السماء الثامنة: رحلة على رحلة محاولة لاستكشاف أدغال إفريقيا عبر كتابات أوروبية «2-2»

عاصم الشيدي –

يحضر الدور العماني في الساحل الإفريقي على استحياء في الكتابات الفرنسية، ولكن رغم ذلك الاستحياء والندرة إلا أن يمكن القول إنه ما كتبه الضابط والرحالة والمستكشف الفرنسي جيلان في أجزاء كتابه كان مفيدا. وقد أبرز ذلك في الفصل الخامس من الجزء الأول للكتاب والذي يحمل عنوان «المرحلة العمانية: عرب عمان يحلون محل الهيمنة البرتغالية على المنطقة الممتدة على الساحل الواقع بين رأس ديلجادو ورأس غردافوي».

يذكر الضابط الفرنسي جيلان وفق ما أورده بحث بعنوان «العمانيون في شرق إفريقيا من خلال وثائق وكتابات فرنسية.. قراءة في الأبعاد التاريخية والاقتصادية» للدكتور عبدالمجيد بن نعمية إن العمانيين كان لهم انتشار واسع وتأثير متعدد الجوانب في الساحل الشرقي لإفريقيا منذ تواريخ بعيدة في الزمن وقد زاد ذلك التأثير بعد أن أصبح الإسلام العلامة البارزة في علاقاتهم التجارية والاجتماعية. لم يكن العمانيون في حاجة حينها إلى وجود عسكري في مناطق الساحل الإفريقي لكي يفرضوا تأثيرهم في تلك البلاد، فقد كان التأثير يعتمد على السلوك والمعاملة. فقد تواجد واستمر وتوسع التأثير العماني دون أن يكون ذلك في حاجة إلى أي قوة عسكرية أو حتى سياسية.

عندما وقعت تلك المناطق تحت الاحتلال البرتغالي كان تأثير العمانيين قد وصل إلى مستوى وإلى مجالات لم يكن من السهل القضاء عليها. فاللغة والدين وجوانب من عادات العديد من الناس في معاشهم كانت من تأثير العمانيين ما جعلهم يحققون تطورا عن سابق عهودهم وعن ما استمر قائما في مناطق أخرى حولهم.

ولقد تمكن العمانيون في النهاية من حصر الاحتلال البرتغالي لمناطق من عمان والساحل الإفريقي. فقد تمكن الإمام ناصر بن مرشد بعد العديد من المحاولات القضاء على الاحتلال البرتغالي. فمن خلال اعتماده على مخطوط محفوظ لدى أحد شيوخ ممباسا السابقين ذكر جيلان أنه حوالي نهاية محرم 1045هـ/ نهاية يوليو 1653. تمكن الإمام ناصر بن مرشد من محاصرة مدينة سحر ومحاربة القوات البرتغالية بها.

ويذكر هذا الضابط الكثير من التفاصيل عن الوجود العماني في شرق إفريقيا خلال فترة حكم اليعاربة.

وفي بحث متميز أيضا للدكتور سليمان بن سالم الحسيني بعنوان «العُمانيون وشرق إفريقيا في بعض الدراسات الغربية المعنية بالشأن الإفريقي» يستقصي الباحث ما كتبه المؤرخون والرحالة الغرب عن الوجود العماني في شرق إفريقيا فيذكر ما كتبه المؤرخ البريطاني ويندل فيلبس: «دور العُمانيين الحضاري في شرق إفريقيا أكبر بكثير مما نتوقع» من هذه العبارة ينطلق الباحث نحو رصد الدور العماني الذي يبدو له بارزا في الكثير من الدراسات التاريخية لشرق إفريقيا.

ومن جانب آخر نجد أن كتاب «بريطانيا وألمانيا في إفريقيا: الصراع الإمبريالي والحكم الاستعماري» تحرير بروسر جيفورد ودبليو أم لويس يبحث في شؤون الشرق الإفريقي في ضوء تصادم بين مصالح القوى العالمية، وقد كان لعُمان والعُمانيين نصيب لا يمكن إغفاله أو التقليل من أهميته في الأحداث الواقعة في الحقبة التي تغطيها تلك الدراسة.

فالعُمانيون وبالتعاون مع السكان الإفريقيين هم الذين أخرجوا البرتغاليين من كل معاقلهم الاستعمارية في الساحل الشرقي لإفريقيا مع بداية القرن (الثامن عشر) وأقاموا علاقات متينة مع الأفارقة على طول هذا الساحل، ووصلوا إلى البحيرات العظمى في الداخل الإفريقي. وأما كتاب «التاريخ العام لإفريقيا: دراسات ووثائق» الذي يحتوي على دراسات قدمت في مؤتمر نظمته اليونيسكو الذي عقد في 1974م في (بورت لويس في موريشوس) فإنه خرج في ظل تراجع للدور العُماني في شرق إفريقيا من جانب، وبدء دخول عُمان في مرحلة بناء الدولة العصرية التي وضع أسسها حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم في 1970م لذا فإن المعلومات التي احتواها الكتاب عن الوجود العُماني في هذا الجزء المهم من العالم لا ترقى إلى المستوى الفعلي للحضور العُماني في تلك المنطقة كما تبرزه غيرها من المراجع التاريخية، وكما يشهد له الواقع.

وحسب وجهة نظر ويلكنسون فإن في حقبة ما قبل الإسلام كان التجار والبحارة العُمانيون منظوين تحت الأنشطة البحرية للدولة الساسانية التي شملت الخليج العربي، والساحل الجنوبي للجزيرة العربية ومكران والسند والهند. وقد أقام البحارة العُمانيون شبكات من العلاقات التجارية استمرت إلى ما بعد الفتح الإسلامي لتلك المناطق، لا سيما وأن العُمانيين تربطهم علاقات أواصر وقربى مع كثير من سكان المناطق الواقعة شمال الخليج العربي. فكثير من سكان تلك المناطق ينحدرون من سلالة سلمة بن مالك بن فهم الذي هاجر من عُمان بعد وفاة والده. كما أن هجرة العُمانيين إلى البصرة، حاضرة العالم الإسلامي آنذاك، ومنهم على سبيل المثال المهلب بن أبي صفرة وأتباعه ساعد على الحفاظ على علاقات تجارية متينة مع العراق وأجزاء من إيران وخراسان.

وكان العُمانيون، كما يشير وندل فيلبس، قد استقروا بحدود عام 1200م في المدن المبنية من الحجارة- المزدهرة والمنتشرة بطول ساحل إفريقيا الشرقي ومنها (بيت- Pate)، و(سفالة – Sofala)، و(كلوة- Kilwa)، و(ممباسا- Mombasa)، و(مالندي- Malindi)، و(مقديشيو- Mogadishu)، و(بيمبا- Pemba)، و(زنجبار- Zanzibar) (1967,Phillips). ويؤكد فيلبس «أن حقبة الألف عام من الوجود العُماني القوي والمزدهر في شرق إفريقيا انقطعت لمدة وجيزة فقط وذلك في أثناء الغزو البرتغالي». وفي واقع الأمر أنه عندما وصل البرتغاليون إلى الساحل الشرقي لإفريقيا كان العُمانيون إلى جانب استقرارهم في المدن المنتشرة على طول هذا الساحل يجوبون بسفنهم المحيط الهندي مبحرين بين الهند وإفريقيا والجزيرة العربية. وكان البحار العُماني أحمد بن ماجد الذي التقاه البرتغاليون في مالندي «أكثر البحارة في المحيط الهندي جدارة في عصره، وقد ألف بين 1460 و1496م أكثر الكتب البحرية انتشارا وقراءة».

وعندما جاء البرتغاليون في 1498 إلى المنطقة، كانت التجارة البحرية في المحيط الهندي يومذاك في أوج ازدهارها، والدول والمدن الواقعة على هذا المحيط في كل من شرق إفريقيا والجزيرة العربية والهند في أحسن حال من الرقي والازدهار. ولم يكن مجيء البرتغاليين إلى منطقة المحيط الهندي كارثة للعُمانيين حسب؛ وإنما لكل الدول والشعوب الواقعة على هذا المحيط. وكمثال على ما قام به المستعمرون البرتغاليون في تدمير ما كان يتمتع به الساحل الإفريقي من ازدهار حضاري – اقتصاديا وعمرانيا واجتماعيا- تلك الأحداث الأليمة التي شهدتها مدينة ممباسا على يد البرتغاليين بقيادة (دي الميدا – d›Almeida). فقد كانت المدينة – على حسب وصف أحد الكتاب البرتغاليين المرافق للحملة العسكرية – زاخرة، وبها بيوت مبنية بالحجارة، وقصور منيفة، وطرق منظمة، فهاجم البرتغاليون المدينة عند طلوع الفجر بأسطول بحري مكون من إحدى عشرة سفينة كبيرة وثلاث سفن صغيرة فدمروها عن بكرة أبيها، وأشعلوا فيها النيران، ولم يسلم من بطشهم طفل صغير، أو شيخ كبير، أو رجل، أو امرأة، وقد نهبوا من أموالها وثرواتها ما لم يتمكن الناجون من أهل المدينة من إحصائه. وقد أسس البرتغاليون قواعد عسكرية في (ممباسة، وملندي، وكلوه، وبمبا، وانجوجا) منها على سبيل المثال (قلعة المسيح) في (ممباسا) التي أسسوها في1593م وانطلقوا منها لضرب الدول والشعوب في هذا الساحل الإفريقي، وتدمير مقدراتها، ومقوماتها الحضارية.

وبكل تأكيد لم تقتصر همجية البرتغاليين وتعطشهم لسفك دماء الناس والقضاء على الحضارة البشرية والسلم والأمان على شرق إفريقيا، بل قاموا بالعمل نفسه في الهند، وفارس، والجزيرة العربية وعُمان نفسها. فعلى سبيل المثال، عندما كان القائد البرتغالي (داجاما- da Gama) في عام 1502م يبحر بأسطوله الحربي البحري المكون من (خمس وعشرين) سفينة قبالة سواحل (كاليكوت- Calicut) الهندية التقى بسفينة مدنية غير مسلحة بها ما يقارب من أربعمائة حاج هندي في طريقهم إلى مكة المكرمة بينهم نساء وأطفال؛ فأمر داجاما بأسر الأطفال والنساء، ثم أمر بإشعال النيران في السفينة بطاقمها والرجال المسافرين بها. وعندما وصل داجاما إلى (كاليكوت) أرسل إليه أميرها راهبا من الطائفة البراهمية، ليعلن له أن أهل المدينة مسالمون، فما كان من داجاما إلا أن أسر الراهب، وأمر بتقطع أذناه وخيط مكانهما أذنا كلب قطعا من كلب كان على السفينة. ثم أمر داجاما بمهاجمة ستة عشر قاربا وسفينتين متوقفتين قبالة الساحل، فجُمع طواقم تلك السفن، وقطعت أنوفهم وآذانهم وأيديهم، ثم وضعوا في قارب واحد، وأشعلت فيهم النيران. كما أمر داجاما أهل المدينة أن يعلنوا اعتناقهم للمسيحية وإلا سيأمر بقتلهم فما كان منهم إلا أن أذعنوا لأوامره وأمر مباشرة أحد قساوسته بتعميدهم. وفي عام 1507م قام القائد البرتغالي (الفونسو دي البوكيرك- Affonso d›Alboqurque) بمهاجمة المدن الساحلية العُمانية، بما فيها مسقط التي كانت تعد حاضرة المنطقة عمرانيا واقتصاديا، فعاثت قواته الغازية تقتيلا في سكان هذه المدن، وهدما لمعالمها وإمكاناتها الاقتصادية والاجتماعية والدينية.

على كل حال استمرت البرتغال وإلى نهاية القرن (السادس عشر الميلادي) هي القوة المهيمنة ليس في الخليج العربي حسب، وإنما في معظم أجزاء المحيط الهندي، إلا أن «أهل عُمان المعروف عنهم حبهم الشديد للاستقلال».

كانوا حينئذ تهيئهم الأقدار ليتوحدوا تحت قيادة سياسية قوية ومركزية، وقد سنحت تلك الفرصة مع بروز شخص الإمام ناصر بن مرشد اليعربي (تولى الإمامة: 1615-1640م) الذي تم انتخابه إماما في عُمان. وكان من أهم إنجازاته إلى جانب توحيد عُمان، هو تحريرها من قبضة المستعمرين البرتغاليين ما عدا بعض تحصيناتهم العسكرية في مسقط، ومطرح، وصحار التي تم فعلا تحريرها نهائيا على يدي خليفته الإمام سيف بن سلطان (الأول).

وكما هو معروف تاريخيا لم يكتف العُمانيون بتحرير تراب بلدهم من هيمنة الاستعمار البرتغالي، بل طاردوا المحتل أينما وجدوه في المحيط الهندي، فهاجم العُمانيون بأسطولهم البحري القوي والضارب معاقل البرتغاليين في الخليج العربي، والساحل الغربي للهند، والساحل الشرقي لإفريقيا. فحررت القوات العُمانية زنجبار في 1652 من هيمنة البرتغاليين.

———-

المادة العلمية أعلاه .. تلخيص قصير جدا لبحث الدكتور سليمان بن سالم الحسيني قدمه لندوة الدور العماني في منطقة البحيرات العظمى الإفريقية.