العمل في القرآن: الغبش في التصور

حمود بن عامر الصوافي -

تنظر حولك وتتابع الإحصائيات فتتعجب حين ترى أوضاع المسلمين وتندهش من سوء معيشتهم وشدة فقرهم بل قد يكونون من أشد شعوب العالم فقرا وجلهم يعيش في الدول النامية أو قل النائمة يسمون بالعالم الثالث مع أنهم أصحاب حضارة سابقا، وإمكانياتهم كبيرة، ومصادر الدخل عندهم متنوعة، وأرضهم خصبة بالمعادن والنفط وسائر الخامات التي تحرك صناعات العالم ولكنهم يجهلون استخراج ما بأيديهم وربما لا يفكرون في تغيير حالتهم قد تأثروا بثقافة القناعة وركنوا إلى الكسل وظنوا إمكانية تحصيل المال بالتمني وها هي منتجات التمني لم تبدع في شيء قط.

وربما يكون من أسباب ذلك الغبش في التصور وسوء الفهم جعلهم يركنون إلى الجهل فمنهم من يتصور أن الغنى قرين الترف وأن التلف نقمة العيش، لذلك أحجم عن الخوض في الصفقات التجارية، ورضى بالراتب الثابت فقط، وقد يفسر بعض الآيات بما يتناسب مع فهمه ولكن فهمه فيما يبدو بعيد عما فهم، قال تعالى:( (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7))(العلق: 5، 6) فالإنسان يطغى بماله إن رأى أنه مستغن عن الله تعالى فيما أعطاه فمثله كمثل طغيان فرعون حين بدا له أن المال جاء عن ذكاء ملهم وفطنة نادرة وجهد دؤوب لذلك استكبر وطغى بماله، فقال:( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)(القصص: 78) فلو نظر إلى المال على أنه من عطاءات الله وأفضاله لعفت نفسه عن الغرور وأيقن أن العطاء لم يكن فقط بسبب جهد وفطنة وذكاء.

أما كان الأولى له أن يعترف بنعم الله ويعد المال مال الله وأنه مستأمن فيما أعطي، ويؤدي ما عليه من زكاة وصدقة في ماله ويكون قد أخذه من قبل بطرق مشروعة لوصف بالصلاح ولو كانت أمواله بعدد قطر البحر.

أما يجدر به أن يكون كنبي الله سليمان عليه السلام الذي أدرك أن المال مال الله وأنه أمين عليه، فضل من الله ونعمة لذلك لم يطغَ لأنه أتى المال حقه وعرف المتفضل عليه، قال تعالى:( قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40))[النمل/40.

فيخطئ من يتصور أن الغنى كرامة من الله والفقر إهانة وتحقيرا للفرد بل كل ذلك محض ابتلاء وفتنة، قال تعالى:( فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)[الفجر/15، 16، ويقول:( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء/35.

فالغنى والفقر محض ابتلاء، يبتلينا بالغنى لنشكر ويبتلينا بالفقر لنصبر فنحن نعيش بين الشكر والصبر لذلك امتُدح المؤمن في الحديث لأن أمره كله له خير فهو واقع بين هذين الأمرين الجليلين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ).

فعلى العبد أن يحرص على الشكر والصبر فلا يظنن الخير كرامة من الله ولا المصيبة إهانة بل كله محض ابتلاء، قال تعالى:( لَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11))، لذلك ليس من شيمة المؤمن أن يبطر في الفرح ويقنط في المصيبة فتلك عبادة أهل الأهواء.