذي كان يقضي فيه حاجته في دورة مياهه الطاعونية. كنّا هناك، أنا وكتيبة من الشغالات الباسلات، تحت زاوية من المغسلة البيضاء الصقيلة. كنا نحاول أن ندحرج وجبة سمينة، عبارة عن خنفساء كبيرة، ماتت لتوّها. وإذ كنتُ أوّل من اكتشف ذلك الصيد الثمين، فقد أطلقتُ روائح كيميائية معهودة لنا، تقاطرت إثرها مجموعة كبيرةٌ من النمل المستعد للانطلاق على حواف الثكنة المجاورة لباب صالة البيت.
كان الرجل قاعياً على كرسيّ راحته، وكنّا نتجاذب أطراف الحديث عن الطريقة العملية لقطر تلك الخنفساء. كانت الأمور عادية تماماً، حيث كانت وظائف البشري البيولوجية تشتغل حسب وتيرتها المألوفة، كما كانت ساعة تفاهمنا المشترك، نحن النمل، تكاد تنتهي بالاتفاق على طريقة سحب تلك الخنفساء. استغرقت المسألة برمتها ثواني معدودة، وإذا بالرجل بعد قرقعة كبرى، يمد يده جهة الصنبور، فيرشنا بسيل هائل من المياه. لا أعرف ما الذي دفعه للتصرف بهذه العدوانية ضدنا. لا بدّ أنّه لمحنا بطرف عينيه الشكاكتين، فدلق المياه نحونا، رغم أنّه لا يزال قابعاً بعد على كرسيّه المريح.
بعد الزخّة الأولى من المياه، تفرّق الحشد إلى نصفين، النصف الأولى انطرح على الجدار، وتسلقّ منهم من تسلّق، أما النصف الثاني فانساب مع الماء جهة الرجل، وبالتالي إلى حفرة التصريف المائيّ. إلى تلك الدرجة وقد كادت الأمور أن تكون مفهومة لدينا، فلم تكن هذه هي المرة الأولى التي نتعرض فيها إلى مثل هذه النكسات، غير أنّه من المستغرب أن يعاود الرجل محاولته لرشنا من جديد، معرّضاً الحائط ومجرى الماء وثقب الصرف لوابل من أحقاده البشريّة وضغائنه الكبرى.
كان مصراً على إبادتنا جميعاً، ودحرجتنا إلى ثقب المصرف، مكثفاً غاراته المائية نحونا. ولم يرحمني من هذا التصرف الساديّ والوضاعة البشرية سوى تسلقي السريع للجزء العلوي من المغسلة، والتريث هناك قليلاً حتى لا ألقى حتفي كبقية رفيقاتي.
أذكر ذلك الطوفان المدمر، الذي اجتاحنا ذات ضحى مرصودٍ بقوة الشمس الحارقة، والذي لم يبق بعده إلاي، بعد أن انطرحت الأجساد النحيلة لفريق النمل في ذلك الثقب اللعين. لكنني أذكر، أيضاً، في غمرة كآبتي المريعة وصدى الأنغام الموسيقية التي يزفرها النمل في جنبات الكون، بأن حالة انتقام هوجاء اجتاحتني من ذلك البشريّ الفاسد، لم أنج منها إلا بعد قرصتُ الحلمة اليسرى لزوجته المسترخية على السرير بعد الغداء، ثم عاودت بعد بضع ساعات، بعد أن استعدتُ حالة غددي السميّة، عضّ الشفة السفلى لابنهما الرضيع، متسلقاً في حالة يأس من البشر جميعاً، مهده الآمن.
لعلني أكون مخالفة لمواثيق النمل وعهوده، ولكن لعلّ تلك الحكة الصعبة في صدر المرأة وذلك الانتفاخ لشفة الابن، في قانون ملك الغابات والحيوانات والحشرات، تعادل تلك الإبادة الجماعية لصديقاتي العاملات. لعلني كنتُ عادلة تماماً؛ فأنا لم أفكّر بقتل أحد، كما لم يراودني قط أن أكون غير مشروع (قارصة) أو (عضّاضة) منذ الآن!.
قصة حصان
1- دربٌ طويل
درب طويلٌ يفضي إلى التيه، دربٌ وَعِرٌ مثل قلب متشابك. لا كمال، لا سكن حقيقي، بل وِقرٌ هائلٌ على ظهر الكائن، حمولة، لعلها جثة النهار، على حصان تطقطق حوافره، مُهَرْوِلاً قرب النهر، ضائعاً في غمام الأشجار.
2- حزنٌ دامع
حزيناً ودامعاً لأنّه وحيد بين الجميع، عارفاً النهاية المحتّمة، ومع ذلك هنالك عيدٌ ما، حفلة صغيرة، لا بد من قطفها الليلة؛ لكي يرجّ زجاجة الأرض في عينيه، لكي تنداح القصيدة من عصفور جبينه الأشهب، لكي تنهمر الأغنية في مخازن بيادر الليل وجداجد المنفيين، لكي تلتحم الحمحمة الرهيبة بخطّ البرق المتعرج في سماء الذين يعبرون.