تونس «د.ب.أ»: يجلس الحاج مبروك على كرسيه قبالة محله في شارع ضيق لا يتعدى عرضه المتر ونصف المتر بينما يتفرغ ابنه كريم لإقناع الزبائن والمارة باقتناء الأواني النحاسية المرصوصة بواجهة المحل.
وعلى الرغم من الحركية التي يشهدها شارع سوق النحاس وسط المدينة العتيقة إلا ان الغالبية من المارة يكتفون فقط بالتمعن في الأواني المتدلية عبر الأشرطة ثم لا يبدون اي اكتراث بالشراء.
وداخل أزقة المدينة يمكن سماع دوي طرق النحاسين بشكل واضح قبل الوصول الى سوق النحاس لكن بمجرد الدخول الى السوق فإن ورشة او اثنتين فقط ما زالتا تحافظان على كامل مراحل التصنيع لهذه الحرفة التقليدية.
وفي إحدى الورشتين يعكف أحد الحرفيين المتدينين على طرق أحد القصاع النحاسية ويرفض ان يقطع تركيزه أو يخسر وقته الثمين بالحديث.
بينما تأخذ اللوحة النحاسية في الأخير الشكل المطلوب عبر تقنيات مختلفة كالدق والانحناء والتسوية والتقويم، ثم تغطى القطع النهائية بطبقة رقيقة من الصفيح لحمايتها من التأثير السلبي للأكسدة.
وتشتهر تونس منذ القدم لدى السكان الأصليين من البربر قبل الفتح الإسلامي في القرن السابع، بانتشار الحلى النحاسية والفضية مثل المقياس والمرش والخلخال.
ويقول الحاج مبروك رمضان «71 عاما» وهو يزاول المهنة منذ 54 عاما بالسوق لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ) «قبل خمسين عاما كان السوق بمثابة خلية نحل لا تهدأ فيه علميات الطرق على النحاس.
الورشات كان عددها يفوق الثلاثين.
اليوم لا يتعدى عددها أصابع اليد الواحدة».ويضيف رمضان «الكثير من الحرفيين هجروا المهنة بسبب غلاء النحاس وارتفاع كلفة التصنيع وقلة اليد العاملة».وبحسب الشيخ رمضان تقدر كلفة مادة النحاس المورد في الأغلب من فرنسا وتركيا بنحو 12 دينارا تونسيا للكيلوجرام الواحد لكن بسبب الاحتكار ارتفع سعره إلى 23 دينارا.
ويتابع قائلا «القطاع ازداد تدهورا لان بعض رؤساء الأموال سيطروا على صناعة النحاس ما أدى إلى الاحتكار وتضاعف الأسعار».وبحسب المراجع التاريخية يعود تاريخ بناء سوق النحاس إلى عهد الدولة الحفصية خلال القرن الثالث عشر الميلادي، وقد كانت تعرف آنذاك بسوق الصفارين.
كان الاختصاص الوحيد لهذه السوق تصنيع النحاس وصنع الأواني النحاسية وطلاؤها وبيعها.
لكن هذه السوق تأوي حاليا إلى جانب نشاطها الرئيسي عدة أنشطة تجارية أخرى.
ويصارع ما تبقى من الحرفيين في السوق من أجل أن تحافظ حرفة الأجداد على وجودها أملا في تحسن أوضاع القطاع في المستقبل.
ويتحدث الهادي النفاتي»64 عاما» وهو تاجر بالسوق منذ ما يزيد عن أربعين عاما قائلا «الحرفيون انقرضوا اليوم وما تبقى في السوق يتعاملون مع زبائن أجانب في الأغلب.
من فرنسا وإيطاليا واسبانيا».ويضيف ل(د.ب.أ) متحسرا «الأيام الجميلة في هذه السوق راحت.
هناك كساد اليوم».ويتفق المؤرخون على ان صناعة النحاس عرفت عصرها الذهبي في تونس في القرن الثامن عشر خاصة في المدن الكبرى وتركزت أساسا في العاصمة تونس ومدينة صفاقس وفي مدينة القيروان وسط تونس والتي تعد العاصمة الدينية والتاريخية.
ويعد سوق النحاسين داخل السوق العتيقة لمدينة تونس خير دليل على عناية المجتمع العربي والتونسي بهذه الصناعة منذ أحقاب طويلة من الزمن.
وتعتبر المنتجات النحاسية إلى حين من الزمن القريب أحد المكونات الأساسية لجهاز العروس، وقد حاول حرفيو العصر الحديث إنقاذ هذه الصناعة من الاندثار إذ ينتشر اليوم النقش على النحاس في أغلب مناطق تونس خاصة السياحية منها وتزيده خيوط الفضة جمالا خاصة على أطباق النحاس الأصفر.
لكن في الأغلب يستعمل النحاس الأحمر لصناعة أواني الطبخ وهي أواني كانت إلزامية بجهاز العروس لكن فقدت مكانتها تدريجيا في المطبخ التونسي بسبب انتشار الأواني المصنوعة من الفولاذ المقاوم للصدأ وغيرها من المواد الجديدة. ويوضح الحاج مبروك «بعض الأسر ما زالت تحافظ على تقليد قديم في اقتناء الأواني النحاسية.
هؤلاء يأتون بشكل منتظم».ويشهد السوق فترة انتعاش نسبية موسمية خاصة قبل حلول شهر رمضان وخلال مواسم الأفراح في الصيف.
لكن عدا ذلك يقتصر النهج الممتد والضيق للسوق في باقي الموسم على دور العبور للمارة.
ويلقي كريم رمضان ابن الحاج مبروك باللائمة على السلط الجهوية لإهمالها التام بالجانب التراثي للسوق العتيق وبنظافته.
وتأثرت المعالم التاريخية والمزارات السياحية كثيرا بالفوضى التي اجتاحت الإدارة عقب الثورة. وتحت وطأة الإضرابات لدى عمال النظافة وتقلص حجم تدخل البلديات في اعمال الصيانة والترميم أصبح وضع الكثير من البنايات والأزقة منفرا للوفود السياحية.
وسمح الوضع المتردي للقطاع بتقدم أسواق النحاس في الدول السياحية المنافسة بالمنطقة مثل تركيا والمغرب على السوق التونسي بأشواط واسعة.
ويقول كريم الذي يحترف النقش على النحاس منذ 28 عاما ل(د.ب.أ) «هناك إهمال بتاريخ تونس في هذا السوق.
الكثير من المقرات السكنية هنا تعود الى قرون منذ عصر الباشاوات والبايات لكنها مهملة ولا تحظى بأي عناية أو صيانة».ويروي كريم «زرت تركيا أكثر من مرة لم أر ما أشاهده في تونس. تركيا في عالم آخر. هناك يهتمون بتاريخهم».وألقت حالة الإهمال بظلالها على الحركة السياحية بالسوق إذ تأتي الوفود السياحية بشكل متباعد وغير منتظم إلى سوق النحاس.
ومثل أغلب الأسواق القريبة في المدينة العتيقة يشكو الحرفيون أيضا من تلاعب الأدلاء السياحيين بالمسالك السياحية لخدمة مسالك أخرى.
لكن النحاسين يعملون على أن لا يبقى السوق رهينة بأيدي الأدلاء السياحيين أو أي ظرف آخر.
وحتى لا تصبح محلاتهم مهجورة ومهددة بالإغلاق يعمل التجار في السوق اليوم على تنويع انشطتهم إلى جانب تجارة الأواني النحاسية مثل بيع الزرابي والأقمشة ولوازم العروس بهدف استقطاب أكثر ما يمكن من الزبائن.
وفي غياب السائح الأوروبي يعمد النحاسون الى توظيف الموروث الثقافي لدول الجوار في عمليات النقش على الأواني والقطع التذكارية في محاولة لاستقطاب السائح العربي خاصة من الجزائر وليبيا. ويقول كريم «الوضع صعب لكن لا يمكن ان نترك حرفتنا.
نحاول أن نتأقلم مع الأوضاع حتى نحافظ على حد أدنى من الربح».