إيمان عارف -
«الإسلام السياسي يحكم الربيع العربي» مقولة طالما ترددت منذ أن نجحت ثورات الربيع العربي في الإطاحة بالأنظمة القائمة في كل من تونس ومصر وليبيا، ورغم أن عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني بل والفوضى القائمة في بعض الأحيان ما زالت مستمرة بعد ثلاث سنوات من تسونامي التغيير الذي اجتاح المنطقة، فإن هناك اقتناعا كبيرا لدى المراقبين أن الإسلام السياسي سيظل محركا للأحداث بطريقة أو بأخرى حتى بعد تراجع التأييد الشعبى الواسع لهذا التيار في كل من تونس ومصر وحتى في ظل التوقعات بأن يشهد العام الجديد مزيدا من التوتر والمواجهات الأمنية مع هذه القوى.
وغنى عن البيان أنه منذ بداية انطلاق الربيع العربي كان واضحا أن قوى الإسلام السياسي ترفضه لأنها بطبيعتها المحافظة تعادي المنطق الثوري، ولكنها ما إن أدركت أن بقاءها خارج المشهد سيؤدي لتهميشها حتى سارعت للالتحاق به ولأنها كانت الأكثر تنظيما وتمويلا وخبرة لم يكن من الصعب عليها أن تقفز إلى القيادة، خاصة أن هذه القوى تحولت خلال الثلاثة عقود الأخيرة وتحديدا في مصر من منظمات للدعوة والإصلاح إلى مؤسسات سياسية ذات قوة اقتصادية، أجادت اللعبة الانتخابية وفق قواعد وآليات النظام القائم خلال تلك الفترة كما أجادت استخدام الرشاوى الانتخابية والاتفاقات مع أجهزة الأمن.
ومن هنا كان صعود تيارات الإسلام السياسي سواء الوسطي الذي وصل للسلطة بالانتخاب أو السلفي المتشدد باعتباره أبرز نتائج ثورات الربيع العربي أمرا ملحوظا وواقعا ملموسا، حيث لم يقتصر الأمر على الدول التي اجتاحتها موجة التغيير الأولى بل امتد لدول لم تشهد ثورات شعبية مثل المغرب والجزائر، الأمر الذي أثار العديد من علامات الاستفهام حول وضع هذه الجماعات وحقيقة وزنها السياسي في مجتمعاتها والأسباب التي وقفت وراء الاختيار الشعبي لتلك التيارات كي تقود مرحلة ما بعد سقوط الأنظمة السابقة.
ورغم وجود شبه إجماع لدى المراقبين أن الأسباب تكمن في نجاح هذه التيارات في استغلال الفوضى السياسية التي نتجت عن تلك الثورات وتشرذم القوى المدنية وعدم قدرتها على الحشد وانشغالها في الصراع على ميادين الثورة، فضلا عن نجاحها في اللعب على رصيد الكراهية تجاه قمع الأنظمة التي أسقطتها هذه الثورات بسبب أساليبها القمعية في إدارة شؤون البلاد وفساد إدارتها لموارد وثروات البلاد وتبعيتها للغرب، إلى جانب تمتعها بقدر من التعاطف كونها عانت من الظلم والملاحقات الأمنية المستمرة ولم تأخذ حظها من العمل السياسي وهو ما أكسبها بلا شك تعاطفا واسعا ومن ثم كان صعود هذه التيارات له ما يبرره، فإن هناك على الجانب الآخر من يرى أن هناك مجموعة أخرى من العوامل ساعدت هذه التيارات على النجاح أبرزها أنها تلقت دعما ماديا هائلا من القوى الدينية المؤثرة في بعض دول الخليج، فضلا عن الدعم والتشجيع الضمني الذي تلقته من الولايات المتحدة والغرب عموما الذي رأى مصلحة في وصول تيار الإسلام السياسي للسلطة من أجل تحقيق أهداف لم تعد الأنظمة القائمة آنذاك قادرة على تحقيقها.
ولكن هذه الحقيقة لا تنفي ملاحظة مهمة رصدها المحللون وهي تباين أداء هذه القوى من دولة إلى أخرى، فرغم أن هذا التيار يشترك في مجمله في مجموعة من التوجهات الأساسية والأصيلة مثل رفع شعارات من قبيل «الإسلام هو الحل» و«عودة الخلافة الإسلامية»، إلا أن ذلك لا ينفي تباين نجاح هذه القوى في تحقيق الاستقرار سواء السياسي أو الاقتصادي. وقد ظهر الأمر واضحا في كل من التجربة المصرية والتونسية، خاصة بعد الغضبة الشعبية الهائلة التي أطاحت بالرئيس المعزول محمد مرسي، وفي ظل المشاكل التي تلاحق حزب النهضة في تونس الذي يواجه خطرا حقيقيا في الوقت الحالي بعد تراجع شعبيته وإيمان البعض أن احتمال خسارته الانتخابات – في حال حدوثها – أمام المعارضة قائم وبنسبة كبيرة، الأمر الذي أربك المشهد تماما ودفع بعض المراقبين للقفز لنتيجة صادمة مؤداها أنه بعد تجربة الإخوان في مصر التي انتهت بعزل مرسي فقد انتهى الربيع العربي وانتهت معه تجربة الإسلام السياسي. ورغم عدم اقتناع الغالبية بهذا الرأي إلا أن ذلك لا ينفي أنه بعد أن ظهر بوضوح تردي أداء هذا التيار في إدارة الدولة أن سياسات قوى الإسلام السياسي باتت في رأي الكثيرين تشكل عبئا وتمثل عقبة أمام طموحات وآمال الشعوب التي قامت بهذا الحراك والشعارات التي رفعتها الجماهير خلال ثورات الربيع العربي، بل إن نسبة لا بأس بها من المواطنين أصبح مقتنعا بشدة بأن هذه القوى رغم اختلاف دوافعها ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في إعادة إنتاج الأنظمة التي لفظتها الجماهير وهو ما ساهم إلى حد كبير في كشفها أمام المواطنين الذين أعطوها ثقتهم عقب الثورات مباشرة، ومما ساهم في هذا الأمر أن التيار الديني لا يهتم كثيرا بصياغة برامجه وأهدافه في إطار مراعاة إمكان تحقيق هذه البرامج بشكل واقعي، وإنما يلجأ عادة لاستخدام الشعارات الحماسية لكسب تعاطف الرأي العام بينما يتهرب عادة من تقديم برامج واضحة ومحددة للجماهير، وهو أسلوب يمنح هذه القوى عادة مساحة واسعة في التحول وتغيير المواقف بحيث تنعدم فيها أحيانا الرؤية القائمة على تحقيق المصلحة الوطنية وتسمح لهم بالرهان على عقد التسويات سواء مع رموز الأنظمة السابقة في بعض الأحيان أو الخصوم السابقين أو الحاليين في أحيان أخرى.
ولكن كما كان نجاح هذا التيار سببا في الكشف عن أزمة حادة واجهت النخب السياسية التقليدية الموجودة بسبب تركيز مخاوفها من كون هذا المشروع الإسلامي الجديد معاديا للديمقراطية ومهددا للهوية الوطنية، خاصة بعد أن وجدت هذه النخب التي تصدرت المشهد بعد سقوط الأنظمة أنها في مواجهة مع منابر المساجد ومع أدوات إعلامية تابعة لهذه القوى تكفر كل من يخرج عن خطاب الأحزاب الإسلامية التي حصدت أصوات الناخبين. فقد كان هذا النجاح سببا كذلك في طرح العديد من التساؤلات المقلقة حول مستقبل الديمقراطية في كل من تونس ومصر وليبيا، خاصة أن الربيع العربي ساعد على إنهاء الصورة القديمة للإسلاميين باعتبارهم ضحايا للأنظمة الاستبدادية وقدمهم بدلا من ذلك كأصحاب مصلحة حقيقية في ظل التحولات السياسية الحالية.
ورغم أن تأثير الربيع العربي مازال ضئيلا على الأحزاب الإسلامية كما يعتقد البعض، فإن البعض الآخر على قناعة تامة بأن تعقيدات الوضع السياسي الحالي ستدفع الإسلاميين لتغيير أيديولوجياتهم وتكتيكاتهم السياسية، فضلا عن أنه بات يضعهم في مواجهة العديد من التحديات والتهديدات بعد وصولهم لمقاعد الحكم. وهو أمر سبق ونبه إليه العديد من الباحثين الذين رأوا أنه رغم كل النجاحات الكبيرة لحركات الإسلام السياسي في العالم العربى خلال الفترة القليلة الماضية، إلا أن ذلك لا يضمن لها النجاح المطلق أو المستقبلي فنجاحها مرهون بعدد من الشروط الصعبة المتعلقة بأدائها السياسي والاقتصادي وتحقيق نجاحات في تلبية تطلعات المواطنين، كما أن عليها أن تدرك أن المحيط الداخلي والإقليمي ينظر اليها بقدر من الريبة والحذر.
وفي الوقت الذي يرى فيه بعض الباحثين أن الربيع العربي لم يفعل شيئا سوى أنه مكن الإسلاميين وزاد من قوتهم على حساب بناء أنظمة ديمقراطية جديدة، فإن هناك من يرى أن الديمقراطية لا يمكن أن تزدهر دون دمج الإسلاميين فيها، وأيا كان الأمر فإن الشيء المؤكد أن ثورات الربيع العربي ستعيد تشكيل خريطة تيار الإسلام السياسي، وأنه إذا كان هناك إنجاز ينسب للربيع العربي فلعله يتمثل في نجاحه في الدفع نحو عملية طويلة من التغيير والتحول من شأنها أن تضع نظريات الإسلاميين وممارساتهم على المحك، بعد أن وجدت الأحزاب الإسلامية نفسها على أعتاب تحول تاريخي لا يمس فقط إطارها الفكري والعقائدي ولكنه يمس أيضا أولوياتها واستراتيجيتها في المستقبل، وهو أمر يرى بعض الباحثين الغربيين مثل «ناثان براون» أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن الذي رصد من وجهة نظره تشابها بين الأحزاب الإسلامية ونظيرتها المسيحية في أوروبا قبل 100 عام، أنه سيعتمد على عدم الخلط بين القضية التي تتبناها هذه الأحزاب والتيارات الإسلامية وأساليب ممارستها للعمل السياسي، بالإضافة للأثر الذي سيحدثه تطور النظم السياسية في تلك الدول، باعتباره سيلعب دورا مؤثرا في تشكيل أيديولوجية تيار الإسلام السياسي وليس العكس.