التقنية الطبية الحيوية… في متناول اليد

ا.د.داخل حسن جريو

عضو المجمع العلمي العراقي .

بالرغم مما حققته البشرية من تقدم هائل بمعالجة الكثير من الأمراض ومكافحة الأوبئة والحد من آثارها الخطيرة، بفضل تطور العلوم الطبية، وتحسن نظم الرعاية الصحية وارتفاع الوعي الصحي، وتحسن البيئة والتغذية ومياه الشرب في الكثير من البلدان، فضلا عن اكتشاف الكثير من الأدوية والعقاقير الطبية المختلفة وغيرها، إلاّ أن ثمة أمراض ما زالت مستعصية، ولا تستجيب بفاعلية لكثير من العلاجات المتداولة في الأوساط الطبية، وتفتك بحياة ملايين البشر في أرجاء العالم المختلفة، منها بعض أمراض السرطان والتدرن ومرض نقص المناعة المكتسبة (الايدز)، أو أن علاج البعض منها يتطلب في أحسن الأحوال مبالغ مالية باهظة ليس بمقدور الكثيرين تحملها. وحيث أن التقنية الطبية الحيوية باتت اليوم تمثل تقنية واعدة لمعالجة الكثير من هذه الأمراض المستعصية وغيرها، فضلا عن كونها تقنية زهيدة التكاليف ولا تتطلب أكثر من عقول علمية نيرة ومبتكرة. لذا فان جهود العلماء والأطباء في الدول المتقدمة اتجهت في هذا المجال.

حدد مؤتمر الأمم المتحدة للتنوع البيئي المنعقد عام 1992 مفهوم التقنية الحيوية بأنه: تطبيق تقني باستخدام المنظومات الحيوية أوالأعضاء الحيوية أو مشتقاتها لصنع منتجات أو عمليات أغراض معينة. وتعرف إصدارات الحكومة الأمريكية التقنية الحيوية بأنها التقنية التي تستخدم الأعضاء الحيوية أو خلاياها، أو بعض أجزاء خلاياها، أو المكونات الجزيئية لصنع منتجات أو لتعديل صفات نباتات أو حيوانات أو أحياء مجهرية بصفات مرغوب فيها. والخلية كما هو معروف هي وحدة البناء الأساسية لجميع الكائنات الحية، والكائنات الحية قد تكون ذات خلية واحدة مثل الخميرة التي هي خلية مكتفية ذاتيا، أو خلايا متنوعة مثل خلايا الحيوانات والنباتات تؤدي كل خلية وظيفة معينة، وبرغم هذا التنوع فانها متشابهة، وقد وفر هذا التشابه أساس التقنية الحيوية. يطلق البعض أحيانا على التقنية الحيوية اسم الهندسة الجينية.يقصد بالتقنية الطبية الحيوية تطبيقات التقنية الحيوية في المجالات الطبية والصحية التشخيصية والعلاجية.

شهدت التقنية الحيوية تطورات هائلة في النصف الثاني من القرن العشرين بفضل التقدم الحاصل في علم بيولوجية الخلية والبيولوجيا الجزيئية والتقدم الحاصل بفهم الحمض النووي DNA وRNA ووظائفهما في الأعضاء الحيوية لتمييز الجينات التي تساعد بإنتاج حيوانات ونباتات بصفات معينة.

استخدم العلماء التقنية الطبية الحيوية في العمليات الجزيئية الحرجة لتصنيع العقاقير الطبية بكفاءة وفاعلية عالية، فقد استخدمت مضادات الفيروسات العالية الفاعلية بمعالجة أمراض الأيدز المختلفة، كما ساعدت هذه التقنية بإيجاد المئات من وسائل اختبارات تشخيص الأمراض التي لم تكن معروفة من قبل. ولعل أبرز ما حققته هذه التقنية النجاح الباهر في تطوير المستحضرات الصيدلانية من خلال دمج تقنيتي DNA وrDNA، حيث مكنت هذه التقنية العلماء من عزل أي جين من الجينات المثير للاهتمام وزرعه في حاضنة مناسبة، ومن ثم تكراره للحصول على مصدرDNA جديد ونقي يعتمد عليه. طبقت هذه التقنية لأول مرة لإنتاج الأنسولين في العام 1982 كعلاج بديل لمرضى السكري الذين كانوا يتعاطون الأنسولين من المصادر الحيوانية، ومنذ ذلك الحين استخدمت هذه التقنية بإنتاج عشرات العقاقير الطبية، لعل أبرزها اللقاحات المضادة للفيروس الكبدي، ومبيدات الجراثيم ضد الأمراض التناسلية، وفي التشخيصات الجزيئية وفي سلسلة الجينيوم المسببة للأمراض، وفي مجال المعلوماتية الحيوية لتحديد أهداف العقاقير الطبية، وتحسين توزيع الأدوية. وما زالت البحوث جارية على قدم وساق لإنتاج المزيد من العقاقير لمعالجة أمراض القلب والتدرن والملاريا والإيدز والأنفلونزا وغيرها، حيث انبثقت عنها صناعات مزدهرة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال ارتفعت عائدات هذه الصناعة من (8) بلايين دولار أمريكي عام 1992 إلى (58.8) بليون دولار عام 2006، وهي اليوم صناعة مزدهرة في الكثير من البلدان.

تعد التقنية الطبية الحيوية وسيلة ممتازة لصناعة اللقاحات والإنزيمات والمضادات الحيوية والأنسولين والعقاقير الطبية لمعالجة الكثير من الأمراض الفتاكة لاسيما الأمراض المزمنة والمستعصية منها، وزراعة الأنسجة ونقل الجينات ودراسات الحمض النووي. وتوفير المعلومات لتعديل أو لتحسين سلوك الخلية لمنع أو لمعالجة الأمراض بوسائل عديدة منها: استبدال الجينات المعطوبة بجينات سليمة، أو استعمال الفيروسات لتحسين المناعة، أواستعمال مواد التقنية الحيوية لتحري وجود المرض أو تلوث الخلية، أو إنتاج العقاقير التي تنشط النمو أوتنظيم وظائف الخلايا المختلفة مثل خلايا كريات الدم الحمراء الضرورية لمعالجة مرض فقر الدم، أوالكريات البيضاء لتعويض فقد هذه الكريات لدى مرضى السرطان، أو إنتاج الأنزيمات اللازمة لنمو الخلية أو المستخدمة في عمليات التصنيع الغذائي، أو المطلوبة في هندسة الجينات والمضادات الحيوية لتحسين مناعة الجسم ضد المواد الغريبة المضادة للجينات. تشير التقارير العلمية الأمريكية إلى أن التقنية الطبية الحيوية قد ساعدت على توفير أكثر من 220 علاجا ولقاحا، بعضها منتجات لمعالجة أمراض السرطان وداء السكري والايدز. كما تشير هذه التقارير إلى أن هناك أكثر من 400 دواء ولقاح تقنية حيوية قيد الاختبارات الطبية لمعالجة أكثر من 200 مرض، أبرزها أمراض السرطان والزهايمر والسكري والأيدز وبعض أمراض القلب. تستخدم التقنية الطبية الحيوية في الفحوصات التشخيصية للحفاظ على الدم من فيروسات الايدز.

وخلاصة القول ان التقنية الطبية الحيوية يمكن أن تقدم حلولا ناجعة للكثير من المشكلات الصحية والبيئية، وهي تقنية سهلة في متناول يد من يرغب بامتلاكها وتطويرها، وهو أمر يستلزم دعمها وتمويل بحوثها ودراساتها المختلفة وطنيا، وأن تعد جامعاتنا ومراكزنا البحثية خططا علمية دقيقة وواضحة ومبرمجة على وفق منهجية محددة للنهوض بهذه التقنية والإفادة من معطياتها ونتائجها، وأن تتضافر الجهود الخيرة لتجميع الامكانات وعدم بعثرتها وتشتيتها في أماكن متعددة، وبذلك نستطيع تحقيق نتائج علمية باهرة بإذن الله لاسيما أن معظم مشروعات التقنية الطبية الحيوية لاتحتاج إلى رأس مال كبير أو مواد أولية أو أيدي عاملة كبيرة، بخلاف التقنيات المتقدمة الأخرى.