رسائل (8): من الموت إلى الكتابة «والعكس صحيح أيضاً»

عبدالله حبيب –

لوس أنجلوس، كاليفورنيا، 21 مارس 1997


صديقي العزيز الدكتور محمد

تحية طيبة، وبعد:


شكراً جزيلاً لرسالتك الودودة التي تسلمتها من دون تأخير في البريد، ومعذرة لتأخري في الرد طوال هذه الفترة لانشغالي بالدراسة خاصة مع اقتراب مواعيد تسليم البحوث النهائية لهذا الفصل، واستغراقي لوقت طويل نسبياً في هموم وكآبات حادة نجمت عن الوفاة المفاجئة لصديق عزيز. هو الموت الذي يُذَكِّرنا فيزيقياً من خلال ضرباته الرعناء أننا لا نُجَرِّدُ إطلاقاً في كتابته، وقراءته، والشعور به ليل نهار؛ بل إننا، في الحقيقة، نحس به في الروح، والجسد، والفكر أقل بكثير مما يعرفنا هو، حيث إننا، على سبيل المثال، نتحدث عن الموت بصورة نوعيَّة. لكن الموت لا يفعل ذلك؛ بل إنه يتحدث عن/ إلى أحمد، أو ليلى، أو منصور، أو زيد بصورة شخصية، وبوصفه قضية شخصية على الرغم من عموميتها «المعروفة» (ولا تدري كم استرسلت في هذه التفكرات التي على الرغم من بداهتها كانت بحاجة مرة أخرى، وأخرى، إلى الموت تحديداً كي يجعلها أسئلة وجودية). هو الموت الذي يحدث دوماً للمرة الأولى، ممزقاً دوماً ما نسجته عناكب التراكم العقلاني، وتجربة الذاكرة، والألفة الثقيلة التي جبلها فينا منذ ولادتنا. لكن الموت، مع كل المراس الذي نزعم، لن يدخل أبداً في نظام المعلومات الجيناتي للإنسان مهما امتد أمد رحلة التطور؛ بل سيبقى دوماً نفس المرارة المتجددة في المراثي القديمة، والملاحم، والأساطير – صرخات جلجامش إياها، والتي يتفجر علقمها كلما ودعنا، إلى حين، عزيزاً إلى مملكة القبور.

من الموت إلى الكتابة (والعكس صحيح أيضاً): لعله سيسعدك أن تعرف أني استأنفت كتابة القصة القصيرة (مع أني أريد أن أقول ذلك همساً فقط حتى تتضح الصورة أكثر من خلال قادم النصوص)، وذلك بعد توقف دام سنوات طويلة كنت خلالها أكابد بصمت أسئلة معينة تخص تجربتي السابقة في الكتابة القصصية، كالعلاقة الشائكة بين السرد واللغة؛ فقد أصبحت متوجساً إلى أبعد الحدود من مقولات من قبيل «اللغة الشعرية في السرد القصصي»، وما إلى ذلك من شعارات بحاجة إلى تفكيك أعمق مما ادعته الإحالة إلى كتابة تطرح شعار توحد الأجناس الأدبية.

أظن أني الآن قد أصبحت أقل حماساً لـ»توحُّد» لا يحترم خصوصية واستقلالية الفضاء القصصي؛ بل يقحم الشعر إقحاماً فيه – أعني، بكلمات أخرى، الشعر الذي لا يتدفق من المناخ القصصي واللغة السردية نفسها [..].

[..]. ولعله سيسعدك أيضاً أني أنجزت أخيراً ترجمة «ملاحظات في السينماتوغرافيا» لروبير بريسون، وذلك بعد تلكؤ اضطراري لمدة سنتين بسبب الوقت الزائغ أبداً في إجراء المراجعة النهائية. وبذلك فقد أصبح الكتاب جاهزاً للنشر.

لا أدري إن كنت قد اطلعت على ترجمتي لستيفن سنايدر حول بازوليني في العدد الحالي من [فصليَّة[ «شؤون أدبية»، وهو أحد فصول مشروع كتاب بازوليني الذي بدأت أحس بمرارة أنه لن يكتمل أبداً بالصورة الموسعة التي توخيتها له حين فكرت في المشروع بحماس كبير قبل أربع سنوات؛ فالمرء مصادَر ومشغول جداً بعدة مشاريع.

وفي أحيان كثيرة أفكر باستحالة أن تؤتي أُكلها هذه الجهود التي يقوم بها في وطننا العربي الأفراد نيابة عن المؤسسات (أنا نفسي لم أطلع على ذلك العدد من «شؤون أدبية»، ولكن صديقاً أخبرني أنه اطلع على المادة فيه). لدي منذ مدة كتاب جاهز، وهو مجموعة من الأبحاث السينمائية، وأنتظر أقرب فرصة ممكنة لإجراء التشطيبات النهائية للنشر.

لدي كذلك نصوص شعرية مكتملة للمجموعة القادمة. كما سأوافيك قريباً ببعض الأبحاث الدراسية، إذ إني بصدد الانتهاء منها قريباً.

خبرني عما تمكنت إنجازه في [مدينة] العين [الإماراتيَّة]، وابعث لي بنسخ، فأنا هنا مقطوع عن الصحافة العربية.

كما أرجو أن تخبرني عن برامج الصيف، وموعد إجازتك وسفرك إلى مصر، فلعل الوقت يتيح لنا لقاء في العين.

أبعث لك بعض المواد التي حدستُ أنها تعنيك، وغالبيتها العظمى مصورة من أعداد متنوعة من فصلية «فلسفة وأدب»، وهي واحدة من أهم وأرزن الفصليات الفكرية الأمريكية، راجياً أن لا تتردد في إبلاغي إذا ما أردت شيئاً بعينه – كتباً أو دراسات منشورة في دوريات.

إذاً، دعني أتمنى لك كل خير وتوفيق، مؤكداً على رجاء التواصل. سلامي الكثير لأم الأولاد والأولاد.