صالح العامري -
السكين
تبدو الأشياء مرتبة على الطاولة دون أدنى نذالة. غير أنّ سكيناً قاعية هناك، تحدقّ من خلال جماديتها، تحاول أن تخترق ذلك الصمت السريّ. تهندم الآن قبضتها وغمدها، تلمع مثل هسهسة حيّة جرسية، منطوية على حقد، مضمرة ضغينة.
الغريق
هناك فرق بين أن تغرق فعلاً وتسمّى غريقا، وبين أن تبدو في الصورة كأنّك غريق، مع أنّك لم تكن كذلك. اليوم أرى لي صورة قديمة، كنت أتعلق بقمة جبلية، أو أبدو على تلك الشاكلة على الأقل. رأسي ينتأ قليلاً فوق الحافة. لا مجال للابتسام هنا، مع أنني كنت أبتسم في الصورة أو أكاد. أين رجلاي؟ لعلهما غريقتان. أين جسدي كله؟ لعله لم يتبق منه شيء عدا ذلك الرأس النافر على حافة الجبل.
اليد التي تخذل
أحاول أن أنيم الطفلة. كنتُ أمرجحها رويداً رويداً بين يدي وأنا في وضعية الواقف؛ لكي تستسلم للنوم، مثلما هي عادة الأطفال حين يرضخون لتواتر الهزّ أوالصوت فيدخلون في سباتهم. كانت تحدق الطفلة تحدقّ بي، وكنت أوحي لها بأن لديّ الكثير من الوقت لأفعل الأرجحة والتواتر الحركي ذلك. لكنّ الطفلة ما تزال تحدق وتحدق، وإن بعينين فاترتين. فكّرت حينها، وقد راودني النعاس قبلها، ماذا لو سقطت الطفلة الآن، ماذا لو خذلتني يداي في ظرف ثانية وانطرحتْ أرضاً على أرضية الغرفة. إنّ اليد مهمة جداً، اليد وحدها معجزة. لا أريدك أيتها اليد أن تخذليني ذات مرّة، وتقرري أن يسقط الكأسُ منك. لا أريدك أيتها اليد أن تُسقطي ما أحمله، وأن تخيبي ظني في وشيجتي وإيّاك، في ولائك لي وفي طاعتي لشهواتك ورغائبك الصبيانية والحكيمة، النزقة والمتهورة، العادلة والمتلصصة، السديدة والخرقاء.
الطقس والغراب
المعاني تشبه حالات الطقس، في تخثرها وصفائها، في روقانها وتعكرها، في تلبدها وشحوبها، في تعثرها ومضيّها قدما، في هَوَجِها وخببها وهُوَيْناها، في لذعتها المضمرة وفي انكشافها العاري، في تجمدها وفي حرارتها، في تمددها وفي انكماشها، في غزارة فيضها وفي واحديتها وشحّ تأويلاتها…
وفي هذا الطقس الغائم، وعلى العمارة البيضاء المقابلة، هناك غراب أحمق، وحيد، يهبط فوق فسحة خارجية لإحدى النوافذ، يغترف دون شكّ معنى رجيماً، من خلال إطلالته العبثية على كلّ هذا الغثاء، على كلّ هذا الذي تنازع عليه قابيل والمعري، على كلّ ما وُلِدَ وما لا يولد، ما وُجِد وما لن يوجد. لا شك أنّ هذا الغراب يتشمّم أشياء كئيبة شتّى، يتشمّم مطر الذكرى الآفلة، مطر الشموس التي تحترق المياه في حدقتها وحقيقتها المتعالية، مطر الفانين، مطر السرابات التي ذهبت قصائدها إلى الغيوم، مطر اللحظات التي مرّت بسرعة البرق دون أن تدع للمسافرين أن يُجَنّوا من الفرح أو يموتوا في سفر جديد قادم…
ساح السرد
اجتمع مئات الرواة والساردين في الساح الكبير، يتناقشون في حال الدنيا وأحوالها، محاولين الارتكاز على وتدٍ سرديّ يقيمون به خيمة العالم قبل أن تحلّ النهاية الوشيكة. لقد اجتمعوا هنا لكي يحددوا بدقة ما يعوّلون عليه في إصلاح الحال والأحوال، وفي الهتاف بأصوات جديدة وحناجر جديدة وقبّعات جديدة.
هكذا إذن تعددت الآراء وتنوّعت المداخل لنصب أساس الخيمة القادمة، حسب الدلاء والبئر والعينين. فالعجوز المسمى “عامر”، مثلاً، رأى أن يكترث العالم بالصفر، وأن يبدأ بالصفر، وأن نزرع شجرة الصفر، وأن نفرّ إلى أمر الصفر، ذلك لأنّ ما ينهك أحوالنا هو تماماً ما نمضعه ونعلكه في حلوقنا، وما يجول من هواء فاسد في الرئات الفاسدة.
أمّا الكاتب الواعد المسمّى “براء” فرأى أنّ قتل الآباء السرديين جريمة، وأنّ الكتابة تنبني على كتابة أخرى، وأن المشكلة في الخيمة لا في الأعمدة التي تنصب بها وعليها، متشبثاً بأنّ ما يعوّل عليه هو ما أراده ابن عربي مقلوباً في كتابه عن الذي لا يعوّل عليه.
وسادة الليل
ضالعٌ أنت أيّ ماذا؟ طاعنٌ أنت أيّ سرّ؟
والغٌ أنت أيّ وحل؟ شاهدٌ أنت أيّة قرية؟
بالغ أنت أي طفل؟ دائخ أنت أيّ بئر؟
نازف أنت أيّ معنى؟ قافرٌ أنت أيّ درب؟
تائه أنت أيّ ركن؟ داخل أنت أي قلب؟
عالق أنت أي طيف؟ طالع أنت أي مطلع؟
راتع أنت أي مرتع؟ سائر أنت أي ليل؟
بالغ أنت أي جرح؟ كاتب أنت أي مقطع؟
قارئ أنت أي سطر؟ عامل أنت أي حقل؟
حازم أنت أي يتم؟ طالع أنت أي فجر؟
غارب أنت أي نبع؟ شارب أنت أي ويل؟
مدمن أنت أي علقم؟ لاحق أنت أي ركب؟
لابس أنت أي ثوب؟ خالع أنت أي ليلى؟
منجز أنت أيّ فصل؟ ساهر أنت أي نجم؟
مقدمات خاطئة
تلك المقدمات المشحونة بالتناقضات التي توفرها التباعدات الزمانية والجغرافية، أوتلك المكتنزة بالفنتازيا وبحسّ المبالغة فيما يبدو افتراقا أومستحيلاً، لانتفاء الحقيقة التاريخية أوالدقة الكرونولوجية، تكون أحياناً مطالع مهمة لقصائد، أوشرطاً أساسياً لإنجاز رواية ما، أو شغفاً بهبوط أعياد جديدة أخرى. ماذا كان سيحصل لوأنّ “دون كيخوته” قد أنجز مغامراته مع رفيقه وشاكي سلاحه سانشو بانثا على صهوة قطار معظم عوض صهوة جواده المطهم!.
ماذا لو أن حمامة أبي فراس كانت تقف على سلك عمود كهرباء في السجن بدل مشاهدتها تدرج على غصن شجرة أوسور أونافذة ذلك السجن؟
ماذا لو أن “نيتشه” لم يكن مريضاً أبدا؟ وماذا لو أنّ أبا العلاء لم يكن أعمى؟
ماذا لو أنّ تاريخ العالم يبدأ من سنة قادمة؟…


