الوحدة الإسلامية: الحـلم المتجـدد!

د. فاطمة بنت أنور اللواتية -

كلمة «التلبية» تأتي بصيغة «لبيك» أي أجبتك لطلبك، والتلبية هي واحدة من واجبات الإحرام عند أداء فريضة الحج أو العمرة، فتقول:«لبيك اللهم لبيك…». وفي مواقع كثيرة خرج المسلمون هاتفين بهذه التلبية ملبين نداء الله سبحانه وتعالى لتأكيد سيرهم على النهج الذي دعا إليه سيد البشر رسول الله محمد صلوات الله وسلامه عليه وآله وصحبه أجمعين، ولسان حالهم: «لبيك يا رسول الله».


في عالمنا المعاصر تعددت الإهانات التي وجهت إلى الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. فمن الرسوم الكاريكاتورية والأفلام المسيئة لشخصيته الطاهرة.. إلى حرق القرآن الكريم. لم تكن هذه الإهانات بمعزل عن التخطيط العالمي الذي يستهدف الإسلام والمسلمين، إلا أن عبارة «لبيك يا رسول الله» التي تتوق إليها حناجر سنية وشيعية وإباضية وزيدية وغيرها من المذاهب الإسلامية كفيلة في كل مرة يُستَهدَفُ فيها الإسلام أن تُهَدِّمَ بنيانهم عليهم. فكان الإسلام يخرج منتصراً بأتباع جُدَد وأيادٍ ترتفع متحدة مجددة التلبية فعلاً وقولاً. وأمام هذا السد الإسلامي المنيع، وقف الغرب مذهولا في ماهية هذا الحب المحمدي الذي يجري في الوجدان الإسلامي، فمحمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لا يخص فئة بشرية محددة رغم أصله القرشي العربي، فهو رسول ونبي بُعث للعالمين، ووجدت مختلف الأجناس البشرية فيه نبياً ورحمة مبعوثاً إليها. فخابت المكائد الإستعمارية الصليبية والصهيونية حينما تشابكت الأيدي المسلمة لترد صدى تلك الأصوات المنبوذة إلى نحرها قبل أن تفك عرى الأخوة الإسلامية أملا في استباحة معتقدات المسلمين. لكن السعي الشيطاني متواصل.. فهل نجحت أو ستنجح تلك المكائد في مواجهة السياج البشري المتماسك بالأيدي والمتحد بالقلوب والنفوس في حب رسول الله محمد صلى عليه الله وآله وصحبه وسلم؟! والصادح بدعاء الوحدة الإسلامية تتساقط المكائد الصهيونية والصليبية. وعند الصلاة التي يقيمها سني أو إباضي أو شيعي يقف المسلمون معا مكبرين وملبين، فتتقزم حينها تلك العقول البشعة التي تخطط وتدبر ويتلاشى وجودها أمام قوة اهتزازات الصوت الإسلامي المجلجل. إلا أن العقل الشيطاني الذي يقبع متوعدا في حواره مع رب العالمين لا يكل ولن يكل أو يتعب: «قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ* قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ» (الاعراف 12:18).

يكشف هذا الحوار الإلهي مع إبليس بأن هناك أنواعا متعددة من البشر. ومن خلال هذا التنوع البشري المتفاوت في مستوى طاقاته وإمكاناته تتغلغل شياطين الإنس مستغلة نقاط الضعف لتلج منها لتحقيق مآربها الشيطانية. وهنا تبدأ عملية العجز عن تلبية النداء المحمدي فتتساقط أوراق التوت التي يتستر خلفها صائدو الهوى والمال والمناصب. فالنجاح الذي كان مؤملاً بتحطيم العقائد الإسلامية خاب أمام تلبية النداء المحمدي إلا أنه استطاع عبر ثغرة الضعف البشري أن يحقق بعض مآربه ويؤسس بالتالي كيانه الشرير. يتلخص الضعف البشري في عدد من النقاط أهمها المال والشهوات والسلطة. إضافة إلى ذلك فإن ما ابتلي به المسلمون أيضا والذي حول ذلك الضعف البشري مكسبا لقوى الشر هم من يسميهم المفكر علي الوردي بـ «وعاظ الحكومات». فهؤلاء الوعاظ أقروا أسسا تعليمية ولدت ازدواجية في الشخصية المسلمة من جهة، وساهمت في تنمية النعرات الطائفية والجاهلية من جهة أخرى، وبين هذا وذاك غابت الشخصية المسلمة الواعية لتحل محلها شخصيات تحمل شهادات ومعارف، إلا أن تلك الشخصيات خاوية جوفاء من الوعي والإدراك والحكمة والإنسانية. وهذا ما استفاد منه أعداء الإسلام وأسسوا عليه بنيانهم المتآكل. فأنفرط العقد اللؤلؤي للوحدة الإسلامية وانفكت الأيدي المتكاتفة أمام السوس الناخر في كيان الأمة الإسلامية تحت شحن العصبيات الطائفية والتناحر المذهبي.

هذا الواقع التناحري لم يكن للقوة المعادية أن تكرسه لصالحها، لولا بعض علماء الدين الذين ساهموا في ذلك من خلال بعض أطروحاتهم في فهم الوحدة الإسلامية. فمفهوم الوحدة الإسلامية في تلك العقول هو ذوبان الأقلية في الأكثرية. وهذه الدعوة لعملية الذوبان أو ما تسمى وفقا للداعين إليها «التماسك» هي في الواقع دعوة إلى الجمود والانحسار. وهذا ما أشار إليه الدكتور علي الوردي «إن المجتمع البشري لا يستطيع أن يعيش الاتفاق وحده فلا بد أن يكون فيه شيء من التنازع أيضا لكي يتحرك إلى الأمام». فعملية الاختلاف هي سنة كونية ضمن معاييرها الإنسانية، حيث يقول القرآن الكريم «ولوشاء الله لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون يختلفون» (هود 11). إضافة إلى ذلك يشير العلامة محمد حسين فضل الله إلى أن من مشكلات المسلمين هو أن «التربية العامة و الخاصة تؤكد على الشخصية المذهبية في انتماءاتها قبل التأكيد على الشخصية الإسلامية العامة». فرغم هذا التاريخ الإسلامي المليء بالمشاحنات إلا أن المسلمين الأوائل عاشوا التكامل بهدف إعلاء راية الإسلام، فلم يكن التاريخ يشكل خطوات مسيرتهم بل كان النهج المحمدي الإسلامي هو الذي يصيغ دربهم من أجل خدمة الإسلام.

المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يحتفلون بمولد سيد البشر، باختلاف في التاريخ بين الثاني عشر من ربيع الأول وبين السابع عشر منه، غير أن العقلاء من أمة محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وجدوا في هذا الاختلاف سبيلا للوحدة فأصبحت الأيام الفاصلة بين هذين التاريخين «أسبوعا للوحدة الإسلامية». وفي هذا الأسبوع لا بد من أن نؤكد كما يشير العلامة محمد فضل الله على أن الإسلام «يمثل الوحدة العميقة بين المسلمين، وإن اختلفوا على أكثر من جانب في التاريخ والتشريع والفلسفة. ولذلك فلنصغ إلى نداء الله سبحانه: «إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون* ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم».

«لبيك اللهم لبيك..» يجدد هذا النداء حلمنا بالوحدة الإسلامية الذي يكاد يُجهَض. لهذا سنظل نلبي حتى تذوب الشحناء ويحل السلام والوئام بين المسلمين جميعاً محققا حلما ساميا في الإخوة و الترابط، حينما تنطلق «لبيك اللهم لبيك» صادقة من حناجر المسلمين ستؤسس لـ«خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر»، أمة على خطى سيد البشر الذي خاطبه رب العالمين: «وإنك لعلى خلق عظيم». وأخيرا أبارك لكم المولد النبوي الشريف وكل عام والإنسانية جمعاء في خير وسلام وإخاء! .