أحمد بن سالم الفلاحي –
dreemlife11@yahoo.com -
يتشكل سؤال عند الحديث عن العنف، وهو: من المسؤول عن منشأ العنف، بعض الرؤى تذهب الى البدايات الأولى للإنسانية، وتتكئ على منشأ الفطرة الإنسانية مستحضرة الموقف الصدامي الأول بين ابني آدم، عندما اقتتل قابيل وهابيل، مسجلان بذلك أول جريمة قتل في تاريخ البشرية، بينما يرى آخرون أن هذه النزعة معقلها هو نوازع الشر الموجودة عند الإنسان، وخاصة عندما تتغلب على نوازع الخير الموجودة فيه أصلا.
فالإنسان مكون منهما جميعا، ومتى طغا أحدهما على الآخر، كانت صورته، وسيرته انعكاسا لثيمة احدهما على الأخرى، بينما يعلل ثالث على أن البيئة المحيطة هي التي تفرض عليه احد النسقين، فإن كانت بيئة خيرة تسربل هذا الإنسان بالخير، وإن كانت بيئة يغلفها الشر، كان متأثرا بذلك الى حد كبير، ولعل التجارب الإنسانية التي نراها ماثلة أمامنا في حاضرنا، أو تلك التي نقرأ عنها في كتب التاريخ تؤكد على كل هذه التفسيرات، وتقبل كل الاحتمالات، وتقبل كل التعليلات، ولو بنسب متفاوتة، وسواء ذلك على مستوى الفرد، أو مستوى الجماعة، أو مستوى الدول.
وعلى العموم تظل ثيمة العنف أحد الجوانب المهمة في حياة الإنسان، ويقال من فرط تجسد هذه الصورة في الواقع، أن الإنسان حتى لم يكن له عدو ما، يحتم على نفسه أن يوجد له عدوا مفترضا حتى يقنع نفسه أن هناك عدوا يترصده، وبالتالي يجب عليه أن يستعد له، وأن يجهز كامل الوسائل لمقاتلته، ولذلك هناك من يقيم العدو المفترض، على انه المحفز الأكبر للتطور الحاصل في جميع جوانب الحياة، وأن الحياة لن تحقق المكتسبات المادية إلا من خلال وجود هذا العدو المفترض الذي يحفز الطرف الآخر لأن يجتهد، وأن يبتكر، وأن يبدع، وكما يقال في المثل: «عدو المرء من يعمل كعمله»، وهذه بلا شك عداوة فطرية محمودة أن سعت الى خير البشرية، على ما تحمله من مشقة نفسية كبيرة على كلا الطرفين، ولكن يبقى المكتسب المادي هو المهم، ولعلنا نعيش هذه العداوة بين الضدين في كثير من جوانب حياتنا اليومية، وهي ما يسمى بالمنافسة – كنوع من التخفيف لأثر الكلمة على النفس – وتظل منافسة محمودة إلا إذا أعطيت جانبا نفسيا يغرقها في الخصوصية، هنا ستظهر الوجه الآخر لهذه العداوة، وهو الوجه المظلم، والوجه الذي يحول الحياة الى غابة تكون فيها السيادة للقوي، وهذا القوي له أن يستخدم كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، وهنا فقط يظهر الوجه المخزي للحقيقة الإنسانية.
تنطلق نزعة العنف، وهو درجة الغلو للمنافسة من أسباب كثيرة، بعض هذه الأسباب فارضة نفسها على البيئة المحيطة، وبعضها تظهر لها أسباب محفزة فتأخذ طريقها نحو التنفيذ، وتأتي في مقدمة هذه السياسات النزاعات الدولية بشموليتها الكبيرة، والنزاعات الفردية باختزالها على بقعة جغرافية محددة، أو طائفة معينة، أو مجموعات عرقية، أو مصادمات عنصرية في دولة معينة، إلا أن تعدد الأعراق، وتعدد الديانات، وتعدد الألوان هي من اكثر المصادمات التي تثير العنف لدى الشعوب، وإن كانت تتصدر كل ذلك هي الأطماع الدولية، ومصالح الدول الكبرى المتنفذة على الدول الصغيرة التي لا حول لها ولا قوة، وقد اتهم الجهل والجوع في فترة من الفترات على انهما المقوضان لأي استقرار، أو هدوء، ولكن الواقع يظهر اليوم أن الجهل والجوع ليسا هما المتسببان الأكبر في إثارة المشاحنات، والمنازعات، وإنما هي الأطماع الدولية، وحرص الدول الكبرى على الهيمنة على الشعوب الضعيفة، واستعبادها، واستغلال ثروات بلدانها، دون وضع أي اعتبار للجوانب الإنسانية التي تنادي بها القوانين والنظم الدولية، وكأن الإنسان اليوم هو الإنسان نفسه الذي كان يعيش في الغابة ويسن قوانينه من شريعتها، حيث الحياة للأقوى، دون أن تترك فيه عوامل التهدئة، والتوعية، والاستقرار أي أثر جانبي من شأنه أن يعيد له ترتيب أوراقه، وهذا مما يؤسف له حقا.
وحتى للذين ينظرون لمفهوم الدول القومية وحرصها على إيجاد صيغ حاكمة لأنشطتها المختلفة، سواء تلك الأنشطة التي تعزز من كيانها القومي، أو تلك التي تضع لها موضع القدم خارج محيط جغرافيتها، تظل حالة الاستقرار التي تعيشها، حالة نسبية، اعتمادا على أنظمة الحكم التي تتوالى على قيادتها، واعتمادا على مستوى التأثير التي تتلقاه من محيطها الإقليمي، واليوم عندنا نماذج كثيرة لهذا النوع من التحول المفاهيمي للسياسة الدولية سواء على المستوى الإقليمي القريب، أو على المستوى الدولي البعيد، يقول الباحث توماس هايلاند اريكسن في كتابه (العرقية والقومية) – مترجم -: «الدول القومية أنظمة اجتماعية تعمل على نطاق واسع، تستطيع المجتمعات القبلية والمجتمعات المحلية الأخرى أن تعتمد على حد كبير على شبكات القرابة والتفاعل وجها لوجه من اجل بقائهم كأنساق، ومن اجل الولاء لأعضائها، حتى في دول السلالات الحاكمة العظيمة، كان معظم الرعية موحدين محليا، كانوا أولا وأخيرا أعضاء عوائل وقرى»، فهذه الصورة التي يرسمها هايلاند هي صور من صور محاولة بعض الأنظمة الحاكمة لأجل إيجاد بيئة هادئة مستقرة داخل كيان الدولة، ولكن حتى هذه الصورة الحالمة، أن تجوز التسمية، سرعان ما تتداعى من جوانبها المختلفة، فلا تعمر صورة الاستقرار فيها، لأن الولاء حالة نسبية، كما هو معروف، له جوانب تقوضه، وله جوانب تعززه، وتديم من عمره.
الناس في حالاتهم الكثيرة يميلون الى الهدوء، والبحث عن المعيشة والاستقرار، ومتى تحقق لهم عوامله المختلفة كان ذلك ولادة جديدة للأمن والاستقرار في بقعة جغرافية، والدليل على ذلك اننا كثيرا من نرى اناسا من دول مستفزة بصورة دائمة، حيث تعيش في حالة حرب في كثير من أزمانها، وحالات من عدم الاستقرار، كما هو حال كثير من الدول في القارة الإفريقية على وجها الخصوص، وتتساءل في نفسك، ألم يحن هؤلاء الناس الى شيء من الأمن والاستقرار، ولكن الموقف الصادم في هذا الجانب عندما ترى أبناء هذه المجتمعات عندما ينتقلون الى مجتمعات اكثر هدوءا واطمئنانا، تجدهم اكثر حرصا على الحياة في الدول المستضيفة، حيث «يشكل المهاجرون غير الشرعيين الأساس لقوة العمل»، في كثير من دول العالم، كما تشير بعض المصادر الى ذلك، هل لأن فقدان هوية الانتماء الى وطن يترك في النفس حالة من الهزيمة النفسية، أما أن لقمة العيش تظل هي المحفز الأول للعنف، وإلى «اللاعنف»، كل هذه الأسئلة محتملة، وهي قابلة لمختلف التفسيرات التي توضع في مثل هذه السياقات.
وهناك منظرون آخرون يرون أن الوسائل الإعلامية تلعب دورا محوريا في تفعيل نزعة العنف في كثير من دول العالم، وذلك عندما تخضع الى تنفيذ أجندات دول قادرة على توجيه دفة العنف هنا أو هناك لأهداف سياسية، أو أهداف اقتصادية، ولها أيضا الدور في إيجاد بيئة ملاطفات لقضية العنف، وأيضا بناء على تنفيذ أجندات معينة، ويحدث هذا سواء في داخل الدولة نفسها، أو خارج حدودها، وذلك اعتمادا على قوة الدولة وهيمنتها في محيطها العالمي، حيث تمثل الدول الكبرى اليوم هذا الدور، حيث تمثلها الشركات متعددة الجنسيات كأحد أوجه المنافسة التي تفضي الى العنف، كما ذكرت ذلك في بداية الحديث، إلا أن ما يؤزم العلاقة بين الوسائل الإعلامية وبين الجمهور المتلقي أو المحتضن للاعنف هو مستوى الدور الذي تلعبه الأحزاب أحيانا في الدولة الواحدة، والتي تخضع في كثير من الأحيان الى مصالح رؤسائها الذين يضحون بمصالح الوطن بأكمله مقابل تحقيق مصالح ذاتية خاصة، وهذا مما يؤسف له حقا، أن يكون ابن الوطن معول هدم لوطنه وأمته مقابل مصالح مادية أو وجاهية مؤقتة تنتهي بانتهاء هذا الفرد أو ذاك، هذه إحدى المعضلات الكبرى في بعض الأوطان أن يجوز التقييم، وينضم الى ذلك أيضا النزاعات التي تثيرها المعتقدات الدينية والمذاهب المختلفة، حيث تتفاعل هنا الطائفية المموقوتة سواء المتمثلة في مذهب أو عرق، أو لون، وعلى الأوطان أن تجد لها مخارج من هذه المزالق، التي إن استفحلت في بقعة جغرافية ما، جاز الحكم على نهاياتها بالدمار، الانتهاء، والتوديع مبكرا على صفحة الحياة الهانئة المستقرة.
يمكن أن نختم بصورة متجسدة في مفهوم العنف، وهي انه لم تعد هناك دول متقدمة خالية من العنف، أو دول متخلفة يتعاظم فيها العنف، فالعنف عامل مشترك عند كل دول العالم وشعوبها، لها أسباب لتفعيله، وله أسباب لخمده وكبته، وعلى الشعوب الباحثة عن الأمن والاستقرار أن تسعى جاهدة في الأخذ بأسباب النجاة، وكلما اقتربت الى تحقيق الرفاه المادي، وتفعيل برامج التنمية الذاهبة الى تحقيق هذا الرفاه استطاعت أن تمد في عمر استقرارها، وأمنها، وهدوئها، وليس ذلك ببعيد إذا صدقت النوايا لبناء وطن آمن مستقر.