تناول الباحث المصريّ أحمد أبو زيد في كتابه «هويّة الثقافة العربيّة» موضوع الهويّة الثقافيّة الذي يعتبره من أكثر الموضوعات إثارة للقلق والجدل في معظم مجتمعات العالم في الوقت الراهن، وينطلق ممّا تتعرّض إليه الثقافات المختلفة من عوامل التأثير والتغيير والتبديل، ولا يكتفي بذلك، بل يشير إلى حالة يسمّيها «مسخ» الملامح الأساسيّة المميّزة نتيجة لازدياد الاتّصال والتبادل الناجمين عن الثورة الإلكترونيّة الحديثة، وما ترتّب عنها من تدفّق المعلومات واختفاء الفواصل بين الشعوب والمجتمعات والثقافات، وبالتالي هيمنة الثقافات التي تملك القوّة والانتشار للسيطرة على الثقافات الأخرى.
يذكر أبو زيد في كتابه «هويّة الثقافة العربيّة»، الصادر عن “الهيئة المصرية للكتاب” 2013، أنّ هذا القلق لا يقتصر على المجتمعات النامية أو مجتمعات العالم الثالث الأكثر تخلّفاً من مجتمعات الغرب المتقدّم علميّاً وتكنولوجيّاً، ويرى أنّ هناك استشعاراً للخطر من قبل المجتمعات على ثقافاتها الوطنيّة، إذ تتوجّس من الخطر الذي يتهدّدها من هيمنة الثقافة الأمريكيّة التي تستند في انتشارها وتأثيرها إلى نظام إعلاميّ متطوّر وعلى درجة عالية من الكفاءة والفاعليّة، بحيث تستطيع التسلّل إلى العقول والتأثير في الناس.
يقسّم أبو زيد كتابه إلى ستّة فصول بالإضافة إلى المقدّمة، يتناول في الفصل الأوّل المقوّمات الثقافيّة للمجتمع العربيّ، وفي الفصل الثاني يتناول الثقافة الشعبيّة بين التعدّدية والتنوّع الثقافيّ، وفي الفصل الثالث يفصّل ثقافة الأقلّيّات في العالم العربيّ، ثمّ في الفصل الرابع يتحدّث عن وسائل التخطيط للثقافة العربيّة، ثمّ يتحدّث في الفصل الخامس عن التنوير في العالم العربيّ، أمّا في الفصل الأخير فيفصّل في الإجابة عن سؤاله: اللغة العربيّة.. هل لها مستقبل في عصر العلم؟
يعالج أبو زيد اختلاف العلماء والباحثين حول المصطلحات، وبخاصّة مصطلح «الثقافة»، على الرغم من شيوعه وتداوله، ثمّ يقدّم تعريفه للمفهوم وشموليّته واتّساعه، ويعرّفها بأنّها حصيلة النشاط البشريّ الاجتماعيّ في المجتمع.
ويفصّل في مقوّمات الثقافة العربيّة: اللغة، الدين، التراث. ثمّ يتحدّث عن الانفتاح على الثقافات الأخرى ومعنى الغزو الثقافيّ، ويستعرض دور الفنون والآداب وتأثيرها في حياة الشعوب والأفراد.
وعن دور الثقافة الشعبيّة العربيّة في المحافظة على الهويّة الثقافيّة ومقدرتها على الاستمراريّة والتجدّد، يعتقد أبو زيد أنّ مرونتها تتمثّل في ثلاثة أبعاد متداخلة ومتكاملة، وهي:
أوّلاً قدرة الثقافة الشعبيّة على تجاوز حدود الزمان والمكان.
ثانياً: اتّساع مساحة حرّيّة الإبداع في تناول هذه الثقافة وعرضها أو الاستشهاد بها في الحياة اليوميّة.
وثالثاً: تعدّد مجالات التفسير والتأويل ممّا يلقي عليها كثيراً من الأضواء ويكشف عن الجوانب التي قد تخفى على المرء في الأحوال العاديّة. يقترح الكاتب تصوّراته لجعل ثقافات الأقلّيّات في العالم العربيّ مصدر قوّة وثراء، إذ يوجب الانطلاق من احترام حقوق الإنسان بكلّ ما تكفله من حرّيّة العقيدة والعبادة والتفكير والتعبير عن الفكر، ويرى أنّه من الخطأ أن تتدخّل الدولة وتقف موقف العداء من ثقافات الأقلّيّات التي تعيش على أرضها، أو أن تضع القيود على فكرها، أو أن تحدّ من حقوقها في العبادة. ويوجب كذلك ضرورة تنمية وتقوية الجوانب الإيجابيّة في هذه الثقافات والإفادة منها في عملية التنمية الثقافيّة للمجتمع ككلّ.
يعتقد الباحث أنّ الاحتكاك بين الثقافات مصدر ثراء لكلّ ثقافة منها على حدة، كما يصفه بأّنّه عامل أساسيّ في تعميق الثقافة وتوسيع آفاقها، ويشترط ألّا تخفي الاحتكاكات والاتّصالات وراءها نزعات للهيمنة أو أيّة أهداف إمبرياليّة، أو ترمي عمداً إلى تشويه معالم الثقافات الأخرى أو تقضي عليها. ويذكر أنّ التخوّف من التأثير الثقافيّ الطاغي من الخارج أدّى إلى ظهور تعبيرات مثل «الغزو الثقافيّ» أو «الإمبرياليّة الثقافيّة»، ويعتقد كذلك أنّه أدّى بالتالي إلى ظهور نزعات الانطواء الثقافيّ على الذات كوسيلة للحفاظ على الهويّة الثقافيّة. يحاول الباحث التعريف بوسائل الإفادة والإثراء دون الانجرار وراء الآخر بشكل أعمى، ليكون البحث عن الوسائل الكفيلة بالمحافظة على هويّة الثقافة إزاء الهجمات الثقافيّة الوافدة من الخارج دون أن تؤدّي هذه الوسائل أو الاحتياطات إلى رفض تلك الثقافات تماماً، أو عزل الثقافة العربيّة عن الثقافات العالميّة، مع إقراره بتعذّر ذلك، وينوّه إلى ضرورة الأخذ منها بما يثري الثقافة والتفكير والإبداع العربيّ.