محكمة الحريري وأمن بلاد الأرز

سمير عواد -

نادرا ما شهد التاريخ محاكمة لها أهمية سياسية وانعكاسات محتملة على أمن أكثر من طرف، مثل ما تعرف باسم محكمة الحريري، التي تجري مرافعاتها حاليا في مبنى محكمة لبنان بمدينة لاهاي عاصمة هولندا. فجريمة اغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان يوم 14 فبراير عام 2005 لم تحول “عيد الحب” ذلك اليوم إلى يوم أسود في تاريخ بلاد الأرز، وإنما، أثارت توترا بين الأطراف اللبنانية وانقساما ما زال قائما إلى اليوم، وهو أبرز أسباب عدم تشكيل حكومة وفاقية يتزعمها تمام سلام نجل رئيس الوزراء الأسبق صائب سلام، وهو ما أسفر عن جمود سياسي، يزيد من معاناة اللبنانيين.


وفي ضوء هذه الجريمة التي أودت بالحريري وأكثر من عشرين من حرسه الخاص والمارة وإصابة مئات بجراح ناهيك عن الأضرار المادية، قررت الأمم المتحدة تلبية لطلب من لبنان أن تشكل محكمة خاصة للنظر بظروف الاغتيال ومعاقبة مرتكبي الجريمة. وساهمت 28 دولة في تمويل جزء من التكاليف البالغة نحو 750 مليون دولار. بينما يتحمل لبنان نصيب 49 بالمائة من هذه التكاليف، تساهم دول أخرى بتحمل الباقي.

ورافقت الفترة التي كان يجري فيها التحضير للمحاكمة، فضائح وتحقيقات، ورفض بالجملة من قبل كبار الموظفين في الأمم المتحدة، لتولي مناصب في المحكمة، وقال معظمهم أن لديه أسباب شخصية، لكن الواضح أنهم كانوا يخشون التعرض للاغتيال. وفي لبنان، ليسوا قلة الذين يعتقدون منذ وقت أن محكمة الحريري، جزء من مؤامرة رسم الغرب خيوطها، فيما يعتقد البعض الآخر أن المحكمة، تسجل بداية للنظر قانونيا بجرائم ضد البشرية في الشرق الأوسط، وينتظرون مثلا أن يجري إنشاء محكمة دولية للنظر بجرائم إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.

ولكن هناك اتفاق بين جميع المراقبين، بأن محكمة الحريري في لاهاي، سوف يكون لها انعكاسات على مستقبل لبنان وربما على منطقة الشرق الأوسط برمتها.

ومما يزيد من التوتر، هو الوضع الراهن الذي يشهده لبنان، في ظل الفشل في تشكيل حكومة جديدة، وعودة عهد السيارات المفخخة التي روعت اللبنانيين خلال الحرب الأهلية، والانقسام السياسي الواضح بين الفرقاء السياسيين من المعسكرات الإسلامية السنية والشيعية على حد سواء وبين الأحزاب المسيحية. وما يزيد الطين بلة أن لبنان بدأ يعاني من أعباء انتقال الأزمة في سوريا إلى أراضيه، والمتمثلة بتدفق النازحين السوريين على أراضيه، بالإضافة إلى تركيز تنظيم “القاعدة” على الانتشار في بلاد الشام، ومساعيها كي يصبح لبنان وسوريا امتدادا لنفوذها ونفوذ حلفاءها في العراق.

وقد وجهت محكمة الحريري اتهامات اغتيال الحريري إلى خمسة رجال، أهمهم من وجهة محققي الأمم المتحدة، مصطفى بدر الدين وسليم عياش، وكلاهما محسوبين على حزب الله اللبناني.

فيما تجري المحاكمة في غيابهم، من المحتمل أن تنتهي بغيابهم أيضا، فقد أعلن حسن نصرالله زعيم حزب الله منذ أن تشكلت المحكمة ووجهت اتهامات إلى بعض رجالاته، أنه لن يسلم أي من المطلوبين مهما كلف الأمر ليس بعد ثلاثين يوما وليس بعد ثلاثين سنة، كما أوضح وجهة نظره بالمحكمة منذ البدية، حيث قال أنها مؤامرة دبرها الأمريكان والإسرائيليون، واتهم نصرالله إسرائيل بقتل الحريري.

وذكرت مجلة “دير شبيجل” الألمانية مؤخرا أن المتهمين الخمسة قد لا يمثلون أبدا أمام المحكمة في لاهاي، موضحة أن بعض أجهزة الاستخبارات الدولية تعتقد أن بدر الدين وعياش فرا منذ سنوات إلى خارج لبنان، أما الثلاثة الآخرون، فيتوقع أنهم قد تعرضوا إلى التصفية الوقائية، لعدم وقوعهم بأيدي محكمة لبنان في لاهاي.

وتجدر الإشارة أن عائلة الحريري ومؤيديه السياسيين في لبنان، سارعوا بعد اغتياله إلى اتهام الرئيس السوري بشار الأسد وحزب الله، ولم يتهموا إسرائيل إطلاقا، الأمر الذي جعل المحققون يركزون على تلك الاتهامات، وإلى اليوم لم تقدم المحكمة أدلة دامغة على ضلوع الأسد.

والمثير في القضية أن إيريش فولات كبير المحررين الاستقصائيين في مجلة “دير شبيجل” الألمانية، حصل في مايو 2009 على معلومات من أجهزة استخبارات غربية لم يحددها، تضمنت أسماء المتهمين باغتيال الحريري وعلى رأسهم بدر الدين البالغ من العمر 52 عاما وكان يرأس قسم الاستخبارات في حزب الله ثم ترأس قسم العلاقات الخارجية في الحزب، ويعتقد المحققون أنه هو الذي وضع خطة تفجير موكب الحريري. كما تضمنت المعلومات اسم سليم عياش. وبعد عامين على نشر المعلومات في المجلة الألمانية، اعتمدت محكمة لبنان في لاهاي ما ورد في تقرير المجلة وأصدرت مذكرات إيقاف بحق المتهمين الذين وردت أسمائهم. ومنذ ذلك الوقت توقف فولات عن السفر إلى لبنان لأنه يعلم أن حزب الله سوف ينتقم منه. ولا يجازف رئيس محكمة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في الضغط على حزب الله لتسليم المتهمين إلى محكمة لبنان، رغم أنه مجبر على ذلك وفقا لما ينص عليه القرار الأممي 1757 بالتعاون مع الأمم المتحدة لإنجاح مهام محكمة لبنان الدولية.

والسيرة الذاتية لبدر الدين تأتي مناسبة تماما لمحكمة لبنان، إذ له صلات قديمة مع إيران، حيث درس بالقرب من مدينة أصفهان وعمل إلى جانب قاسم سليماني الجنرال الواسع النفوذ في الحرس الثوري الإيراني، وتعلم منه كيف يقيم حزب الله في لبنان دولة داخل دولة، من خلال تشكيل ميليشيا تعتبر حاليا أقوى من الجيش اللبناني.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تقوم المحكمة بمهامها دون انعكاسات على الأمن في لبنان؟ لقد وقعت تفجيرات في لبنان في اليوم الأول لبدء أعمال المحكمة. وفي غياب المتهمين الخمسة، هناك شهود أصروا على عدم الكشف عن هوياتهم، منهم من قرر البقاء مدة طويلة خارج لبنان، ومنهم من قرر البقاء للأبد خارج لبنان، وحصلوا على أسماء مستعارة، وتقوم وحدة خاصة تابعة للأمم المتحدة بتوفير الحماية لهم، خوفا من انتقام حزب الله، التي وصلت إلى آسيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية. لكن عائلاتهم في لبنان تعيش في قلق دائم.

وجميعهم يتذكرون كيف أن محمد شطح المستشار السابق لسعد الحريري، صرح في ديسمبر الماضي أن لبنان مقبل على أزمات. وبعد أسبوعين لقي مع مرافقه نفس المصير الذي لقيه رفيق الحريري عام 2005.

ويعتقد المراقبون أن مدينة “لايتشندام” الهولندية الوديعة، حيث مكان مبنى محكمة لبنان، سيكون لها دور في تحقيق العدالة، وفي نفس الوقت، انتشار مرحلة جديدة من العنف في بلاد الأرز.