أطفال وأشياء أخرى

صالح العامري -


-مأزق الأطفال-


يولد الأطفال عراة فيُلبسهم الأوصياء أطول ما في أفكارهم الخدرة أو أقصر ما في أمراضهم العفنة. يولدون حاملين معهم صفحاتهم البادئة وألواحهم التواقة للفضول والاستكشاف، لكي يتمكنوا من كتابة نصوصهم بعرق جبينهم وأنفاسهم الفردانية، فيتبرع الكبار الأوصياء ليكتبوا عليها بمجموعهم، ويتسللوا بحيلهم العصابية ليحجزوا تخييلهم ويردموا حفر أسئلتهم الحرة المتعطشة للنور.

يسأل الأطفال ما هو الله؟ فتنهبهم صفعة. ما هو الوطن؟ فيجدون أنفسهم في مغارة. ما هو الإنسان؟ فيقفون قبالة دبابة. ما هو الشرف؟ فتسيل الدماء تحت أقدامهم. ما هو الوعي؟ فيصطادهم خنجر. ما هي الحرية؟ فيخرسهم شرطي. ما هو العدل؟ فيتهمون بالعقوق والتمرد. ما هو النهار؟ فيشير إليهم إصبع ضخم بالتجديف. ما هو الليل؟ فيساقون إلى المصحة العقلية.

يولد الأطفال أطفالاً، فيدخلهم الكبار في أفرانهم القبيحة، فيخرج الأطفال عجائز ومسوخاً وأشكالاً باهتة، مشردين في أصقاع المعنى،إرهابيين يحتفلون بالدم والخلاص المدنس والحقائق الكاذبة…

يولد الأطفال والعالم كله وطنٌ كبير لهم، وينتهون بلا شجرة ولا وطن إلا الجرح الغائر النازف والمنفى الداخليّ الذي يفرّخ طائر الكراهية والاشمئزاز والخطابات العدوانية المتصلبة…

الأطفال لا يحلمون، بل يمضون ويشقون طريقهم. الحلم هو ثقل وحمولة وعبء الكبار وصناعة من لا ممكن له ولا طريق، أما الأطفال فإنهم يستكشفون فيفهمون فيعرفون. إنهم يقولون: ما هذا؟ وكيف هذا؟ ولماذا هذا؟، فتأتيهم الإجابات الديماغوجية القطعية قذائف على رؤوسهم وفي قلوبهم، وأزيز رصاص على جهلهم المورق الفطن. إنهم يمرّون هنا، فيصابون بخيبة الأمل من براعة الكبار فيهم وبذاءة الحكمة المتدوّدة، وينخرطون في الحزن حين لا يجدون مكاناً لهم في هذا العالم المعبأ بالأيديولوجيات والوضاعات التي سيكفنون بها عاجلاً أو آجلاً، وضاعات بها يُستلبون وأيديولوجيات بها يُمتهنون.


- دُمية في الحلم-


جاءتني دمية في الحلم. كانت دمية صغيرة بحجم الكف، يبدو أنّ صناعتها بالغة الإتقان، وتقاطيعها جد دقيقة، والمادة التي أنشئت منها فائقة الشفافية، وعلى قدر مذهل من الإغواء والصدق. بعد أن حطّت نفسها قبالتي، قمتُ أتملاها وأجوس خلالها بناظريّ. على أنني لم أتمالك نفسي، فتحسستها ملياً بالاقتراب منها، ثمّ بإمرار أصابعي عليها. كانت دمية مخيفة، بالمعنى الشرير للكلمة. كان ينضح فيها شيء يشبه الأنفاس التي ستندلق منها للتوّ، أو ربّما ستفاجئني بكلمة مفزعة أتشتت بها في أرجاء الأرض. هكذا أقعيتُ عندها، ملقيا جسدي وملتفاً حولها مثل شبه جزيرة، مستشعراً أنه بعد هنيهة من الوقت ستحل الكارثة، ويهجم الماء، قد تختلج فيها مشاعر أو تند منها حركة أو تحاول أن تفعل شيئاً لحماية نفسها من تفرساتي ومن إحاطتي بها، رغم أنني لم أكن أملك إلا الحنوّ والانجذاب نحوها. ما إن مرّت بعض لحيظات على استغراقي فيها، حتّى برز ما كنتُ أخشاه، حيث طرفت عيناها وغمغمت شفتاها بكلام غامض. من الواضح أنّه لم يكن لديّ مفر قريب مني لكي ألوذ به ويبتلعني من سيل ذلك الرعب الذي تملكني حينئذ، بيد أنّ ما خفف غلواء خوفي أنّها لم تكن تتحرّك، وأنّ ساقيها بقيتا ثابتين مثل لوحة صامتة. رغبتُ في هول الصدمة أن أتعرف على ما تريد، وأن أستفهم عن الذي تغمغم به، لكنّ الدمية أغمضت عينيها عني وأغلقت فمها الصغير، فأغمضتُ عينيّ بدوري كذلك وأغلقتُ فمي، وبدل أن كنتُ أكوّر جسدي على هيئة شبه جزيرة، تمددتُ في خطّ مستقيم ملقياً أيضاً بيديّ في استقامة على شاكلة صليب، دون أن يكون لديّ نزق أو نزوع ميتافيزيقي في اتخاذ هذه الوضعية، بل لكي تمنحني الاستقاماتُ بدل الانحناءات، والتمدداتُ بدل التكورات، خاصية إزاحة الدُمى عن كاهلي، والارتماء في شكل آخر لا يعود فيه بمقدور تلك المخلوقات العجيبة اختراقي أو عبوري.


- اللعبة مستمرة-


الاستيقاظ مرعب كما هو الموت. أن أستيقظ مرة أخرى يعني أن اللعبة ما تزال مستمرة، وأن الليل ليس بعيداً عني، وأنّ النهار يعدني بأمثولة، وأنّ الأصدقاء يفعلون مناشيرهم في خشب الوقت، وأنّ الأطفال يحاولون دحرجة كرة الزمن الكبيرة. عليّ أن أمضي إذن بعد هذه اليقظة، لا لكي أتفكر في أمر الحلم أو السراب، بل لكي ألحق بقطار قهوتي المُرّة، وأن أتفهم كل ما يطرأ عليّ من نوم وكسل، من تناوم وفعل، من ضعينة وحبّ، من مناورات بلهاء ومن مداورات عبثية، من أسفار تتلهف إلى نفسها ومن إقامات تتزنّر بألسنتها الكلبية اللاهثة.

- تقمصات-

مسكينٌ أنت يا صاح، حيث لا يبدو أنك ستتقمص أي روح أخرى بعد موتك، أو بالكاد لعلك ستتحول إلى غبار منسيّ أو عظمة تنتحب على ركبتها، ربّما لأنه لا علاقة لك بالنيرفانات والإشراقات الكبرى التي ستخلد الأرواح وتُقِلّها إلى مسكنها العظيم؛ ربّما يعود ذلك إلى جدّك الذي حذرك – وأنت لم تزل بعد صبيا- من القِماص. حين كان يقول لك: «يا ولدي ذلك الحمار حقير، فتمسّك جيداً بالبردعة والخطام حتّى لا يقمُص بك فتسقط على رأسك». وإذن فإنّ أعلى مراتبك التقمصاتية هو أن تقمُص بك دابة، أي أن تثب وتنفر فتلقيك أرضا. هكذا أيضاً هددتك خالتك البدوية بأنها ستجعلك تمتطي جملاً حروناً ليقمص بك ويشرد في البراري، عقاباً على عقوقك وعلى عدم زيارتها، وهكذا فعلت بك الفرسُ التي ظننتها وديعة وطيبة، حين ركضت بك، وأنت لست بفارس ولا بمعتاد على ركوب الخيل، حيث قمصت واستنّت وزلزلتك وطيّرت صوابك وطرحتك أرضاً على رمال الصحراء…

لقد كان الروائي الأمريكي فوكنر يحلم أن يتقمص هيئة نسر بعد أن يموت، وكان آخرون يتوقون للتقمص على شكل فراشة أو وردة أو طائر ما أو نسمة هواء أو موجة بحر أو شجرة غامضة. لكنّ قوارب الأرواح مفزعة في طريقها نحو الشلال العظيم؛ ذلك أن الفراشة التي تقمصها الفيلسوف سيبتلعها خرتيت دون أن يعرف أنها روح متقمَّصة، والعصفور الذي تقمّصه شاعر البراري لن تنجيه من المآل الجديد حين تنطلق نحوه زخات من الرصاص، ثم بدوره ذلك الصيّاد الذي أطلق رصاصه، سيتقمص شكل غراب، وهذا الأخير سيعلق في فخّ ثلةٍ من الصبيان لن يتمكن من الإفلات منه بأي شرح غاقيّ لهم يدل على أنه روح تقمصت شكل طائر أسحم. أما الجميلة التي تقمصت شكل وردة فها هو ذا حذاء غليظ يسحقها سحقاً تقمّصه نيرون أو هتلر أو طاغية ما… حسناً، حسناً.. ستقولون لي أنّ الأرواح هي التي يتقمصها المرء لا الأجساد، والأرواح أشكال نورانية لا تُرى، إنها مثل أذرعة أخطبوط لامرئية تسعى في كل أنحاء الكون. حسناً فهمتُ ذلك، حتى أن الفيل الذي تقمصه أحدهم، سيجد له مكاناً على الشجرة نفسها التي تقمصها آخر، بينما سيهبط عليها عصافير كثيرة تقمصها آخرون أيضا…

هكذا لا يخلو توق النيرفانيين للتقمص – رغم ما في مفهوم التقمص من إشراقات بالغة العمق والشفافية وطلب الخلود- من ذلك «المضحك» المتحفز دوماً للانقضاض على الهياكل الثابتة. فهناك شيء مضحك حتى في أكثر المفاهيم رصانة، شيء ينثال كرمل مهذار في صلابة الجبل الأصم، شيء ينداح كمياه مازحة في وجه الجسم المعدني…


- مكالمة هاتفية مع سمسار –


• مرحبا عزيزي. قرأتُ إعلانكم عن شقق للإيجار. أبحث عن شقة.

- نعم. لدينا ثلاث أنواع من الشقق: غرفة وصالة بـ 300 ريال، غرفتان وصالة بـ 400 ريال، ثلاث غرف وصالة بـ 500 ريال.

• لديّ عائلة، أريد غرفتين وصالة.

- هل أنت عُماني؟

• نعم.

- لكنّ المالك يفضّل تأجيرها للوافدين. إلا إذا اخترت الشقة ذات الثلاث غرف. سأحاول قدر الإمكان إقناعه بتأجيرك، إن رضي بذلك طبعا.

• ذلك يسمّى عنصرية.

- العنصرية في اللون، ونحن لسنا عنصريين.

• العنصرية في التمييز بين شخص وآخر في العِرق والجنس واللون والدين والمذهب والطائفة والقبيلة والقرية والمدينة والهيكل والطول والقصر والسحنة واللكنة…

- عموماً، هذا ما يريده صاحب العقار، وليس أنا. فأنا مجرد وسيط.

• هل هو عماني؟

- نعم.

• سلّم عليه كثيراً!.

بعد أن أغلقت الهاتف، انتابني نوع من الإحباط المريع، لا لأنني لم أجد شقة أكتريها بعد، لكن لأنّه يوجد هذا النوع من المُلاك الطافحين بالحقد على بني جلدتهم، المنزوين في ثقافة ابتذالهم ومعانيهم التي فقدت صوابها. كنتُ أهذي بالقول بأننا نتنفس نفس الهواء ونعيش في كنف المكان ذاته، ومع ذلك أيها الجشعون نكتال منكم مكاييل دناءتكم وضغائنكم ومروءاتكم الساقطة. إنها قطعاً ليست ثقافة العمران، أو ثقافة الحضارة، أو ثقافة البداوة، هي التي دلتكم وأرشدتكم إلى هذا الوحل الذي لا تفرقون فيه بين الاسترزاق والانحطاط، بين الجهد العملي والضعة المقززة، بل هو التكالب على القصعة، والتعالي على إخوتكم وأهليكم. إنكم لا تكتفون بجني ثمار نخيلكم، بل ترمون الآخرين بالنوى والحجارة!.