سلطان البحري -
الأشياء ليست التي أمامنا بل التي في قلوبنا، لذلك تختلف في نظرتنا، ولذلك نحن بحاجه للفن، والفنان ماذا يشقيه غير ضجيج بداخله لا بد له أن يخرج، وفي دواخلنا نسخ كثيرة منا تسكن، تشبهنا شكلا إن كان لها أشكال، وتختلف بين بعضها وفقا لتراكمات تواريخنا وأيامنا، ونحن نسعى دائما لتوحيد صف دواخلنا، لإجابة نداء الفطرة، الفطرة السوية المتأملة في عظمة خالق الخلق، الفطرة التي تدفعنا للإبداع، لإجابة نداء الروح التي وإن كان مقدار علمنا عنها لا يتعدى معرفتنا أنها من أمر ربنا إلا أننا نستشعر وجودها في دواخلنا، نجدها تسكن محيط أجسادنا الضيقة، وحين يثيرها الجمال بمكنوناته نجدها سابحة في عوالم أخرى، ومع الخيال تطير لعالم ممتد من الألوان، وفي مساحات الخيال تسطر للإبداع حكاية وللحكاية فن وفنان.
وعبر تعاقب العصور ظل الإنسان يجيب رغبة نفسه للتعبير عن زمانه ومكانه ورغباته وهمومه، لذلك كان التاريخ البشري وعبر عصوره المتعاقبة صفحات متنوعة كتنوع الذاكرة، فلم يبق من صفحات الزمان الكثيرة العميقة إلا صفحات هؤلاء الذين ضاقت حياتهم بالقعود مع المخلفين من الناس، فقاموا كما تقوم الحياة من الموت، ومضوا يفتشون في دواخلهم أولا عن كهوف طاقاتهم، فأخرجوا الطاقات وتركوا للكهوف ذاكرة النسيان، فكانت أسماؤهم الخالدة عبر التاريخ، وبلا شك أنهم أجابوا نداءات دواخلهم لا غير، دواخلهم التي تنادي بالانطلاق والحرية والإبداع، ليحفظ التاريخ البشري وعبر تعاقب عصوره جزءا بسيطا من حياة الإنسان، وبالرغم من بساطة الجزء إلا أنه يغني عن الكل، لذلك لا تجد في سطور التاريخ إلا صفحات الأبطال المجاهدين، والعلماء المجيدين، والأدباء المجانين، والمتقنين الفنانين، ونخبة من البشر كتب لها أن تبقى على امتداد الزمان، (فعلى أعتاب الزمن أحداث فتحت لأصحابها بوابة التاريخ).
للفن الواسع الممتد المتنوع شخوصه وأدواته وبيئاته التي تختلف كثيرا بين بعضها، حتى أنها لتقود للخلاف الكبير في التصنيف والنقد والتقييم، فالفن بالرغم من حدوده التي ترتبط بالإنسان الذي لم يؤت من العلم إلا قليلا يتسع مع كل فنان يبحر بفنه خارج حدود من سبقوه، وهكذا ومع تعاقب الأجيال والعصور توسعت الفنون بشكل كبير، وتوسعت بمولد فنان جديد، أو مدرسة فنية جديدة، أو جنس فني جديد، وبين كل هذا يولد اللافن ويختلط في فكر البعض الغث بالسمين، وتختلف الآراء حول الفن وماهيته، والفنان وغيره، كم تختلف المدارس الفنية عن الشطحات العقلية، وحتى يميز الإبداع من غيره لا بد من الوقوف على عناصر الفن الثلاثة: الفن والفنان وبيئة الفن.
منذ البدايات الأولى للبشرية ظهر الفن كعامل مصاحب لكل حركة إنسانية، وبقي الفن وعبر القرون معبرا عن الحضارات المتعاقبة وملامح وتفاصيل حياتها، وظل الإنسان يعبر عن زمانه وثقافته، كما تعد الفن ومنذ البداية حاجز الترف ليكون ضرورة ملحة أو عنصرا أساسيا يدخل في الحياة العامة للجماعات بما تمارسه من فنون مختلفة تطورت لتصبح بعد ذلك إرثا تتناقله الأجيال عن أسلافه، وحضر الفن في الحياة الخاصة للفرد فلبى حاجاته الشعورية وعبّر عن رغباته وهواجسه الداخلية، ومع تعاقب الأجيال عبر القرون وظهور حركات النقد الفني واتساع دائرة الفنون وتنوع ثقافات الشعور عبر الزمان والمكان ظهر الفن كمصطلح لا معرف أو صعب التعريف، كما ظهرت وعبر القرون المتعاقبة المدارس الفنية المختلفة، وتنوعت الفنون وتوسعت، كما ولدت فنون وانحسرت أخرى، وفي داخل كل جنس فني محدد ظهرت فنون أخرى تفرعت من الأصل، وظهر لكل فرع رواد كانوا هم أساس الظهور، وجاء معهم أو من بعدهم من عارضهم كما جاء من تبعهم وتابع مسيره على الدرب ذاتها، ولعلنا نستدل على ذلك بظهور قصيدة النثر في منتصف القرن العشرين والتي إلى يومنا هذا نجد من يقف معارضا لهذا الجنس الأدبي، وحتى المعارضين انقسموا بين ناقد لقصيدة النثر على أنها ليست من الأدب في شيء وبين من كان نقصده على المسمى فقط وبينهما أمة ناقدة لكل فرد فيها رأيه، يختلف معه من يختلف ويتفق من يتفق، ومع ذلك ظلت قصيدة النثر تصدح ولم تضمحل، ونسوق كذلك ظاهرة النقد التي ظهرت ضد البرامج الإلكترونية لتعديل الصورة الفوتوغرافية كمثال آخر، فحين بدأ بعض المصورين في استخدام البرامج الإلكترونية لتعديل صورهم برز العديد من الناقدين لهذه البرامج محتجين بأنها تفقد الصورة صدقها أو أن المصور الحقيقي ليس بحاجة لمثل هذه البرامج، وقبله كانت حركة للنقد ضد استخدام الكاميرات الرقمية، ومع الأيام بدأت الكاميرات الرقمية تغطي مساحات كاميرات الأفلام، حتى أصبحنا لا نرى الكاميرات الفيلمية إلا في المتاحف، وأصبح تعديل الصورة بالبرامج الرقمية أمرا معتادا بل ضرورة لا بد منها في كثير من الأحيان، وانتقلت عين النقد إلى مدى تأثير البرامج الإلكترونية في صناعة صورة ناجحة من عدمه، وهكذا تختلف الآراء وتتسع، لتضعنا في السؤال الأكبر: ما هو الفن، وما هي عناصره، ولربما ومع الاختلاف الكبير لا نستطيع إلا القول إن الفن هو ذلك العمل المبتكر والنابع من عقل خلاق وقلب مفعم بالشعور، فالفنان ليس إلا أديبا يكتب بحبر دمه، أو رسام ألوانه مشاعره، أو مصور يصور ما في دواخله.
إذا كان من الصعب تعريف الفن كمعنى، فإن تمييز الفنان من غيره أصعب من ذلك بكثير إذا بحثنا عن قاعدة لتعريف الفنان، حيث إن تنوع الفن واتساعه يجعل دائرة الفنانين تتسع حتى أن لا نكاد نصدق القاعدة العامة لتعريف الفنان على أنه المبدع الذي يختار الجمهور أعماله لتكون هي الفن وليكون هو الفنان، فالمتتبعون للفن ينتمون لفئات وطبقات مختلفة، لذلك برز في الفترات الأخيرة فنانون هم نتاج جمهور لا أكثر، وقبل عدة عقود اصدر الشاعر الشيخ عبدالله بن علي الخليلي ديوانه الشعري على ركاب الجمهور، وهو عبارة عن ديوان شعري يحمل مجموعة من قصائد شعر التفعيلة، وسماها على ركاب الجمهور لأن الجمهور في ذلك الزمان انصرفوا بشدة إلى شعر التفعيلة، وفي المقابل لا يمكن أن نهمل دور الجمهور في صناعة الفنان ومنحه لقب الفن، كما لا يمكن أن نغفل عن أن الكثير من اللافنانين أصبحوا في نظر بعض الجماهير البسطاء فنانين، كما يدخل أثر الزمان والمكان والأحداث والقضايا ليبرز نجم هذا الفنان عن غيره، لكن وبالرغم من تنوع أذواق الجمهور واختلافهم نجد من الفنانين من هو قادر بحنكته الفنية أن يصل لذائقة الطبقات المختلفة، يساعده في ذلك وجود فئة من المتتبعين تتذوق الفن بأشكاله المتنوعة، وفي جانب آخر يبرز دور البعد الزماني في إبراز الفنان الحقيقي، فمع تعاقب السنين والقرون بقي في سجلات الفن من بقي ورحل من الأيام ذكر من لم نسمع عنهم ولم تصلنا أخبارهم من الفنانين. ولعل الفنان الحقيقي بعيدا كل بعد عن كل هذا، فهو إنما يجيب داعي الفن في داخله، ويبدع بفطرته وما اكتسبه من ذائقة ومشاعر تسكن قلبه، وهو يلبي حاجته بفنه، ويفرغ طاقة تتفجر في صدره، وأهم من ذلك كله أنه يؤدي رسالته.
مع توسع دائرة الفنون، ودخول التقنيات الحديثة في عمليات النتاج الفن أو في عرض النتاج الفني، أصبح من السهل أن نجد هذا الكم الهائل من النتاج، فإذا كانت القصائد الجاهلية تعلق على أستار الكعبة لتبقى خالدة بحروفها كمعلقات وصلت إلينا بعد قرون، فإنه بات ومع تطور التقنيات لكل شاعر أن يكتب ويعلق قصائده في أنحاء الشبكة العنكبوتية، وبات من السهل للمصورين نشر صورهم عبر مواقع التواصل الإجتماعي أو من خلال الهواتف الخلوية الذكية، كما أن التقنية ذاتها ساهمت في تغير شكل الفن والنتاج، وساهمت في نقل ثقافة الفن عبر الحدود، واليوم ليس من الصعب أن تكون أحد المشاركين في مسابقة للتصوير في مشرق الأرض أو مغربها، وهكذا تغيرت بيئة الفن لتتوسع حدود الفنان وإمكانياته، كما برزت مواطن أخرى لعرض النتاجات الفنية أسهمت في ظهور عدد كبير من المصورين كما أسهمت أيضا في طفرة كبيرة في عدد المتتبعين، وانتقل البعض من صفوف الجمهور إلى نخبة المنتجين الفنانين، ولعل أبرز مثال على ذلك البرامج المختلفة التي يحويها موقع (اليوتيوب) والذي شهد مؤخرا حراكا فنيا واسعا، وتنافسا شديدا برز له مجموعات شبابية وشركات إنتاج فني وتقنيات عالية متطورة، حتى أصبحت هذه البرامج تتنافس في اقتناص القضايا وحل المشكلات لتدخل في عمق الفن حين تحمل رسائل هادفة موجهة، وعلى الصعيد الدولي برزت مسابقات دولية شكلت بيئة للتنافس تدفع بالنتاج الفني للأمام، لذلك تنوع النتاج في السنوات الماضية كثيرا مع تنوع بيئات الفن وتوسع نطاقاته.
تتنوع الأدوات، وتختلف المصطلحات، وتتعدد الآراء، ويبقى من الناس نخبة، تلبي نداء الفطرة، يؤرقها الجلوس فتخرج بجنون لبعث رسائلها، ولا يهدأ لها بال إلا حين تبدع، أولئك هم الفنانون، يميزهم إبداعهم، أسلوب حياتهم، ثبات آرائهم، لهم في صمتهم قصيدة، وفي حديثهم صخب، يجوبون الأرض من حولهم بحثا عن انعكاسات أفكارهم في الأشياء من حولهم ويلجون إلى دواخلهم بحثا في كهوف قلوبهم عن نداءات صاخبة تدعوهم للإبداع، لذلك حتى وإن اختلفت المصطلحات أو تباينت آراء النقد يبقى الفنان هو ذلك المبدع الذي يستلهم من دواخله نور إبداعه، فيمضي في طرقات الفن إلى حيث اللامنتهى ليصنع لاسمه في سجل الأمجاد صورة كصورة من رحلوا منذ زمن وما زالت أسماؤهم خالدة في سطور التاريخ.