متلازمة الشهر.. هل تقود إلى انتحار المشاهير من الفنانين والكتاب والأدباء؟

هل للأحلام أن تنكسر بالفعل؟

من قبل تحدث أديب لبنان الكبير «جبران خليل جبران»، عن الأجنحة المتكسرة، لكن يبدو أيضا أن الأحلام على موعد مع القدر للانكسارات، كما مع تحقيق الانتصارات في أوقات سابقة، لا سيما إذا كانت انتصارات الشهرة والمال والجمال والمجد الأدبي.واحدة من أفضل اللوحات العالمية التي توقف أمامها كاتب هذه السطور طويلا، لوحة الفنان النمساوي الأصل الإيرلندي الجنسية (جوتفريد هيلنوين) المعروفة باسم (بوليفار الأحلام المكسورة) وهي عبارة عن تجمع لبعض مشاهير هوليوود حول أحد البارات في إحدى المدن الأمريكية، منهم مارلين مونورو جميلة جميلات هوليوود، بالإضافة إلى الفيس بريسلي، ملك الروك أند رول في ستينات القرن المنصرم والذي يقوم بدور الساقي، عطفا على أسطورة الجمال الرجالي في السينما الأمريكية، جيمس دين، بالإضافة إلى همفري بوجارت أحد أهم ممثلي السينما الامريكية في النصف الاول من القرن العشرين.. هل من علاقة ما بين اسم اللوحة وحياة هؤلاء المشاهير من نجوم «البريمو» الأمريكي، أولئك الذين ملاوا الدنيا وشغلوا الناس تمثيلا، وغناء، جمالاً، ودلالاً، بقدر ما امتلأت جيوبهم بالأموال؟لماذا هذا السؤال الآن؟ ربما جاء انتحار المغنية الأمريكية الشابة (25 عاما) سيمون باتل نجمة برنامج اكس فاكتور اوائل شهر سبتمبر وقبلها كانت النهاية المأساوية للفنان الأمريكي الكوميدي الشهير «روبن ويليامز» مؤخرًا لتدفعنا من جديد إلي البحث عن سبب الأحلام المكسورة، والتي معها قررا أن ينهيا حياتهما ، ويكسرا الحلم الذي لامس النجوم.

يخيل للمرء أن صاحب «بوليفار الأحلام المكسورة»، كان في حاجة إلي جدارية كبيرة، من عشرات الأمتار، ليرسم عليها أن استطاع إلى ذلك سبيلا، رسم غالبية إن لم يكن معظم أولئك المشاهير من فنانين وأدباء، وكتاب ومغنيين، سياسيين ومبدعين، الذين قرروا ولأسباب تكاد تكون متشابهة، الرحيل مبكراً، إذ وجدوا «أن الحياة لا تحتمل»، كمال قالت إحداهن في الرسالة التي تركتها بجانب جثتها.

«دع القلق وأبدأ الحياة»، و«كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس»، عنوانان من أهم مؤلفات الكاتب الأمريكي الشهير، مبدع تقويم السلوك الإنساني، «ديل كارينجي» لكن رغم ذلك بدده القلق، ولم يقدر له أن ينتصر على هواجسه، ففضل الموت، تاركاً من خلفه علامة استفهام: «هل الكاتب يكتب ليؤكد لذاته ما يؤمن به من قيم وأخلاقيات، مبادئ واتجاهات، أم أنه يمكن أن يخدع نفسه قبل أن يخدع قراءة ومريديه؟

«المشي على القمر» جعل من مايكل جاكسون معبوداً للجماهير في أمريكا، بالضبط كما كانت أغنيات الروك أند رول بالنسبة لالفيس بريسلي قبله بثلاثة عقود، لكن خللا بنيويا ما في التركيبة النفسية، للمغنين الأمريكيين الشهيرين جعلتهما يرحلا قسراً عن الحياة وطوعا لإرادة ذاتية متمحورة حولهما، هما فقط دون العالم أجمع.

هل تنكسر الأحلام لانطفاء الأضواء وفقدان بريق التوهج؟ هناك حالات انكسرت فيها الأحلام، رغم أن أصحابها كانوا في قمة التألق، مثل: مارلين مونورو على سبيل المثال وهناك البعض الآخر كان يكفيه ما حققه في رحلة حياته من مال وشهره يعيش عليهما لعقود طوال.على مدي عشرين سنه قدمت المغنية الفرنسية الجنسية المصرية الأصل «رولاندا جيحليوتي» المشهورة باسم «داليدا» نحو ستمائة أغنية، وباعت نحو مائة مليون أسطوانة، ما حقق لها ربحاً مالياً وأدبياً غير مسبوق، ولم يقدر لها الفكك من المصير المؤلم، فانتحرت متذرعة بأن «الحياة لم تعد تحتمل».

من الأسرع في انكسار أحلامهم الشباب أم الشيوخ؟


يبدو أن الآفة التي نحن بصددها لا تميز بين هؤلاء وأولئك ففي عام 2009 أقدمت الممثلة البريطانية «لوس جوردون» 29 عاما على شنق نفسها، في شقتها الباريسية الفاخرة وقبلها بنحو أربعة عقود وجد أشهر روائي أمريكا «أرنست هنجواي» صاحب العمل الأدبي البديع «العجوز والبحر»، نفسه وحيداً، رغم شهرته التى بلغت الآفاق محدثة بأدبه الإنساني الراقي، الذي يصبه في قوالب روائية جميلة، فقرر الخلاص من الحياة بطريقته الخاصة، عندما أطلق الرصاص على رأسه الرصاص من بندقية قديمة كان يملكها، ليفجع الأمريكيون والعالم في الحكيم الذي انتحر.يعن للمرء أن يتساءل هل المال عاصم عن تكسر الأحلام أم أن البوليفار عينه به عينات من تلك الصحبة الثرية التي عجز المال عن التعاطي معها وإدخال السعادة إلي قلبها، فأنهت حياتها بأيديها؟

حكما نحن نتحدث عن البليونيرة الشابة «كريستينا أوناسيس» ابنة البليونير اليوناني الاشهر «أرسطو أوناسيس»، تلك التي ورثت البلايين عن والدها، حتى سئمت الغني، وقد مضت مع زوجها الشيوعي إلي حارات موسكو وأزقتها بحثا عن شظف العيش، وسعيا للسعادة في عالم البروليتاريا، ورفضا للبرجوازية العليا، لكن في هذه أيضا فشلت، ليجد البعض جثتها على شاطئ أحد القرى السياحية في الأرجنتين، بعد ما ابتلعت كمية كبيرة من الحبوب المنومة، وكان عمرها آنذاك سبعة وثلاثين عاما لا غير.

قبل رحيل روبن ويليامز، صدم الأمريكيون في خبر انتحار الفنانة والمغنية، السمراء الجميلة «ويتني هيوستن» التي وجدت غارقة في مغطس حمامها، فيما كانت غرفتها مليئة بالأدوية المهدئة والمنومة والمثبطة للقلق والقاضية على الأرق، ما يعني أنها كانت أداتها للخلاص من الحياة. ما الذي يجعل «روبن ويليامز» الكوميدي الضاحك الذي سطر في تاريخ السينما الأمريكية أفلاماً عديدةً ستبقى محفورة في الأذهان يصاب باكتئاب حاد يجعله يشنق نفسه بحزام لتمتد جدارية الأحلام المكسورة طويلا في مأساة تتعمق يوما تلو الآخر؟حكما يضيق المسطح المتاح للكتابة، كما الجدارية المتقدمة، أن أردنا سرد مشاهير العالم المنتحرين من أيام الملك يادس (132 63 ق.م) مرورا بـ«هانيبعل» الأسطورة القرطاجي (221، 183 ق.م) ونيرون الروماني (27 68م) وصولاً إلى أدولف هتلر (1889-1945) أولئك الذين انسحبوا من الحياة، غير أن السؤال الجديد القديم… لماذا يقدم بعض المشاهير على الانضمام لنادي «البوليفار الأليم» الذي نحن بصدده.

يبدو أنهم قد انتظموا في خيط شديد القرب والشبه، قادهم لاحقا إلى الـ«البئر العميقة السوداء» التي تحدث عنها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، والتي كان يقصد بها حالات الاكتئاب التي كانت تنتابه كما العديد غيره من الذين تسلط عليهم الأضواء.

غير أن الاكتئاب في واقع الحال هو عرض لمرض نفسي عميق، كثرت من حوله الروايات، وتعددت في شأنه الأسباب والمدارس النفسية، ولا يزال غامضا، ذلك أنه لا يعرف روح الإنسان إلا نفس الإنسان الذي فيه، وهنا يصدق قول أبو العلاء المعري:

أتزعم أنك جرم صغير…وفيك انطوى العالم الأكبر. رحيل روبن ويليامز يدفعنا ليقين شبه مطلق نحو فكرة التعادلية، بمعني ما الذي يمكن للإنسان أن ينتزعه من يد القدر، وما الذي عليه أن يتخلي عنه؟ يحدثنا أديب مصر الكبير توفيق الحكيم في كتابه الجميل «عصا الحكيم» عن القدر، الذي تنكر في زي أحد الحواة ومضي إلي وسط المدينة، وفي جعبته ثلاث كرات، أحداها مكتوب عليها المال، والثانية الصحة، والثالثة راحة البال، ولأنه القدر فقد كان قادر على التلاعب بالكرات الثلاث دون أن تسقط أحداها، وفيما دعا الناس لتقليده لم يستطع أحد من بني البشر التقاط الكرات الثلاث أبداً، فكان أحدهم يلتقط كرة المال وكرة الصحة، وتقع منه على الأرض كرة راحة البال، أو يحتفظ الثاني براحة البال والصحة ويفقد كرة المال، وهكذا تدور الدائرة.

هل كان على أعضاء نادي الأحلام المكسورة الإيمان بيقين هادئ وثابت أن الشهرة والنجومية، والمال والجمال، هي كرات قدر، لابد في المقابل من دفع أكلافها من أمور أخرى، في مقدمتها تقدير نعمة الحياة، والرضي بما قسم الله لكل من بني البشر؟

يمكن ان يمضي في طريقين الأول يلتمس الروحيات والآخر يقترب من الأرضيات.

أما عن الروحيات فحدت ولا شك عن حالة الخواء الروحي التي تعيشها الإنسانية مؤخراً، ومؤخراً هنا تعني بعد الحرب العالمية الثانية خاصة، فلا يزال العالم مضطرب رغم سبعة عقود على انقضائها، وظهور مواجهات باردة وساخنة أخري، وها نحن على طريق حرب عالمية ثالثة مجزأة دخلنا غمارها، ما يجعل المستقبل ضبابي الملامح، والأحلام المكسورة ليست قصرًا على بلاد العالم الأول، بل تمتد إلي دول العالم الثالث، وتنتشر بين البيض بقدر حضورها في أوساط السود.

وقديما قال أحد الفلاسفة: إن قلب الإنسان أقرب ما يكون للمثلث وأن الأرض كروية، وعليه فلو وضعت الكرة الأرضية برمتها في قلب الإنسان، فستظل هناك مساحات فراغ روحية لا تملأها شؤون أو شجون العالم المادية.أما الطريق الثاني فهو ذلك الذي يحاول عبر وسائل التحليل النفسي معرفة ما الذي يحتاجه الإنسان، ما الذي يرغب فيه، وهل كونه كائن معرفي متقلب المزاج مضطرب الرغبات يؤدي إلي استحالة تفسير أسباب رضاه أو غضبه؟. ذات مرة كتب الفنان ورسام الكاريكاتير المصري الشهير صلاح جاهين، الذي انضم الى نادي المنكسرة أحلامهم من خلال ابتلاعه علبة مهدئات ذات ليلة حزينة، في أحدي رباعيته يقول:

لا تجبر الإنسان ولا تخيره يكفيه ما فيه من عقل بيحيره

اللي النهاردة بيطلبه ويتمناه

هو اللي بكره هايشتهي يغيره

نفس المعني والمبني أشار إليه عملاق الفكر العربي الأستاذ عباس محمود العقاد، حينما تحدث عن إشكالية المعني والغاية التي تستنزف المبدع، على نحو خاص، ذاك الذي يقلقه سعي دائم ومعاناة فكرية ونفسية للحفاظ على توازن دقيق بين «يقين سطحي» وشك عميق قاتل».

هل عمقت العولمة المتوحشة والرأسمالية الكاسرة حالة اللايقين عند إنسان القرن العشرين، بحيث أضحي القلق في النهار والأرق في الليل ملازمان له وبات عليه أن يدفع فاتورة الأمرين معاً؟

في كتابه «الانتحار» الذي وضعه قبل نحو مائة عام، يحدثنا عالم الاجتماع الفرنسي الشهير «إميل دوركايم» عن الدور السلبي الذي تسبب فيه تفكيك المجتمع الصناعي الاستهلاكي للحياة الاجتماعية وبنيتها، وكيف أن تدهور ما يسميه «الدعم الاجتماعي/ النفس/ الإنساني في المدن الكبري – الصاخبة والمزدحمة، يضغط نحو ثقافة الانتحار لتكون ظاهرة اجتماعية في المدينة الحدية… ترى ماذا سيقدر للرجل أن يكتب اليوم لو عاد إلي الحياة في زمن تحولت فيه اساطير الأولين إلي حقائق علمية وتكنولوجية سهلت معيشة الناس على الصعيد اليومي، وأن كانت قد عمقت النزعة الفردية فيما بينهم.

هل من خلاصة؟

أرضي بما قسم الله لك تكن أغني الناس… والرضى يكفيك شر عضوية (بوليفار الاحلام المكسورة).