فشل الخطط الورقية

مصباح قطب –

كالمعتاد فى مصر وفى غير مصر توجد فجوة كبيرة بين خطط تنظيم وتطويرالعمل الاداري على الورق وبين ماهو واقع وما يمكن عمله بالفعل. اقول ذلك بمناسبة إعلان الحكومة المصرية بجدية هذه المرة فعلا اعتزامها تنفيذ خطة شاملة للاصلاح المؤسسى للجهاز الحكومي. أتمنى ردم الفجوة بين الطموح والواقع. هذه هي النصيحة. سأضرب مثلا عن الخطط التي تعد في غرف مغلقة وما يلحق بها. ما اكثر المرات التي اقامت فيها هذه المحافظة او تلك نافورة لتجميل ميدان، وما اكثر المرات التى تم فيها تشويه وتعطيل النافورة بحيث تصبح إضافة إلى القبح القائم. السبب ان من يفكر فى عمل نافورة ينطلق من فكرة تجريدية لا تراعي ثقافة وواقع وطبيعة الجمهور فى علاقته بالمكان. منذ سنوات اقامت دار الاوبرا المصرية نافورة يؤطرها قبو اسمنتي غير مكتمل منساب بنعومة محسوبة وتتحرك المياه داخله بحيث لا ترتفع في اندفاعها إلا أعلى قليلا عن مستوى سطح القبو صانعة خريرا داخليا مكتوما مسموعا مثيرا للخيال بحيث يذكرك بالنيل في سريانه وحركته الخالدة. انها النافورة الوحيدة في مصر التي اقيمت «صح» لأنها مصممة بحيث لا يمكن العبث بإطارها او بمياهها او اللعب في تيارها المتدفق اعلى واسفل الخ … تصميم يحمي نفسه تكوينا ومضمونا من عبث الصبية والاطفال، وبما ان ذلك لا يراعي فى نوافير المحافظات تتحول كلها الى ملهاة بعد قليل من اقامتها. نفس الامر يمكن قوله عن التطوير الاداري.

كبار المسؤولين ما زالوا يصدرون التعليمات ويضعون الانظمة الخاصة بالعمل دون الإلمام الجيد بالحالة التي عليها الإدارات وهل تتوافر الامكانيات اللازمة لإتمام الانظمة الجديدة بشكل عملي ام لا ؟.كل مسؤول جديد يقوم بإصدار تعليمات بأنظمة جديدة للعمل داخل الادارة دون الاهتمام بكيفية تنفيذ هذه التعليمات وهل تتوافرمتطلبات نجاح هذا النظام الجديد ام لا ؟ وهل توجد الكفاءات القادرة على إنجاح اي مشروع جديد لتنظيم العمل الاداري ام لا ؟ .

داخل الادارة غالبا تتراكم انظمة العمل والتعليمات الجديدة الصادرة عن كل مسؤول جديد مما يجعل هناك غابة من التعليمات يصعب الخوض فيها فضلا عن فهمها وتنفيذ ما بها.

كل موظف فى تلك الاجواء يصبح في متاهة كبيرة. الطريف انه يوجد دائما البعض الذي يرى انه من الافضل أن ينفذ كافة التعليمات الجديدة والقديمة حتى لو تضمنت إجراءات لا تعود بفائدة ولكنها من وجهة نظره تعليمات لا بد من تنفيذها. بالطبع احيانا ما يتم عمل ذلك عن قصد لإرباك طالب الخدمة او الضغط عليه ليدفع بقشيشا او رشوة.

مثال آخر للفجوة بين الواقع والمثال: نظام يسمى «التعليم النشط» وتعريفه نظريا هو فلسفة تربوية تعتمد على إيجابية المتعلم في الموقف التعليمي ويشمل جميع الممارسات التربوية والإجراءات التدريسية التي تهدف إلى تفعيل دور المتعلم، حيث يتم التعلم من خلال العمل والبحث والتجريب، واعتماد المتعلم على ذاته في الحصول على المعلومات واكتساب المهارات، وتكوين القيم والاتجاهات، فهو لا يركز على الحفظ والتلقين فقط وإنما يركز على تنمية التفكير والقدرة على حل المشكلات وعلى العمل التعاوني. فى التعلم النشط فإن كلا من: حجرة الدراسة، المعمل، المكتبة، حجرة النشاط، المسرح، الملعب، وغيرها تعتبر بيئة تعلم وكلها تندرج – نظريا – في منظومة تتضمن المدخلات والعمليات والإجراءات اللازمة لتهيئة مواقف يمكن أن يحدث فيها التعليم والتعلم بفاعلية.

الله عليه. هذا ما يتعين ان يقوله اي قارئ للنظام على الورق، ولكن هل توجد بالفعل إمكانيات داخل المدارس لتنفيذ هذا النظام ؟. بالطبع لا، فالمدارس مكدسة بالطلبة وحجرة التعليم ذاتها لا تتيح عمل مجموعات دراسية من الطلبة إلى جانب ان المقاعد لا تصلح لفكرة المجموعات كذلك معظم المدارس لا يوجد بكل منها مسرح أوملعب واذا وجد الملعب فمساحته صغيرة جدا وكذلك هناك مدارس تتعامل مع المكتبات على انها كيان لا بد من تواجده ولكن هي عهدة افضل ما يمكن عمله معها هو حمايتها من اي استخدام، ولا يوجد «نت» بالمدارس هذا ان وجدت اجهزة حاسوب صالحة ومتاحة للدراسة عليها بالاضافة إلى ان المعلم نفسه ليس لديه استعداد للعمل بهذا النظام الجديد الخ. اذن ضاع النموذج.

*مقابل ما تقدم ثمة تجربة واقعية تبين حجم التعقيدات وغبائها. منذ ايام خاض زميل تجربة عملية لتقديم طلب نقل ابنه من مدرسة لمدرسة اخرى يوجد بها ابنه الثاني داخل نفس الادارة التعليمية اي داخل نفس الحيز الجغرافي والاداري. ماذا جرى ؟. في البداية تعين الحصول علي إثبات قيد من المدرسة المراد النقل منها لإثبات وجود ابنه بها ثم الحصول علي اثبات قيد من المدرسة المراد النقل اليها بوجود ابنه الثاني بها ثم الذهاب إلى الادارة التعليمية لتقديم طلب تحويل وبه هذه الاوراق بالإضافة لصورة البطاقة الشخصية لولي الامر وبعد ذلك انتظار ظهور نتيجة الطلب حيث كان ولي الامر مضطرا للذهاب للإدارة التعليمية كل فترة للتعرف علي نتيجة كل لجنة يتم تشكيلها للبت في طلبات التحويل وبعد انتظار دام اكثر من شهرين تمت الموافقة علي الطلب وبدأت رحلة جديدة مع الاجراءات لتنفيذ الطلب الموافق عليه شملت اولا الحصول علي طلب تحويل من اربع ورقات من المدرسة المراد النقل منها موجه الى المدرسة المراد النقل اليها وبعد الحصول علي امضاءات واختام خلال رحلة طويلة كان لابد من الحصول علي حوالة بريدية بقيمة 10 جنيهات يحصل عليها المواطن بـ17.25 جنيها (الدمغة) ويتكبد اكثر من اربعين جنيها كمواصلات لاستخراجها ثم يتم تسليمها في المدرسة المراد النقل منها للحصول على ورقة بيان القيد ثم الحصول على توقيع خاص بالسنة الدراسية وحيث إن الطالب المراد نقله سيدخل الصف الاول الابتدائي حدث خلل لخصه موظف “كله بشاشة” بالقول : “مش تبعنا ..تبع قطاع رياض اطفال” لان من سيدخل الصف الاول لازال عمليا فى رياض الاطفال ما دام لم يتم بعد قبوله فى المدرسة التي سينتقل اليها هكذا يقول الورق. والورق لا معقب على قوله. ذهب الزميل لقطاع رياض الاطفال وكانت المفاجأة عندما اطلع علي ما كتبوه: «نفيد بأن المدرسة المراد النقل منها هي تابعة للادارة التعليمية ……» وكأن هذه المعلومة كانت غائبة عن الناس وكان لابد من التأكيد عليها. المرحلة التالية هي الذهاب إلى الادارة التعليمية بكل هذه الاوراق المليئة بالإمضاءات والاختام لتضيف الادارة امضاءات جديدة واختام جديدة ولكن ما فاجأني حقا هو وقوف الاوراق بعد ذلك بسبب عدم وجود نموذج التحويل الالكتروني . يا خبر ؟ يعني فيه تحويل اليكتروني |؟ ولماذا لا يعمل من اول خطوة او يكون هو كل الخطوات اذن ؟ لا اجابة . ثم ضحك: يتم الحصول على النموذج من المدرسة المراد النقل منها وقد تصادف ان خدمة النت بها كانت مقطوعة مما اضطره الذهاب في اليوم التالي للحصول عليه.

التحويل الالكتروني هو طلب ورقي موجه من المدرسة المراد النقل منها إلى المدرسة المراد النقل لها ونلاحظ ان اسمة الكتروني ومع ذلك لابد ان يحصل ولي الامر على صورة منه لتسليمها باليد للمدرسة الاخرى. هزل . وبعد الحصول على كل هذه الاوراق اصبح الملف سمينا ودسما بما يكفي وانهى صديقي الإجراءات وتم تحويل ابنه اخيرا وهو ماجعله يقدم لله نذرا بعد ان تمت المعجزة .

كل صاحب مشروع او منشغل بالاقتصاد في مصر وفي غير مصر يجب ان ينشغل بمثل تلك الامور البسيطة فهي تكون جبل الموانع البيروقراطية في النهاية. ان تغيير نهج العمل ونمط التفكير والنزول الواقعي إلى الحياة وحل المشكلات عمليا هو اول خطوات الاصلاح. ان اكثر ما يصدقه المستثمرون عن مصر الآن ليس ما يتم التخطيط له او التفكير فيه ولكن ما يقوم به رئيس الحكومة ميدانيا. ان تحديد اهداف وغايات لأي عمل حكومي والمحاسبة عليها هو ما يجب ان يسبق التفاصيل بل يجب ترك التفاصيل لأهل كل موقع اداري حتى لاينتظروا تعليمات او يعقدوا الامر بحجة التعليمات التى اتهم من فوق . طريق طويل لكن النجاح السريع فيه ليس صعبا. كل المطلوب أن ننطلق من الارض.