
سمير عواد -
أوردت مجلة «دير شبيجل» خبراً في عددها الصادر بتاريخ 28 أكتوبر الماضي، جاء فيه أن جهاز الاستخبارات الاسرائيلية «موساد» ضغط على جهاز الاستخبارات الألمانية «بي أن دي» من أجل عدم الافراج عن معلومات «سرية» يحتفظ بها الألمان، حول التحقيقات التي قاموا بها بعد عملية ميونيخ، التي نفذها فدائيون فلسطينيون ابان الألعاب الأولمبية عام 1972 في العاصمة البافارية.
فقد استطاعوا التسلل بتاريخ الخامس من سبتمبر 1972 رغم كل الاجراءات الأمنية المشددة التي فُرضت على مقر البعثة الاسرائيلية وقاموا بأسر بعض أعضاء الفريق الاسرائيلي، وطالبوا اسرائيل بالافراج عن معتقلين فلسطينيين في السجون الاسرائيلية. وكانت هذه أجرأ عملية قام بها الفلسطينيون في الخارج. وحسب رأي الكاتب الاسرائيلي سيمون رييف، فان عملية ميونيخ التاريخية كانت واحدة من أهم العمليات في تاريخ الصراع الفلسطين/الاسرائيلي، كما أنها سلطت الأضواء الدولية على هذا الصراع، ولاسيما حق الفلسطينيين في استخدام القوة للضغط على اسرائيل كي تتنازل لهم عن حقوقهم المشروعة.
وقالت المجلة المذكورة أنها تقدمت بعد مرور أربعين عاما على الواقعة، بطلب السماح لها للاطلاع على محضر التحقيقات، لاسيما وأن المستشارة الألمانية الصديقة لاسرائيل، أنجيلا ميركل، كانت قد وعدت في عام 2012 بالافراج عن هذه الملفات. ولم يعترض أحد في الاستخبارات الألمانية على موقف المستشارة، الى وقت قريب، بعدما ضغطت اسرائيل على أصدقائها الألمان وحذرتهم من مغبة الافراج عن الملفات، لأن اسرائيل لا تريد جدلا جديدا حول القضية، وخشية ظهور الحقيقة الى الرأي العام.
ذلك أن أكثر ما تخشاه اسرائيل، هو الافراج عن محضر مكالمة جرت في ذلك الوقت، بين غيرها رد فيسيل رئيس الاستخبارات الألمانية آنذاك، وبين زفي زامير رئيس الموساد، لكن المؤرخين ليسوا واثقين ما اذا كانت هذه المكالمة تمت خلال العملية أو بعد وقت قصير على نهايتها الدامية على أرض المطار العسكري في «فورستين فيلدبروك»، لكنهم يشيرون الى أن مضمونها هو الذي أدى الى تبادل اطلاق النار مع الفدائيين الفلسطينيين، الأمر الذي أسفر عن مصرع خمسة منهم وتسعة من الرهائن الاسرائيليين بالاضافة الى شرطي ألماني. وقالت معلومات «دير شبيغل» أن زامير كان موجودا في المطار العسكري الألماني حين وقع الصدام المسلح الذي يحتمل أن يكون بدأ باشارة منه، لكن ما زال هناك تعتيم اعلامي حول دوره الحقيقي في أسوأ عملية لتحرير رهائن قام بها الاسرائيليون، وهو ما يفسره الحاح الموساد على الاستخبارات الألمانية، بعدم الافراج عن ملفات التحقيق بعملية ميونيخ، لئلا يتعرض عملاء الجهاز الاسرائيلي الذين ما زالوا على قيد الحياة الى الملاحقة والتهديد.
وبينما كان يأمل الألمان بعد مرور أكثر من أربعين عاماً على عملية ميونيخ، في اظهار حقائق ترد اتهام الاسرائيليين لهم بالتخاذل واتخاذ قرارات أسفرت كما زعم الاسرائيليون بعد فشل عملية تحرير الرهائن، عن مصرع أحد عشر رياضيا منهم، تدخلت اسرائيل ونجحت مؤقتاً في فتح ملفات القضية. ففي نهاية أغسطس 2013 روجت اسرائيل معلومات تتضمن اتهامات للألمان بأنهم يتحملون مسؤولية فشل عملية تحرير الرهائن، على الرغم من ذكر الصحافة الألمانية أن رئيسة الوزراء الاسرائيلية جولدا مائير وجهت رسالة شكر بعد فشل العملية الى المستشار الألماني فيلي برانت، قالت فيها إنها تقدر ما سعى اليه الألمان للحفاظ على أرواح الرياضيين الاسرائيليين. لكن وراء أبواب مغلقة كان الاسرائيليون يفكرون بشيء آخر، اذ عندما عاد رئيس الموساد الى اسرائيل، كتب تقريرا الى مائير جاء فيه أنه يأسف لأن يطلعها بأن مهمة تحرير الرهائن الاسرائيليين في ميونيخ باءت بالفشل، وأن جميع الرهائن ماتوا وقد شاهد ذلك بأم عينه، كما وجه زامير في تقريره انتقادات قوية للجانب الألماني وحملهم مسؤولية قتل الرياضيين الاسرائيليين واتهمهم بسوء التدريب في مواجهة هذه العمليات وعدم اكتراثهم للمقترحات التي قدمها لهم لأنه كان يعتزم اطالة مدة المفاوضات مع الفدائيين الفلسطينيين بينما كان الشغل الشاغل للألمان الاسراع في حسم القضية كي تستمر الألعاب الأولمبية. وعندما خطف فدائيون فلسطينيون طائرة تابعة لخطوط لوفتهانزا الألمانية الى مطار مقديشو، وطلبوا الافراج عن المعتقلين الفلسطينيين في السجون الألمانية الذين شاركوا في عملية ميونيخ، ورضخ الألمان، ثار غضب جولدا مائير وأمرت على الفور بانشاء فرقة اغتيال اسرائيلية لتصفية الفلسطينيين المفرج عنهم أينما كانوا.
ويستفاد من معلومات أفرج عنها الجانب الاسرائيلي في عام 2012 أن اسرائيل فكرت حينها في مطالبة ألمانيا بوقف الألعاب الأولمبية، لكنها خشيت أن يؤثر ذلك على علاقاتها المتميزة مع ألمانيا، كما ذكرت المعلومات أن اسرائيل لم تتوقع أبدا أن يتعرض أفراد بعثتها في ميونيخ الى هجوم، ولم يتوفر لديها في ذلك الوقت ما يشير الى احتمال استهداف البعثة رغم حصول عدة عمليات أوحت للقادة الاسرائيليين بأن الفلسطينيين يستهدفون أهداف اسرائيلية في الخارج.
ورغم كل ما كُتب وقيل عن عملية ميونيخ خلال العقود الأربعة الماضية، الا أن الحقائق ما زالت حبيسة الأدراج في ملفات يرفض الاسرئيليون والألمان الافراج عنها. والمعلومات التي أفرجت عنها اسرائيل في عام 2012 بمناسبة الذكرى الأربعين لعملية ميونيخ، فقد جاءت من وجهة نظر كثير من المراقبين غير دقيقة، لأنها لم تشر الى الدور الحقيقي الذي قام به رئيس الموساد زامير في ذلك الوقت، حيث إنه متهم بتحريض الألمان على قتل الفدائيين الفلسطينيين، لكن الظلام الدامس، والفوضى التي حصلت في تلك الليلة، أدت الى مصرع العديد من الرهائن الاسرائيليين برصاص الألمان وكذلك برصاص عناصر الموساد، ولعل هذا هو السر وراء تكتم اسرائيل على كشف الحقيقة ولو بعد مرور أربعة عقود على تاريخ أجرأ عملية فدائية ضد اسرائيل في الخارج.