قارئ المخطوطات: محرز الهدف الأول من وضعية التسلل المشروعة

سليمان المعمري –

الجمعة 9 يناير 2015

أن يكتب كاتب عن الموت أمرٌ مختلف تماما عن مواجهته بشكل مباشر .. هذا ما كان يدور في خلدي وأنا أتجاوز دوار صحم في الطريق الى صحار .. كان أبي الذي يتأكد من وضعه حزام الأمان يتذكر حبيب المعيني في زيارته الوحيدة واليتيمة لنا لدعوتنا لعرس نجله مازن.. قلتُ لأبي سنتوقف بعد بوابة صحار مباشرة، إذ ينتظرنا قرب محطة «نفط عُمان» أربعة من الكتّاب الذين سنمشي بسيارتنا أمامهم حتى نصل إلى خيمة العزاء في الطريف .. الكتاب الأربعة هم الشاعر محمد الحارثي والقصاصون يحيى بن سلام المنذري وحمود الشكيلي وحمود سعود، وقد وصلوا قبل دقائق فقط قادمين من العاصمة مسقط (على مبعدة 250 كيلو مترا من صحار) .. بعد أن صافحهم أبي ورحب بهم ورحبوا به غذذنا السير: «مازدايَ» في الأمام ، وخلفها «تاهو» يحيى سلام . وكنت أعرف باتصال هاتفي مسبق أن «صني» الشاعر سماء عيسى وراءنا وفيها كتّاب آخرون. وفي الأمام ينتظرنا أيضا بدر الجهوري بـ«أكورده» التي ستستعرض أمامنا خبرتها بطرقات صحار .. في فترة صمت أبي القصيرة ونحن نمخر الطريق كنتُ أفكر أن عبدالله حبيب الذي خصص كتاباً كاملا لرثاء من رحلوا من أحبابه لا شك أن هذا الرحيل الجديد سيكون مختلفا، ولن يمر عليه بسهولة. لعلها هي شجرة الصنوبر التي أشار اليها في كتاب رسائله الجديد «الفراغ الأبيض الذي سَيَلي» الذي بالكاد انتهيتُ من قراءته كمخطوطة قبل أيام قليلة من رحيل أمه. كان يسأل ميسون صقر في تلك الرسالة معزّياً: «أترين هل كنا سنخاف من الديناصورات لو لم تنقرض؟. الموت لن ينقرض، فَلِمَ الخشية من الديناصورات؟. لِمَ الصُّدود عن الغابة؟». ثم يستدرك كمن انتبه لأمر مهمَّ :»لا أقول هذا لكِ بل لنفسي أيضاً حين تهوي شجرة صنوبر في العاصفة القادمة».. هَوَتْ شجرة الصنوبر إذن، وها نحن الآن أمام خيمة العزاء المنصوبة بجانب جامع الشيخ خليفة بن زايد لنعزّي/ نعري بعض أغصانها. وأكبر الأغصان هو عبدالله حبيب نفسه الذي لم أتخيله يوما متصدراً مجلس عزاء يحيّي هذا ويشكر ذاك. ولكن يبدو أن على المرء أن يتوقع مثل هذه المفاجآت التي يُتحفنا بها القدر مرةً كل عدة سنوات، أنا الذي رأيت بأم عيني في مارس 2011 الشاعر محمد الحارثي متصدراً الصف الأول لصلاة الجمعة في ساحة مجلس الشورى بمسقط التي كان الشباب المعتصمون هناك حينها يسمونها «ساحة الشعب»!.
صافحنا جميع المعزين، ورحب عبدالله حبيب ترحيبا خاصا بأبي وقال له معاتبا بود : «كلفت نفسك الوالد». وما هي إلا دقائق حتى وصل سماء عيسى وخلفه طابور من الشعراء: عبد يغوث، وهاشم الشامسي، وعبدالله البلوشي وشقيقه سليمان. ثم ما لبث أن أتى من عبري القاصان سعيد الحاتمي وخليفة العبري، ثم وصل حاتم الطائي رئيس تحرير جريدة الرؤية، وبعدها الشاعر علي الرواحي بصحبة مجموعة من موظفي بلدية مسقط الحاليين والسابقين.. إنها خيمة ثقافية إذن، تعوض صالون صحار الثقافي الذي لم تمض أشهر قليلة على إغلاقه.
جلستُ بالقرب من مازن حبيب الذي بدا متماسكا بعد يوم واحد فقط من وفاة أمه، تماما كما إخوته الآخرين. وأنا ألقي نظرة عامة في الخيمة كنتُ أستعيد بزهو أن مؤلفي خمسة من آخر اثني عشر كتابا قرأتُها في أربعة أشهر موجودون أمامي الآن في العزاء. أحد عشر كتابا من الاثني عشر كانت مخطوطات، بما يفرضه هذا الأمر من زهو شخصي مضاعف.. أن تكون قارئ مخطوطات هو أن تكون القارئ الأول، القارع الأول لجرس الباب، الداخل الأول من العتبة، محرز الهدف الأول من وضعية التسلل المشروعة، السبّاق الى ارتشاف العسل، (وإلى تجرع السُمّ أحيانا) . شعور لذيذ بالتفرد أن تسبق جميع القراء بقراءة كتاب جميل. وفي الحالة الأخرى أنت سقراط تشرب السُم مختاراً لأجل اسعاد البشرية التي لن تتعرض بعدك – وبسببك – لهذا الاختيار/ الاختبار القاسي (هذا مع افتراض أن المؤلف كان سيكترث لرأيك أصلا، ولن يصر بعدك على تجريع سُمِّه للجميع) . لكن هذا الشعور بالسعادة لقراءة كتاب جميل سرعان ما يتبدد عندما تكتشف أن عليك أن تتوقف بين صفحة وأخرى، لتصوّب هذا الخطأ اللغوي، أو لتعلّق على تلك الجُملة، أو لتدلي برأيك في تلك الفكرة.. مخطوطة الكتاب الجيد هي أشبه برجلٍ كريم يدعوك في بيته إلى وليمة فاخرة وأنت تتضور جوعا، ولكن كلما رفعت اللقمة إلى فمك استوقفك ليسألك عن صحتك وأحوالك ورأيك في الوليمة وهل أنت مرتاح في جلستك الخ .. يبدو لي الآن أن وظيفة «محرر الكتب» (التي تُعتبر نوعاً من الترف لدى دور نشرنا العربية المبجلة في حين أنها من أساسيات صناعة النشر في أمريكا والدول الأوربية) هي من أصعب المهن، وأقلها إمتاعا لصاحبها . أظن أن الحانوتي يستمتع بمهنته أكثر من «محرر الكتب»، الا في حالات نادرة، عندما يكون الكتاب الذي تقرأه ممتازا، ولا تجد عليه كثير ملاحظات، مما يجعلك مسترسلا في قراءته باستمتاع. ليس في عُمان مهنة حانوتي والحمد لله، وان كان الموت يستطيع تدبّر أمره بدونها.
كان أبي يؤكد على الشاعر محمد الحارثي الذي يجلس بجواره بأن غداءه ورفاقه سيكون معنا في البيت، بينما كنتُ أتأمل الوجوه الكثيرة التي تعج بها الخيمة.
في طريق العودة من الطُريف الى الردة كان أبي يُبدي إعجابه بلطف عبدالله حبيب وإخوته الذي عوّض عدم رؤيته لحبيب الأب. أما أنا فكنتُ أفكر أن عليَّ التدرب على أمرين قبل وصول ضيوفنا، أحدهما سهل، والآخر صعب. السهل هو أن أتحاشى مخاطبة صديقي عبدالله الكلباني باسمه الأدبي أمام أبي ، ومكمن السهولة أنني لم أعتد أصلا أن اسميه «عبد يغوث». أما الصعب فهو أن أتحاشى مخاطبة الأستاذ سماء عيسى بهذا الاسم لأنه سيوجد لبسا لدى أبي الذي ذكّرتُه قبل قليل أن هذا الرجل اسمه عيسى بن حمد الطائي، وقد كان موجوداً في عزاء أخي محمد قبل خمس سنوات . قبل أن نصل دوّار صحم اقترح أبي أن نغيّر الجامع الذي اعتدنا الصلاة فيه كل جمعة وهو جامع الحويل الذي يبعد عشرة كيلومترات عن الردة، وأن نذهب الى جامع أقرب الى البيت لكي لا نتأخر على ضيوفنا . ترجلنا عند جامع ديل آل عبدالسلام لنكتشف أن الدقائق العشرين التي كنا سنقضيها في طريق العودة من الحويل الى بيتنا قضينا أكثر منها في انتظار انتهاء الخطيب الممل الذي يحذرنا من «الدش» والفضائيات وخروج المرأة من البيت! .. أيُعقل أن مثل هذا الخطب مازالت تتلى في مساجدنا ونحن في 2015 !!! .. خرجتُ مضرجاً بخيبة أملي وأنا أردد : «من سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة؟!» مستذكراً عبارة سمعتُها من الكاتب محمد الشحري قبل ثلاث سنوات عند عرضه هذا الكتاب الجميل للمفكر الصادق النيهوم في برنامجي الاذاعي «كتاب أعجبني»: «اذا كانت أحلامنا جميلة ومشروعة فان أول خطوة لتحقيقها هي أن نستيقظ» .. يقول النيهوم إن الجامع الذي يفترض أن تكون وظيفته جمع الناس ليتناقشوا ويتداولوا فيه أمور حياتهم وشؤونهم السياسية والدينية أصبح دوره اليوم لا يتجاوز أداء الصلاة .. وأن يوم الجمعة المفترض أن يكون يوما مفتوحا لتداول القضايا السياسية والاجتماعية الآنية تحول اليوم إلى مجرد تكرار خطب رتيبة مملة بين مضمونها وبين حياة الناس بونٌ شاسع .
في مجلسنا بالردة استطاع عبد يغوث، الذي هو للتذكير عبدالله الكلباني، أن يضفي جواً من المرح بتجاوبه مع قفشاتنا – التي استغللنا فيها معرفتنا بعمله في وزارة الاسكان – مدعين أنه المسؤول الأول عن توزيع الأراضي في مسقط ، وطفق يوزع علينا الأراضي في الأماكن التي نحددها وأبي يضحك . وبدا أن الحارثي استطاع أيضا اثارة اعجاب أبي بحديثه وقفشاته. وكيف لا وهو الرجل الرحّالة الذي يألف الأماكن وناسها بسرعة ، ويكتب عنها كتابة مقيم لا كتابة مسافر.. كان كتابه «محيط كتمندو» من المخطوطات التي يحق لي أن أزهو بأني من أوائل قارئيها (لستُ وحدي بالطبع، ذلك أن الحارثي لا يركن الى قارئ وحيد قبل النشر، فقد علمت منه أن المخطوطة سبقني الى قراءتها كل من الشاعرين صالح العامري وابراهيم سعيد، والقاص حمود الشكيلي) .. أن لا يكتفي كاتب بزيارة وحيدة للمكان الذي يود الكتابة عنه، بل يزوره ثلاث مرات خلال ثماني سنوات ويقيم فيه لفترات طويلة لَهو أمر مثير للإعجاب. عندما فاز كتاب «عين وجناح» للحارثي بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات عام 2003 نوّهت لجنة التحكيم بكونه «يجمع أناقة اللغة وطرافتها وشاعريتها إلى دقَّة الملاحظة، والحضور الطَّاغي للخبرة الروحية والعمليَّة بالمكان والشَّغف به، وبقصصه، وبين اتساع رقعة التِّرحال ليشمل أربع قارات، من دون أن يكون الهدف من السَّفر غالباً إلا مغامرة السَّفر والشَّغف الخالص به، وهو ما يبعد أدب الرحلة عن فكرة المصادفة والعرضية، ويقترب به من فكرته الأصلية.. مغامرة الاكتشاف، وحبّ التَّدوين، والرغبة في الإمتاع»، وهذا بالضبط ما حصل مع الكتاب الثاني «محيط كتمندو» الذي انضاف الى الميزات السابقة ترسخ خبرة الكتابة السردية لدى الحارثي (حيث أصدر عام 2013 روايته «تنقيح المخطوطة»)، ورغم أن رقعة الترحال ضاقت ظاهريا حيث أن مكان الرحلة هو الهيمالايا فقط، الا أن العوالم الساحرة والحكايات المدهشة لم تضق مطلقا، هذا إذا لم نقل إنها اتسعت وتناسلت كتناسل حكايات ألف ليلة وليلة، لدرجة تجعل القارئ يشعر أنه إزاء رواية مكتوبة بصبر وأناة، أكثر من كونه يقرأ مجرد كتاب أدب رحلات. كيف لي مثلا أن أنسى تلك الزيارة لمقر الأخويَّة البراهمية، حيث استقبلته راهبات هندوسيات هو وأخاه المسلم وصديقتهما المسيحية، وحيث نشأت كراهية متبادلة (لا أدري حتى اللحظة أهي حقيقية أم متخيلة!) مع «الأخت الهندوسية الكبرى» مثلت النفور المتبادل بين الكائن المتحرر والأوصياء على الدين في كل مكان. وكيف لي نسيان الايرلندي العجوز جو هامند صاحب القلعة العجيبة في النيبال وحكاياته عندما كان مجندا في عُمان في أواخر الخمسينات في سلاح المظلات بالجيش البريطاني.. أو تلك المرأة النيبالية المتزوجة التي انتحرت في جومسوم لافتضاح علاقتها بعشيقها الذي يطير إليها من بُخارا (التي يصر الحارثي على كتابتها بالألف تمييزا لها عن بخارى الأوزبكية).
على أن أمراً آخر جعلني أعجب بهذا الكتاب لا علاقة له بالرحلات بل بما يمكن أن أسميه «شرف الخصومة» عندما سرد الحارثي شهادته حول الخلاف مع الشاعر سعدي يوسف، الذي اتهم الحارثي وأخاه بــ»اختطاف» صديقته الانجليزية جوان ماكنلي أثناء زيارتهما (سعدي وماكنلي) لعُمان في مارس 2011. كنا نتابع القضية حينها من طرف واحد فقط هو الشاعر العراقي الذي لم يكتف بشتم صديقَيْه السابقَيْن، بل شتم عُمان كلها بقصيدة عمودية ركيكة. وكان الشقيقان صامتَيْن لا يردان. غير أن محمد الحارثي سرد في كتابه هذا الحكاية بهدوء ، وبدون أن يقلل من احترام الشاعر الكبير، ومختصرها أن ماكنلي هي التي قررتْ بنفسها وبكامل اختيارها الحر عدم العودة مع سعدي. وفي موضع آخر من الكتاب عندما نَحَتَ الحارثي تعبيره الخاص «الغلمانون» في عبارته «وكان أولئك الملائكة الغلمانات والغلمانون» أخبرنا في هامش الصفحة أن سعدي يوسف لا سواه هو من ألهمه هذا النحت، عندما جمع مفردة «جنرال» في احدى قصائده على «جنرالون» وليس «جنرالات» .
قُبَيْل الغداء سأل حمود الشكيلي أخي محموداً عن ابنته شهد التي عرفها من نصي: «شهد محمود التي كسرت النظارة»، وبُعَيْد الغداء لمحتُها من بعيد فحملتُها إليهم . أشبه علاقتي الخاصة بـ«شهد» البالغة من العمر ثلاث سنوات دوناً عن بقية أطفال العائلة بعلاقة عم قنديل أحد شخصيات رواية المصرية دينا عبدالسلام «نص هجَرَه أبطاله» بالطفلة سَحَر جلال. كنت قد كتبتُ عن هذه الرواية الجميلة ، وحدثتُ كاتبتَها عنها، ولكني لم أقل قط إن علاقة هذا الخادم الأصم الأبكم الأحدب بتلك الطفلة الصغيرة هي أكثر ما لامسني إنسانيا في تلك الرواية. كان ظهور تلك الطفلة في حياة عم قنديل بمثابة تحرير له من الجفاف الانساني، غسيل لروحه من أدران الحياة .. سأقول إنها ابتسامة ما تبقى من حياته هو الذي قضى عمره في خدمة أبيها بحب، ولكن ليس كحبه لسَحَر. كان حنونا عليها ، يحملها بتؤدة بين راحتيه، يخبئها بالمعطف كي لا يطولها الهواء، ويفرد لها المظلة حتى لا تبللها الزخات، وحين تقلها الحافلة يلوح لها ويظل نظره معلقاً بما خلفته من فراغ. وفي الظهيرة ينتظر عودتها من المدرسة بفارغ الصبر، وعندما تلوح الحافلة في الأفق يهرول بنشاط، يحمل عنها الحقائب، ويتفحصها ليتأكد أنها على ما يرام، وعندما تطبع هذه الطفلة قبلة على وجنته يبتهل للسماء .
لم يمض وقت طويل على خروج شهد من المجلس وعودتها الى أمها حتى قرر ضيوفنا مغادرة الردة والعودة الى مسقط .. كانت الساعة الثالثة ظهرا تقريبا . صعد الأصدقاء الى سيارتَيْ سماء عيسى ويحيى سلام .. صافحهم أبي وصافحوه . وانطلقت السيارتان مشيّعتَيْن بتلويح أيادينا ودعاء أبي.
• تنشر بالتزامن مع مجلة عالم الكتاب الثقافية