كيف يستطيع جون مينارد كينز إنقاذ الربيع العربي؟

ريتشارد جافاد هيداريان – ترجمة:أحمد شافعي -

1للوهلة الأولى، تبدو المنطقة العربية وقد دخلت في فترة أزمة جديدة، لعلها الأعظم في التاريخ الحديث. فثورات عام 2011 العربية تبدو وقد وفرت سبيلا لـ«الربيع الجهادي» بنشوب الحرب الأهلية في سوريا وما هيأته من ملاذ للجماعات المتطرفة الراديكالية من أربعة أركان الكوكب. وفي الوقت الذي تنتشر فيه الأزمة السورية إلى جوارها في العراق ولبنان والأردن، يواجه العالم بعثا مريعا لجماعة تابعة للقاعدة.

لقد شهد شمال أفريقيا في عام 2011 سقوطًا دراماتيكيًا لثلاثة من الطغاة هم حسني مبارك في مصر وزين العابدين بن علي في تونس ومعمر القذافي في ليبيا. لكن أجهزة الأمن التابعة لـ«الدولة العميقة» في أغلب هذه المنطقة أثبتت أنها أبقى من أي زعيم سياسي. الأكثر إثارة للقلق أن الدولة الإسلامية في العراق وسوريا (داعش)، وهي فرع فاسد من فروع القاعدة، غيَّرت خريطة الشرق الأوسط، وبلغت من القسوة الصادمة والطموح الجامح لزعيمها أبي بكر البغدادي أن تنصلت منها «القيادة العامة» لجماعة القاعدة بزعامة أيمن الظواهري. وبعد نجاحها في إلحاق هزيمة سريعة بالقوات المسلحة العراقية في كثير من مناطق غرب العراق وشماله، أعلنت داعش عن قيام «الخلافة الإسلامية» كيانًا سياسيًا جديدًا في قلب الشرق الأوسط يربط بين المناطق السنية في العراق وسوريا.

ومثلما انتقد الفيلسوف البريطاني إدموند بيرك الثورة الفرنسية؛ لأنها أتت بالفزع الجمهوري لتحله محل الاستقرار الملكي، فكثير من المراقبين اليوم يأسون -بطرق مختلفة- للربيع العربي الذي كان حريًا به أن يمهد الطريق أمام حقبة جديدة من الاستقرار في منطقة شديدة القابلية للاشتعال. ولقد أتاحت هذه السردية المغلوطة للأنظمة الاستبدادية في شتى أرجاء العالم أن تستخدم شعار «الاستقرار» لتحطيم أي دعوة منظمة إلى الحرية والديمقراطية ونزع الشرعية عنها.

لكننا بنظرة أكثر تمعنا نرى أن الفيلسوف الألماني جورج دبليو إف هيجل يقدم إطار عمل أفضل لفهم المنحنى المحتمل للانتفاضات العربية. فبرغم إدراكه لما آلت إليه الثورة الفرنسية من مصير مرعب، بقي هيجل مصرًا على أن الانفكاك الحقيقي مع الماضي يستوجب حتميا انقطاعا عنيفا مع النظام البائد، فذلك جزء من انتقال ديالكتيكي إلى حقبة تاريخية جديدة.

وبعد عقود من القيادة المركزية الأوتوقراطية، جاءت الثورات الشعبية فأوجدت بصورة طبيعية فراغا في السلطة امتلأ مؤقتا بالجماعات الرجعية والجماعات الإرهابية ذات التنظيم الجيد. ولكن ليس من المحتمل أن يقدم أي من هذه الجماعات حلا دائما لأوجاع الشارع العربي، بدءًا من بطالة الشباب الهائلة وحتى الركود الاقتصادي والقمع السياسي. وبرغم أن الأيديولوجية السلفية الوهابية التي تتبناها الجماعة القاعدية، والنسخة المتشددة منها التي تتبناها داعش، برغم أنها لا تجد قبولا إلا لدى قلة من الشعوب، فإن الأنظمة العلمانية الاستبدادية في الجزائر ومصر على سبيل المثال ليست سوى نسخ أعيد تدويرها من الأنظمة العربية ما بعد الكولونيالية التي رفضتها الشعوب.

غياب القبول هذا هو بالضبط الموضع الذي ينبغي أن تؤسس فيه القوى التقدمية بناء على المكتسبات الديموقراطية التي حققتها انتفاضات 2011م.


مخاطر الانتقال الثوري


قد يكون الأقوياء في مصر والجزائر استطاعوا أن يحبطوا أي انتقال ديموقراطي ذي معنى في المدى القصير والمتوسط، لكن لا بوتفليقة ولا السيسي قدَّما أي علاج للمشكلات السياسية والاقتصادية الكثيرة التي تنوء بها بلداهما.

إن الرئيس الجزائري الطاعن في السن يكافح مشكلات صحية ولعله لم يظهر تقريبا في المجال العام في الفترة الأخيرة. وثمة مخاوف كبيرة من احتمال نشوب تدافعات داخل النظام بمجرد رحيله. وفي مصر قد تتلاشى شعبية السيسي بمجرد أن تدرك أغلبية الشعب كيف أنه وزملاؤه في الجيش لا يكادون يفهمون سبيلا لإدارة أكبر البلاد العربية. ولقد فتح النظامان الجزائري والمصري بسحقهما العنيف للمعارضة الإسلامية الباب واسعا أمام المعارضة الديموقراطية اللبرالية لتولي زمام المبادرة.

أما عن داعش، فقد كان ظهورها كقوة فاعلة قادرة على إحداث الاضطرابات سببا في نتيجة غير مرغوبة هي توحيد خصمين قويين مثل واشنطن وطهران إذ اجتمعت كلتا القوتين على مساندة الحكومة في بغداد. وقد يؤدي دفء العلاقات بين البلدين إلى تقوية الوضع الداخلي للبرجماتيين في كلتا العاصمتين، لا سيما داخل إدارة روحاني في إيران، التي تسعى بلا كلل إلى إصلاح الروابط المقطوعة مع الغرب.

كما أن صعود داعش قضى على الحكم الطائفي الذي انتهجه إلى حد كبير رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الذي خضغ لضغط محلي ودولي أدى إلى تنازله وقبوله بحكومة «احتوائية». وفي ظل تخوفات من عدوى انبعاث التطرف لديها، سارعت بعض الدول العربية إلى النيل من المتطرفين فيها، بمن فيهم كبار مسؤولي الجماعات الجهادية في سوريا وفي غيرها. باختصار، لم يعد رعاة «الثورة المضادة» وقوى «الثورية الجهادية» آمنين بأي حال، في الوقت الذي يجتمع فيه البرجماتيون والتقدميون أمام خطر واحد.

لكن ماذا عن الربيع العربي؟ إن القراءة المتشائمة السائدة اليوم تميل إلى غض الطرف عن عامل أساسي لا يفسر فقط المنعطف المؤسف للأحداث الثورية حديثا، ولكنه يقدم مفتاحا لبعث طموحات الشارع العربي إلى الديموقراطية. وها هنا قد يكون عون كبير من أفكار جون مينارد كينز، أعظم الاقتصاديين في التاريخ في ما يقال.


الدولة الكينزية


في معرض تخليله لجذور الكساد الكبير، قام كينز بتحليل اضطرابات الرأسمالية الطبيعية في ظل غياب تدخل الدولة الاستباقي. غير أنه خلافًا لماركس لم يدع إلى القضاء على الرأسمالية، بل اقترح حزمة من سياسات الاقتصاد الكلي لتمكين الدولة من إدارة تطرفات الأسواق لصالح أغلبية الشعب.

وبإسهامه المباشر في تأسيس نظام بريتُن وودز، مهَّد الطريق أمام قياس الاستقرار والانفتاح في التجارة الدولية فسهل ذلك بدوره عملية التصنيع السريع وتعافي الاقتصاد في شتى أرجاء العالم. لقد استخدم كثير من اقتصادات العالم الصناعية والنامية النظريات الكينزية تحقيقًا لأفضل توازن بين التوسع الرأسمالي والتنمية الوطنية المستدامة، فكانت النتيجة هي نشوء دولة الرفاه في الغرب والحالات التنموية في أرجاء آسيا. وكان ذلك معلم عصر الرأسمالية الذهبي.

لكن ورثة الكينزية أخفقوا -بحسب ملاحظة ريتشارد بوسنر الذكية- في تقدير ضرورة الحيلولة دون قيام الحكومات بـ«تجاوز حدودها في التدخل الأقصى». وتلك كانت الغلطة المحددة ـ بجانب تأثير حرب فيتنام المهلك وأزمات النفط المتعددة في الشرق الأوسط ـ التي سمحت للاقتصاديين النيوكلاسيكيين في نهاية المطاف بتهميش الفكر الكينزي، وتأييد سياسات السوق والدعوة إلى تقليل حجم الدولة في العقود الأخيرة.

غير أن الكساد الكبير في 2007-2008م كان بمثابة نفير يدعو إلى إيقاف المد الاقتصادي النيولبرالي على مدار ثلاثة عقود. فلقد قضت الأزمة الاقتصادية على الإيمان الصادق بالنماذج الاقتصادية الأورثوذكسية التي دافعت بعناد عن العقلانية المفترضة والقدرة على التصحيح الذاتي للأخطاء.

وبالتبعية، بات عدد متزايد من صناع السياسات والأكاديميين يدركون حكمة الفكر الكينزي الذي يوضح ببراعة ضرورة الإدارة العامة الحكيمة للدورات الاقتصادية. فلا عجب أن شهدت السنوات الأخيرة دفعا قويا إلى إعادة ضخ المزيد من المبادئ الكينزية في المناهج الدراسية في أقسام الاقتصاد في العالم إضافة إلى مساهمة قوية من الدولة في تنظيم الاقتصاد العالمي والمحلي على السواء.


ثورة اقتصادية عربية


بحسب ما أذهب إليه في «كيف خذلت الرأسمالية العالم العربي: الجذور الاقتصادية والمستقبل المضطرب للانتفاضات العربية»، فإن انتفاضات العالم العربي في 2010-2011 كانت بالدرجة الأساسية انعكاسا لفشل الدول العربية في ما بعد الاستقلال في تعريب الفكر الاقتصادي الكينزي. فلا كان هناك تقدير متزن لمنافع الرأسمالية ولا أي جهد لإقامة حالة تنموية مستقلة ذاتيا.

لقد شهدت دول عربية كثيرا نشوء أنظمة شبه اشتراكية، خلت من الطابع الديموقراطي، وطغى عليها الطابع العسكري، والاعتماد على العائدات الاستراتيجية أو الهيدروكربونية. فشلت هذه الأنظمة العربية المشخصنة في تأسيس إصلاح زراعي حقيقي، وحالت دون نشوء طبقة رجال أعمال حركية وأهدرت الموارد الطبيعية في مساعيها إلى توطيد أركانها الأوتوقراطية -وجاء ذلك كله على حساب التصنيع والتنويع الاقتصادي المستدام. وكانت النتيجة أزمة اقتصادية في الثمانينيات أرغمت أغلب دول العالم العربي- لا سيما الدول غير المصدرة للنفط- على القيام بإصلاحات عنيفة موالية للسوق خلال العقود التالية [للثمانينات].

وبدلا من أن يعمل التحرر الاقتصادي في ثمانينيات القرن الماضي على تحويل الاقتصادات العربية إلى أسواق ناشئة دينامية، إذا به يسمح لكثير من الأنظمة الأوتوقراطية بالتخلص من مسئوليات دولة الرفاه، ونقل ملكيات الشركات المملوكة للدولة لعملاء ذوي حظوة لديها، والتوقف عن دعم آليات مساعدة القطاعين الزراعي والصناعي الاستراتيجيين. وبرغم أن الإصلاحات الموالية للسوق أتاحت للدول العربية تأسيس قليل من استقرار الاقتصاد الكلي، إلا أن النتيجة كانت تضاعف البطالة، وانتشار الفقر، وازدياد الاعتماد على الاستيراد في الأغذية والسلع، والاعتماد الشديد على اقتصاد المضاربات والاقتصاد الخدمي كالسياحة والعقارات.

فلا عجب إذن أن كان للكساد الكبير في 2007-2008 أثر مهلك على الشارع العربي، إذ أدى إلى تراجع رهيب في الأمن الغذائي، وانكماش اقتصادي كلي في شتى أرجاء الشرق الأوسط. في ظل الحد الأدنى من الأصول، والموارد المالية والفضاء السياسي اللازم لتدخل الدولة، تراجعت قدرة أغلب الأنظمة العربية على مجاراة آثار الأزمة، وفي ظل غياب آليات ديموقراطية حقيقية للتعبير عن السخط الاقتصادي، فقد كانت مسألة وقت لا أكثر قبل أن تتحد الطبقتان الوسطى والعاملة ضد الأنظمة الأوتوقراطية وتوقدان شرارة الثورة.أما اليوم، فقد فشلت أغلب الدول الانتقالية العربية في إدراك الجذور الاقتصادية البنيوية للربيع العربي. فلم يقدم أيٌّ من كبار المتقدمين الثوريين للزعامة أجندة سياسية متماسكة لمعالجة مواطن الضعف الاقتصادية الكامنة في النظام. بل انصب أغلب الجدل العام على مساءلة أوراق الاعتماد الديموقراطية لجماعة الإخوان المسلمين والتابعين لها في العالم العربي.ويتبين من النظرة العابرة للدول العربية الانتقالية كيف أن حكومات ما بعد الثورة التزمت بمثل سياسات الاقتصادي الكلي المتبعة في النظم السابقة. وهذا على وجه الدقة هو سر تذبذب مسيرة الانتقال الديموقراطي. وما لم تقم الدول العربية الانتقالية نموذجًا اقتصاديًا جديدًا يركز على الرفاه العام والنمو الاحتوائي والمرونة الاقتصادية الكلية والنهضة الصناعية الزراعية، فلن يكون هناك انتقال ديموقراطي حقيقي. فالديموقراطية في نهاية المطاف، وفي ما بعد حرية التعبير والممارسات الانتخابية الطقوسية، مسألة تتعلق بإقامة نظام اقتصادي يتسم بالمساواة والقدرة على تقوية المواطنين وتمكينهم من المشاركة في صياغة النظام السياسي. والأفكار الكينزية خير هادٍ لتحقيق التوازن الأقصى بين الديموقراطية والتنمية الاقتصادية، وهي تصلح خطةَ عمل للقوى الديموقراطية التقدمية المتمسكة بوعد إحياء روح ثورات 2011م.في تونس، وهي مهد الربيع العربي، استطاع الإسلاميون المعتدلون (لا سيما حزب النهضة المسيطر) واللبراليون التقدميون أن يتفاوضوا -وإن بصعوبة بالغة- على أسس أول بلد ديمقراطي حقيقي في العالم العربي. وهم بإقامتهم هذا القدر الضئيل من التوافق السياسي الديمقراطي، يبقى عليهم أن يقوموا بالخطوة التالية، وهي أن تتبنى تونس سياسة اقتصادية تقوم على المساواة، فتنعكس هذه السياسة في تصاعد الحرية والانفتاح السياسي والعدالة الاجتماعية بين أغلبية الشعب. ولا يزال الربيع العربي بعيدًا عن هذا كله أشد البعد.


نشر المقال في ذي نيشن الأمريكية


كاتب المقال محاضر في الشؤون الدولية والعلوم السياسية بجامعة أتينيو دي مانيلا ومستشار سياسي للبرلمان الفلبيني، كتب بوصفه متخصصا في الشؤون الآسيوية الجيوسياسية والاقتصادية للجزيرة وبي بي سي ونيويورك تايمز وفورين بوليسي وغيرها، كما صدر له حديثا كتابه «كيف خذلت الرأسمالية العالم العربي: الجذور الاقتصادية والمستقبل المضطرب للانتفاضات العربية» عن دار زيد في لندن.