عطر: أرشيف من صور

رندة صادق –

randanw@hotmail.com –

منذ زمن بتنا نجالس الفراغ، نؤدي دور الناضجين بقدرية التسليم بمنطق الحياة، فقد بات أقصى ما نفعله ان نستذكر التفاصيل، نحضن الوسائد الباردة ونتأمل الحائط الباهت، المشهد نفسه يكررنا كلما جلسنا مع أنفسنا: الصورة في إطارها البرونزي، الجدار الذي نخرته المسامير وتعاقبت عليه الصور، جدار في بيت من ذاكرة العصافير ورقص الفراشات. اللوحة تدخلنا في تفاصيلها، ألوانها الترابية الممزوجة بزرقة المغيبِ وشجرة تقف في وسطِ المشهد شامخة بحزنها العتيق تخطفنا إلى داخلها، تعترينا قشعريرة خفيفة، فالمشهد اكتملَ بنا، نرحل في وجعنا كائنات جامدة متحجرة في صورة علاها بعض الغبار. الخلفية الوحيدة لها هو ذلك الجوع الى الحنين، والى أيدي أمهاتنا والى ابتسامات جداتنا والى طعم الخبز الآت من تنور طفولتنا، ونكهة البهارات في مطبخ المحبة والبركة في زماننا. أشياء كثيرة تسكن الذاكرة: عطر الورد الجوري، ولون المنتور. صباحات شاهقة الحضور تشرف بنورها على نسيج العمر. شريط من احداث، وذاكرة من صور كم نستهلك من الوقت في تأمل أرشيفها، تعتلينا الدهشة وتعبرنا ابتسامات وعبرات، لا احد يفهم عمقها الا نحن. فلكل صورة حكاية تؤرخ أحاسيسنا، وتعيدنا إلى ذاك الزمن الجميل العابق بعطر الأرض، وزرقة السماء. شاهقة تلك الأماكن التي لم تكن تطالها أيدينا الصغيرة، وغريبة تلك الأشكال الهندسية التي تعثرنا بها. الطفل بداخلنا ثائر لم تكتمل دائرة طفولته بعد، فمازال يبحث عن فستان أمه وعنق والده. والمراهق بداخلنا جائع إلى مزيد من جنون الأحداث، وغرابة ردات الفعل.

مرهق العمر حين نبدأ في دخول مراحل النضج. أي كينونة صنعتها الحياة وحملتها التقلبات، وأي رياح تخطف الأنفاس وزلازل تحركنا تردداتها القدرية معارك كثيرة خضناها بين حبنا للحياة وقسوتها علينا. كل نفس خرج من صدورنا كان يحمل آمالنا وأمنياتنا. في تلك الصور المنسية في أدراجنا تختبىء احداثنا الخاصة ومشاعرنا الخاصة نشاهد فرحنا حزننا وألمنا،وفي قلب الاطارات الفارغة أمنيات نأمل أننا سنعلق مستقبلنا فيها. مستقبلنا الضبابي لذا يعتقلنا القلق، فقد مضت السنوات التي كانت فيها الأحلام تحلق، وآن الأوان أن نزرع أشجارنا المورفة على ضفاف أنهار تسير مياهها بإتجاه واحد، وكلما انقضى يوم من أيامنا ندرك أن لا جديد تحت الشمس، واننا مجرد صور من ورق في إطارات صامتة معلقة على جدار بارد، ونحن نعبر الى الضفة الأخرى من العمر سقطت منا أحلام أدرك عقلنا صعوبة ان نحققها ولم تفقد أرواحنا احتمال تحققها، حين نسكن الى أنفسنا نعيد ترتيب الصور، نرتبها بكبرياء خاص واعتزاز من اتقن الاختلاف وتربع على عرش الدهشة. تصمت الأصوات من حولنا وتدخل حواسنا في رحلة العودة الى الوجوه والأصوات التي تهتف من أعماقنا، فلكل صورة دمعة أو ضحكة او انقلاب غير مسارتنا. تفاجئنا التفاصيل التي تختزنها هذه الصورة واقتناص اللحظة بلقطة عابرة تثير شجننا بألحان المشهد، وتتوالى فصول السنة: صيف الحكاية، خريف الانقلاب، شتاء الجنون، وربيع العيون، سنواتنا الخاصة في الصورة، عدة وجوه وخلفيات الأماكن ولكل وجه بالصورة قراءته الخاصة لذاكرة اللحظة، نتردد في اغلاق أرشيفنا لا ندرك هل نستبقي مخزون الفرح ام حسرة الألم أم انتظار فسحات فارغة نملأها بصور اللحظة التي ستأرشف لما تبقى من أعمارنا، ملح الدمعة ووميض الضحكة مزيج انساني يتخطانا ويتخطى قلقنا، فما زلنا ننظر إلى النصف الممتلىء من الكأس وفي داحلنا جوع لمزيد من الفرص، أيدينا الممدودة للحياة تعلق اطارات جديدة للحظات قادمة في صور، فرغم كل شيء يبقى الأمل.