علي بن سعيد العلياني -
لا يختلف اثنان على أهمية وجود رخاء اقتصادي واستقرار سياسي يدفع بالأمة إلى مراتب عليا في سلم توفير سبل العيش الكريم لأبنائها ولا يمكن لعاقل أن يقول إنه لا يريد له ولأهل مجتمعه وفرة في المال وسعة في الرزق فهذا من المسلمات التي يجمع عليها الجميع دون استثناء ….إذا هناك رابط يجمع الجميع تحت لوائه وهو المحافظة على المكتسبات والسعي نحو وجود الأفضل على كافة المستويات ، من هنا يجب أن ننتبه إلى أمر مهم وهو أن كل اختلاف في التوجهات يجب أن يظل بعيدا عن الساحة العامة التي هي ميدان العمل والإنتاج والإبداع بلا حدود ، لابد أن نفرق بين اختلاف الأيدلوجيات والأفكار والتوجهات الثقافية والعمل من أجل رفعة الوطن والمحافظة على ترابه موحدا من كل فرقة أو انقسام وذلك من حيث أن الاختلاف الثقافي يعتبر هامشيا لأننا مسلمون وفي بلد مسلم عربي ، فاللغة والدين تجمعنا وأيضا إذا أقحمنا خلافاتنا الثقافية في ساحة العمل والجد والاجتهاد فإننا نكون بهذا الأسلوب قد ضيعنا على أنفسنا فرصة الرقي والإبداع والتفاني في أداء واجباتنا تجاه أهلنا ووطننا من حيث أن التركيز على جانب خارج إطار مهمتنا في الحياة يحجم من قدراتنا ويكبل طاقاتنا ويجعلنا نذهب بعيدا في خلافات مع إخواننا ، علينا أن نترك الخلافات في التوجهات الثقافية جانبا ونأخذ من الثقافة ما يخدم واقعنا العملي بدل أن نوظفه في مماحكات وسجالات خاسرة للجميع وبدل أن ندخل به في نفق مظلم من الأخذ والرد الذي لا يسمن ولا يغني من جوع …أردت بهذا الكلام ما تعانيه أمتنا العربية والإسلامية من مسميات ثقافية وتوجهات تلصق بالثقافة والثقافة منها بريئة من أجل إيجاد موطئ قدم لتقسيم المجتمع إلى طوائف وشيع تتبادل الاتهامات وتتصارع على مائدة خالية من كل مفيد وتعج بكل ما يسمم جسم هذه الأمة ويساهم في تأخرها وضعف بنيانها وبنيتها .. إن ما أقصده هو ظهور مصطلحات ومسميات غريبة زرعت بيننا كأمة لنغدو أشتاتا ننظر لبعضنا البعض كأعداء ، فمصطلحات الليبرالية والعلمانية والعقلانية كلها مصطلحات غريبة على مجتمعنا أوجدت من أجل إيجاد شرخ عميق يقسم الأمة إلى مربعات ومثلثات وبالتالي خلق عداوات …لست من يقف ضد أي توجه ولا أعادي أي طرف لكنني أتوجس خيفة أن توجه الجهود وتسخر الإمكانات ويصب الإبداع في بوتقة لا تخدم المجتمع لا من قريب ولا من بعيد بل تسبب صداعا مزمنا وتساهم أحيانا في تشويه الوسط الثقافي من حيث السجال المستمر بين الأطراف والسعي للانتصار للنفس ولو كان هناك تزييف للحقيقة وغمط للحق وهنا يحصل ما لا تحمد عقباه من ضيق الصدور وتنافر النفوس وبالتالي نصل إلى نقطة يصعب الرجوع عنها إذا لم يبادر الجميع إلى وضع النقاط على الحروف في هذا المجال بحيث يقف الجميع على آلية يكون فيها العمل للمجتمع والوطن وبذل الجهد غير معني بتلك الخلافات فأصحاب التوجهات يجب أن يكونوا في خندق واحد يعملون وينتجون ويبدعون لوطنهم وأمتهم ، أما مسألة التوجهات الثقافية وتنوع الأيدلوجيات الفكرية يجب أن تظل في حدود القناعات الشخصية الفردية من غير أن نحاول جر الناس إلى مسارات نريدها نحن سواء كان بالإقناع أو اللف والدوران أو عن طريق التقليل والتحجيم من شأن الآخرين أو عن طريق التصيد في الماء العكر أو التجييش والحشد بطريقة الاستعطاف وإظهار التظلم والمسكنة ….المهم كل طريقة أو أسلوب يؤدي التشويش على الأداء والتأثير على الإنتاج أو اهتزاز النسيج الاجتماعي فهي غير مرغوب فيها حفاظا على الجميع ومن أجل المجتمع والوطن ، وهناك من يقول التغرب في الفكر وهذا مصطلح غريب علينا فنحن مجتمع شرقي مسلم ومعروف بعادات وتقاليد وثقافة الرجل الشرقي مع انه غير ممنوع أن نأخذ من الغرب ما يفيدنا سواء أكانت نظريات أدبية أو تربوية أو علمية فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها لكن أن نأخذ الثمين ونترك الغث ، فالغرب عنده نهضة علمية وصناعية وتكنولوجية كبيرة في شتى المجالات وعنده بعض الأخطاء والمفاسد في جوانب أخرى وعنده أيضا نظريات أدبية وثقافية تلائم الواقع الذي يعيشه ومستقاة من تراثه الماضي فهم يأخذون ما يناسبهم ويواكب توجهاتهم الدينية والأخلاقية بمعنى أنهم يفصلون الواقي الأدبي على مقاسهم فما الذي يجعلنا ونحن أصحاب حضارة عريقة وتراث أصيل منذ الأدب الجاهلي ومرورا بالأدب في العصر الإسلامي الأموي والعباسي والمملوكي وغيره من مراحل التاريخ الإسلامي وعلى امتداد رقعة سكانية تمتد إلى الصين أنتجت قرائح أبنائها الكثير والكثير مما يناسب واقع حياتنا ، وهذا الكلام ليس معناه أنني ألح على أحد ليسلك طريقا أريده أنا أو غيري بل إنني أوضح أن التوجهات الثقافية في البيئة الغربية غالبا لا توافق توجهاتنا الثقافية التي صبغت بصبغة الإسلام وارتسمت لوحة جميلة عبر آلاف السنين لتخرج لنا فنا راقيا من الأدب الجميل والفكر الذي خرج من روح الشريعة وولد من رحم آلام وآمال هذه الأمة ليكون تاجا يرصع رؤوس الجميع بالفخر والاعتزاز والإحساس بالكرامة .
إن الوسط الثقافي يجب أن يقود الناس إلى الوحدة والاتحاد فهو صاحب الكلمة المسموعة وهو الذي يستمد منه الناس رؤاهم الدينية والدنيوية ..
إن الثقافة تعني الرقي بالكلمة حتى تشنف الآذان وترهف الأسماع وتعني الرقي بأحاسيس الناس إلى مراتب يكونون فيها وحدة واحدة ، وأن الوسط الثقافي هو مطالب أكثر من غيره أن يكون قدوة في الوحدة قبل الآخرين وأن يحافظ على حياديته من أن يغوص في أوحال وسجالات أو صراعات كلامية ، يجب أن يترفع عن كل ما يسبب حساسيات أو يضعف القلوب ، واليوم ونحن نرى هذا الكون يموج بالصراعات والحروب والانقسامات والتحزبات علينا أن نقوم بدورنا تجاه أمتنا في أن نوحد صفوفنا نحن أولا لنستطيع أن نوصل صوتنا للآخرين ولتكون كلمتنا مسموعة وإلا لن يبالي أحد بكلامنا عندما نكون منقسمين على أنفسنا ..إن إثبات الحضور في الجانب الثقافي لا يكون بالتنافس غير الشريف بل يكون بزيادة جرعة الإبداع والانغماس في توظيف مواهبنا وعقلياتنا الأدبية لنترك بصمة تشفع لنا أمام امتنا التي تعقد علينا آمالا واسعة في أن نكون حجر الأساس لتقدمها ورقيها ورخائها بغض النظر عن توجهاتنا الثقافية أو مشاربنا التي أخذنا منها حصيلتنا الأدبية … إننا اليوم نعيش على صفيح ساخن بسبب الكم الهائل الذي نستقبله بسبب الثورة الثقافية المتسارعة ، إننا نستقبل ملايين اللقطات التي تعبر عن مشاهد ثقافية من أنحاء شتى من العالم ، فالثقافة لم تعد كما كانت ابنة الكتاب الورقي المحدود الانتشار ، فالكتاب الإلكتروني المتوفر بالملايين تجده عندك بضغطة زر والوسائل الأخرى كالتلفاز والمذياع والإنترنت بكافة أشكاله فالأفلام بكل أنواعها الوثائقية والعلمية والسينمائية بأنواعها الكوميديا والدراما أصبحت ثقافة مفتوحة يستقي منها الجميع ، لكننا في النهاية يجب أن نأخذ قرارنا الأهم وهو أننا بالرغم من هذا كله لابد أن نظل في خدمة مجتمعنا ونحاول تسخير كل ما تحويه عقولنا وما تختمره جعبتنا الأدبية ليكون وسيلة دفع للأمام لعجلة التقدم والرقي ، لأن الأديب وخصوصا المسلم يستطيع فلترة ما يستقبله عقله ليخرجه للناس علما نافعا ، فهاهم المسلمون الأوائل الذين عاشوا مرحلة الترجمة والتأليف ونقل التراث اليوناني وغيره إلى التراث الإسلامي استطاعوا أن يوظفوا هذا التراث العلمي لخدمة هذه الأمة دون المساس بثوابتها وعدم محو تراثها الأدبي السابق بل حصل مزج بكل سلاسة وسهولة ويسر وهذا لأن هؤلاء الأفذاذ كانوا يعون تماما كيف ولماذا أقدموا على هذه الخطوة الخطيرة ….لكن أن نقدم على خطوة لمجرد الخوض مع الخائضين أو مجارات الآخرين فهذا الذي يجر علينا الويلات ويسبب لنا المشاكل ويجعلنا نتجرع المآسي ، يجب أن نكون اكثر حنكة وأوسع وعيا عند تعاملنا مع الجانب الثقافي كما يجب أن نتمتع بحيادية واتزان ومهنية تنقذنا من كل العثرات المتوقعة ..


