مشتاق بن موسى اللواتي -
كان من نتائج التحولات العميقة التي حدثت في مجتمع المسلمين وأثر التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية فيه، أنْ تغيرت النظرة الرسمية حيال التعامل مع الفكر الوافد بحيث بادر بعض حكام المسلمين في العصر العباسي إلى استجلاب كتب فلسفية لغير المسلمين وترجمتها ونشرها بين المسلمين. يذكر ابن خلدون أن أول من استجلب كتبا من الروم بشكل رسمي هو الحاكم العباسي أبو جعفر المنصور (فترة حكمه 137- 158) ثم تابع المأمون العباسي (فترة حكمه 198- 218) المسيرة ذاتها بشكل أوسع. وبمقتضى طبيعة الأشياء فإن مثل هذه التغيرات لا تأتي- في الغالب – من دون وجود أرضية ثقافية مهيأة أو عوامل فكرية وسياسية داخلية من قبيل ايجاد توازنات معينة في المجتمع مقابل بعض الاتجاهات الفكرية السائدة. ويلخص السيوطي هذه التطورات في عبارات مقتضبة جامعة فيقول: إن علوم الأوائل دخلت الى المسلمين في القرن الأول لما فتحوا بلاد الأعاجم، لكنها لم تكثر فيهم ولم تشتهر بينهم لما كان السلف يمنعون من الخوض فيها، ثم اشتهرت في زمن البرمكي ثم قوي انتشارها في زمن المأمون لما أثاره من البدع وحث عليه من الاشتغال بعلوم الأوائل واخماد السنة. و كما أسلفنا فإن الشواهد التاريخية تؤكد على وقوع انفتاح مبكر في تاريخ المسلمين على الفكر الوافد وهو أمر يتفق مع طبائع الأشياء وتطور الحوادث. ونتيجة لهذه التطورات والتحولات اتجهت بعض النخب من المتكلمين صوب هذه النتاجات المنطقية والفلسفية الوافدة وتداولت أفكارها في بعض مجالسها ومنتدياتها الفكرية.
ولهذا يرمي بعض مؤرخي الفرق والمقالات خصومهم من أعلام المتكلمين بالتأثر بالفكر الوافد الدخيل. فقد وصف الهشام بن الحكم (ت 200) بأنه المقروف بقول الديصانية، ونسب أبو الهذيل العلاف (ت 226) الى التأثر بأرسطو وأنبا دقليس من فلاسفة اليونان وخلط كلامهم بكلام المعتزلة. وقيل عن ابراهيم بن يسار النظام (ت231) بأنه تأثر بملاحدة الفلاسفة في بعض آرائه كالطفرة وغيرها.
وما يهمنا من هذه النقول بأن حركة الانفتاح الفكري والفلسفي أخذت تشكل ظاهرة ثقافية عامة في مجتمع المسلمين. وإلا فان المتكلمين ـ مهما قيل عنهم ـ كان لهم دور ريادي في تنمية النزعة العقلية في تاريخ المسلمين انسجاما مع توجيهات القرآن الكريم الى التعقل والتفكر. ولكن كان انفتاح الاتجاهات الكلامية على الفكر الفلسفي الوافد محدودا ومقيدا بالأصول الكلامية وكانت لهم أعمال نقدية للفكر الفلسفي كما سنشير اليها.
وفي المقابل أولى فريق آخر من المفكرين اهتماما كبيرا بعلوم الأوائل وانكبوا على تدارسها حتى تخصص فيها بعضهم. وظهرت بعض القامات الفلسفية الشهيرة من المسلمين مثل الفيلسوف العربي الأول الكندي (ت 260) والمعلم الثاني الفارابي (ت 339) والشيخ الرئيس ابن سينا (ت 428) والشارح الأكبر ابن رشد (ت 595) والمحقق النصير الطوسي (ت 672) وغيرهم. واتجه هؤلاء الفلاسفة والمتكلمون – وعلى تفاوت بينهم – إلى دراسة علوم المنطق والفلسفة وشرحها واعادة تكييفها وتبنيها والدفاع عنها وعن رجالها ومفكريها. وأظهروا اعجابا كبيرا وانبهارا بالغا ببعضهم مثل أرسطو الذي أطلق عليه لقب المعلم الأول. وانكبوا على كتبهم التي وصلت إليهم وحاولوا التوغل فيها وحل ألغازها وفك رموزها وفهم طلاسمها ومعالجة تناقضاتها والتوفيق بينها وبين الفكر الديني.
بل سعى بعضهم كالفارابي إلى التوفيق بين آراء حكمائها، كما في كتابه الجمع بين آراء الحكيمين أفلاطون وأرسطو، على الرغم من تباين منهجيهما، كون أحدهما ينزع المنزع المثالي الباطني والثاني يتجه الاتجاه المشائي العقلي الصرف.
ويعتبر ابن رشد الشارح الأكبر لكتب أرسطو حيث شرح له كتاب ما بعد الطبيعة وكتاب النفس وكتاب البرهان وكتاب السماء والعالم وغيرها.
ويذكر أن ثمة أخطاء وقعت من بعض المترجمين حيث نسبوا خطأ كتاب أثولوجيا وهو لمؤلف مجهول وكتاب “التاسوعات” لأفلوطين (الشيخ اليوناني) بحسبانهما للمعلم الاول أرسطو. ولكن كانت هناك شروح وأعمال وصفت بالفهم والدقة والاستيعاب . فالغزالي مع خلافه العميق مع الفلاسفة شهد بدقة الفارابي وابن سينا في نقل علم أرسطاطليس. وصرح الفخر الرازي في “اعتقادات الفرق” بأنه لم ينقل تلك الكتب أحد أحسن مما نقله الشيخ الرئيس أبو علي ابن سينا. كما شهد ابن خلدون على استيعاب كتاب الشفاء لابن سينا علوم الفلسفة السبعة كلها. وبغض النظر عن توجهات بعض حكام بني العباس السياسية والعقدية التي يشير اليها بعض المؤرخين كالسيوطي وغيره..
يجدر الالتفات إلى أن توجه مفكري العرب والمسلمين صوب الفكر الآخر كانت تقتضيه المرحلة التاريخية سواء من الناحية السياسية أو المعرفية والحضارية. فبعد أن توسع الكيان السياسي للمسلمين وامتزجت فيه مختلف الأجناس والأعراق والثقافات والحضارات والآداب واللغات وانفتحت الجغرافيا على التاريخ وتلاقت الأديان والفلسفات.
وشرعت الأسئلة والاستفسارات تتوارد عليهم في العقيدة والتشريع وما اشتمل عليه القرآن والسنة حول الخلق والتكوين وحول القدر والاختيار والعلم لإلهي والحساب والعقاب والعدل والظلم وحول النبوة والملائكة والعقل والنفس والروح وحول الحشر والجنة والنار وما الى ذلك. وإذا كانت بعض المرويات الحديثية والتاريخية ترجع طرح التساؤلات المتعلقة بالقدر والعلم الإلهي ومسؤولية الانسان عن أعماله الى فترات تاريخية أبكر، فإنها مع ذلك كانت في نطاق محدود بالمقارنة مع ما حصل في هذه المرحلة.