د. محمد سعد شحاته
1 ـــ تلقين الشهادة
لن يختلف وصف الحادث الخارجي لمن ينظر ويتابع الموقف أو يرصده، عن العبارات السابقة، لكن رؤيتي أنا للحادث الأول الذي أراه على امتداد عمري كله، وكيف شعرت به كانت مختلفة عن ذلك الوصف الخارجي قليلا.
فمن على المقعد المجاور للسائق؛ بدت السيارة مسرعة بشكل استثنائي، كما بدا رصيف الجزيرة الوسطى ــ الفاصلة بين اتجاهي الطريق ــ قريبا جدا، بما سمح للأفكار حول الموت واللحظة الأخيرة للحياة، تتدفق في رأسي بشكل واضح ومباشر. ونظرا لتنشئة دينية صارمة كان الشاغل الذي غطى على كل تفكير هو سؤال اللحظة الأخيرة وهل يجد الإنسان فيها من يلقنه الشهادتين فيكون محظوظا بالنطق بهما قبيل موته؟!
خلال اندفاع السيارة السريع عموديا على رصيف الجزيرة الوسطى قلت لنفسي إننا مرشحون بقوة ليقع لنا حادث، وأن السيارة بهذه السرعة قد تنقلب على الاتجاه المقابل وربما تصدمنا سيارة مقابلة؛ فسيارات النقل تسير على هذا الطريق بسرعة، وامتثالا لهذا التفكير ألقيت نظرة سريعة على الطريق المقابل فوجدت سيارة ملاكي تسير في الحارة المجاورة للرصيف وبعدها بأمتار تقترب سيارة (ميكروباص) في حارة أخرى، في حين تختفي من المشهد سيارات النقل التي تجر شاحنات أو مقطورات خلفها، وقبل أن يرتد إلى بصري لأستوعب المشهد اصطدمت السيارة اصطداما مريعا برصيف الجزيرة الوسطى وقفزت فوقه، لتنقلب على جانبها الأيمن حيث كنت جالسا.
بشكل لا إرادي؛ قفز إلى ذهني لحظتها، ما تداولته مواقع التواصل الاجتماعي من نصائح في التعامل مع الشرطة خلال أحداث ثورة 25 من يناير، والتشديد على أن يكون الهدف الأساسي لك خلال التظاهر ومواجهة عصي الشرطة، إذا استدعى الأمر، أن تحمي رأسك إذا ما سقطت أرضا أمام هجوم الجنود بالهراوات؛ ويكون السبيل الأمثل لذلك أن تتخذ خلال سقوطك أرضا وضع الجنين بأن تضم ساقيك وتنزل برأسك بينهما في الوقت الذي ترفع فيه ذراعيك كساتر للرأس من أي ضرب ثقيل، وعندما قفزت تلك المعلومة من غياهب اللاوعي إلى وعيي؛ ضممت ساقي على الكرسي ونزلت برأسي بينهما في الوضع الجنيني رافعا ذراعي لحماية الوجه والرأس، لكن دفعة الانقلاب كانت أشد مما توقعت بمراحل فصرخت بأعلى صوت تخيلت أنني أملكه من شدة الألم؛ ولما تعرضت السيارة لأن تصطدم بها السيارة المقابلة؛ زاد الألم مرات مضاعفة وفجأة ساد السكون بعد صوت الارتطام كما ارتطم السائق بي مع انقلاب السيارة، ولأن الألم كان أشد مما يمكن أن تصفه كلمات أو يتخيله أي شخص سليم معافى في بدنه، بدت لي لحظتها أنها لحظة الموت بلا مقدمات أو شكوك.
ومع أصوات الارتطامات وتواليها على السيارة، ومن الآلام الشديدة الناجمة؛ قلت لنفسي في لحظة تبدو الثانية الواحدة مقابلها دهرًا طويلا: «لا فرصة للنجاة، فعلى هذا الطريق السريع تزيد احتمالات موتك، ولن تجد أحدًا يلقنك الشهادتين للنطق بهما، من يأتي فسيكون منشغلا بالإنقاذ؛ ولن ينتبه إلى ضرورة تلقينك الشهادتين أنت والسائق، مثلما قد ينشغل أيضًا في إنقاذ سائق السيارة الأخرى ومصابيها، فتضيع عليكم جميعا فرصة النطق بالشهادة في الثواني الأخيرة لكم في الحياة، أنت الآن تملك وعيك فهيا ردد شهادتك بصوتٍ عالٍ، وارفع صوتك قدر ما تستطيع فربما سمعك السائق أو أحد المصابين في السيارة الأخرى؛ فيرددها خلفك؛ فتكونوا جميعًا امتلكتم فرصة أن يلقنكم أحد الشهادتين».
بناء على هذا الرأي؛ أحذت أردد الشهادتين بصوتٍ تخيلته عاليًا؛ ولأن صوت انقلاب السيارة واصطدامها بالرصيف ثم بالسيارة الأخرى كان في أذني أعلى من صوتي، أخذت أرفع صوتي بما تخيلت أنني أملكه من إمكانية لرفعه، وبعد أن استقرت السيارتان على الأرض كان واضحًا في ذهني أنني في نقطة التقائهما عند التصادم؛ فقلت لنفسي: «هيا بسرعة! استرجع قبيل موتك ربما قسم الله لك أجر الصبر على الألم والإصابة في الحادث قبل أن تغادر الدنيا؛ فيغفر لك»، فأخذت أردد بسرعة: «إنا لله وإنا إليه راجعون.. اللهم أجرني في مصيبتي واكتب لي خيرًا منها»، وقبل أن أنتهي من كلامي قفز إلى ذهني خاطر أنني حي، وأنه يجب أن أردد الشهادتين مرة أخرى قبل أن يقضي علي الألم الذي أعاني منه وأفارق الدنيا؛ فرفعت صوتي بهما مرددا: «أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله» وبرضا تامٍ عن أنني امتلكت الفرصة للنطق بالشهادتين قبل موتي، استسلمت للألم وأغمضت عيني لوداع حياتي الدنيا واستقبال ما ينفتح علي من حياتي الأخرى.
2 ـــ فيما يرى الغافل..
كانت الأصوات هامسة، لا تميز منها قولا، تبدو كأنها آتية من بعيد، أو عبر جهاز إلكتروني وتحتاج للتنقية أو الفلترة لتتضح وتفهمها، هناك كلام ما يدور، تسمعه ولا تميزه، كما لا تفهم منه حرفًا واحدًا. قلت لنفسي إن ما أسمعه من أصواتٍ تتردد حولي هو ما دأب الموروث على القول به من أن الميت يسمع كل شيءٍ يدور حوله لكنه لا يملك رد فعل حيث غادره فعل الحياة مع خروج الروح، وهذا دليل على أنني مت وغادرت الدنيا، وإلا فأين الألم الذي أتذكر أنه كان آخر عهدي بها؟! نعم لقد فارقت الحياة وها أنا ذا أستعد للحظاتي الأخيرة على سطح الأرض قبل أن يواري جثماني التراب لأتعرف على حياتي الأخرى.
كانت الدنيا بيضاء بلا ملامح معروفة مما ألفته العين، الأفق أبيض، السماء بيضاء، الأرض بيضاء، كل شيء يبدو أبيض ومُغلَّفًا بضباب لا يحجب الرؤية لكنه يضفي اللون الأبيض على الهواء الذي يحيط بي.
لم أقرأ وصفًا سابقًا لهذا في كتاب! ربما الوصف الوحيد الذي اقترب منه قدمته ج. ك. رولينج في الجزء السابع والأخير من سلسلة هاري بوتر: «هاري بوتر ومقدسات الموت»، عندما دخل هاري في غيبوبة إثر صراعه مع لورد فولدمورت، رمز الشر في الكتاب، حيث أطلق فولدمورت لعنة قاتلة بعصاه السحرية على هاري ليصيبه بها، فيتصدى لها هاري بتعويذة حماية تكسر حدة اللعنة القاتلة لكنه يصاب فيفقد وعيه ويقابل معلمه ومرشده في عالم السحر، الأستاذ دمبلدور، حيث يشرح له آلية ارتباط عصا هاري وروحه بعصا فولدمورت وروحه، وفي اللحظة الفاصلة بين الموت والحياة يشرح له أن قرار الموت ــ في مثل هذه اللحظات الفارقة ــ هو شأن شخصي وقرار شخصي إذا اتخذه شخص ما فسيكمل الدخول إلى العالم الأبيض ويكمل مسيرته فيه بلا ألم، أما إذا قرر أن يعود إلى الحياة فليتخذ قراره بالعودة ليكمل ما بدأه، فيتأجل دخوله إلى العالم الأبيض للحظة تالية.
فيما يرى النائم، كان محدثي لأ تبين ملامحه، ولا أستطيع تحديد تفاصيله الجسدية، لكن الانطباع الوحيد الذي ترسخ في يقيني عنه أنه كان أكبر وأقوى من مقاييس البشرية، ربما كنا نناقش قوانين التوتر السطحي وقوى التلامس والتلاصق التي تسمح لريشة أن تطفو على سطح الماء مثلما تسمح لحشرة من الهوام الطائرة أن تقف على سطح الماء أو السائل، ووضع أمامي كوبا زجاجيًّا يكاد يمتلئ بسائل أبيض يبدو أنه لزج قليلا وسميك القوام عن الماء، وعندما وضع الكوب المليء بالسائل أمامي؛ تطايرت شعرة رأس أمامنا وتمايلت، لتسقط بشكل رأسي في السائل فتغوص فيه، كنت مندهشًا؛ فوفقًا لقوانين التوتر السطحي التي تعلمتها في الدنيا كان من المفترض أن تطفو الشعرة على سطح السائل الأبيض اللزج، لكنها غاصت بطرفها فيه وتابعت توغلها إلى أعماقه، وكلما غاصت الشعرة في الكوب وأحاطها السائل الأبيض اللزج طنت أشعر بجسدي الراقد في قاع السيارة ينسحب أيضًا غائصا إلى هذا البياض، الشعرة أمامي أراقب توغلها في الكوب واختفائها داخل السائل الأبيض حتى غطاها تماما باستثناء طرف لا تراه العين المجردة وقبل أن يختفي هذا الطرف تماما وتغوص الشعرة كاملة في السائل الأبيض؛ مد محدثي ــ الذي لا أستبين ملامحه ــ يدًّا لا أراها، وأرى في طرفها ما يشبه الملقاط المعدني المدبب ليلتقط آخر ما تتخيله العين من أجزاء الشعرة التي تنزل رأسيًّا في السائل الأبيض قبل أن تختفي تمامًا فيه، ويرفعها بهدوء رويدًا رويدًا فيسقط عنها السائل المحيط بها ولا تعلق بها قطرة واحدة منه، وبعدما رفعها من الكوب، حركها بالملقاط برشاقة واقتدار وتركها تسقط ثانية في الهواء إلى الكوب مرة أخرى، لكن هذه المرة تسقط أفقية، تتمايل بهدوء وترقد في سلامة على سطح السائل مستسلمة لقوانين التوتر السطحي والطفو، وى تعلق بها قطرة من السائل اللزج، وبمجرد أن استقرت الشعرة بسلام طافية على سطح السائل في الكوب الزجاجي، استعدت وعيي مجددًّا..