رسائل ليزيلي وجيم «4»

ترجمة : أحمد شافعي –


باريس فرنسا

9 مارس 1979


ليزلي مورمون سيلكي شاعرة وروائية أمريكية ترجع أصولها إلى سكان أمريكا الأصليين، وجيمس رايت شاعر من أهم الشعراء الأمريكيين في النصف الثاني من القرن العشرين. ولد في عام 1927، وولدت هي في عام 1948. لم يلتق الاثنان إلا مرتين، أولاهما كانت لقاء عابرا في واحد من المؤتمرات الشعرية في ميتشجن. وبعد ذلك اللقاء، بدأ الاثنان يتبادلان الرسائل على مدار سنين طويلة. اللقاء الثاني كان في غرفة في مستشفى، حيث كان جيمس رايت يرقد محتضراً.

مراسلات يحكي فيها الأديبان الكبيران عن الشعر والرواية، والديكة والخيول، وعن الطلاق والزواج، وربما في هذه الرسائل أيضا ما هو أكثر من ذلك، أو أعمق، أو أبعث على الشجن. هذه هي الحلقة الرابعة:


عزيزتي ليزلي


مر وقت طويل منذ أن كتبت إليك رسالة لائقة، وحتى هذه الرسالة لا يبدو أنها ستكون مرضية. نحن في باريس (وحولها) منذ خمسة أسابيع، نقابل الأصدقاء ونعنى بأعمال مهمة من أنواع مختلفة، يبدو أن ثلثيها انتهيا حتى الآن. اليوم الجمعة. في وقت مبكر للغاية من صباح الأحد سوف نستقل القطار في رحلة طويلة جداً من باريس إلى فيرونا بإيطاليا. لست واثقاً، ولكن ربما أكون أخبرتك سلفا أننا سوف نكون في فيرونا ابتداء من الاثنين الثاني عشر من مارس، وعلى مدار الأسبوعين التاليين. بعدهما سوف نسافر عن طريق فلرونسا إلى روما، وفي روما (وعن طريق أمريكان إكسبريس) أرجو فعلا أن تصلني أخبارك.

لأسباب عديدة ومعقدة يصعب وصفها لك في اللحظة الراهنة، قمنا بتعديل خط سير رحلتنا. وكل ما في خط سير الرحلة السابق (وبعثته إليك، أم لا؟) يبقى كما هو أثناء إقامتنا في نابولي، ولكن بعد الرحيل من نابولي تصبح خطة المراسلات على النحو التالي : إذا كنت ستكتبين لي ونحن في تارنتو (فالعنوان هو بوست رستانت، تارانتو، إيطاليا) ولا ينبغي أن تبعثي رسالتك في ما بعد الرابع عشر من ابريل، ثم بوست رستانت، باري، إيطاليا، في ما لا يتجاوز الثامن والعشرين من أبريل، ثم إلى ألبرجو جريفون، سيريميوني، إيطاليا في ما لا يتجاوز العاشر من يونيو، وأخيراً إلى لا كلاسينا، زاتير، فينسيا، إيطاليا (في ما لا يتجاوز السابع من يوليو). وهنا نقطة مهمة: حين أقول إنه لا بد من إرسال الرسالة فيما لا يتجاوز يوما معينا، فمعنى ذلك أن ترسليها قبل ذلك التاريخ.أنا آسف أن هذا أمر يبدو مرتبكاً مربكاً. فالذي حدث هو أننا قررنا أن لا نذهب إلى اليونان على الإطلاق، وأن نقضي بدلا من ذلك شهراً كاملاً، من السادس والعشرين من مايو وحتى السادس والعشرين من يونيو، في بلدة سيرميوني المباركة، وتقع عند نهاية شبه جزيرة خضراء تغوص في مياه بحيرة جرادا الزرقاء التي تمتد نحيلةً طويلةً عميقةُ حتى جبال الألب الإيطالية. حسن. ثم من الثاني والعشرين من يوليو وحتى نهاية أغسطس وبعدها بقليل، سنعيش في باريس حيث سيكون عنواننا هو: دكتور روبرت هيجنز، 3 شارع إرنست كريسونز، باريس، فرنسا.

لكن يستحسن أن أطلعك على العناوين كلما ظهر في التقويم عنوان جديد. فمثلا، إذا شعرت أنك تريدين أن تكتبي إليّ بعد تلقيك هذه الرسالة الإخبارية المؤسفة، فيجب أن تبعثي رسالتك إلى فيرونا في ما لا يتجاوز الرابع عشر من مارس.

قرأت للتو رسالتي هذه وتبدو مرتبكة سخيفة. ولكنني أفتقدك أشد الافتقاد، وأعدك مخلص الوعد أن أكتب لك في مطلع الأسبوع القادم.

حبي

جيم

***

فيرونا، إيطاليا

14 مارس 1979


عزيزتي ليزلي

مدينة بروج الصغيرة حالة مستقلة، بعيدة ببضعة أميال عن بروكسل، وبعيدة ببضعة أميال أخرى عن البحر. قبل قرون، كانت بروج ميناء بحريا. ولكن تذكري أن بلجيكا من الدول الخفيضة، مثل هولندا، وأن البحر منذ عهد بعيد انحسر وتراجع فلم يبق منه الآن فيها غير قنوات طوال متعرجة. وصلنا محطة بروج ذات أصيل مطير قبل أسبوعين، كان المشي من المحطة إلى المدينة غريبا، إذ كان ضباب كثيف يحيط بكل شيء، فلم يكشف لنا عن نفسه غير برج أو اثنين بين الحين والآخر كلما انزاح الضباب لبرهة. انعطفنا مع نهاية شارع طويل ومن هنالك بدأت البيوت المنخفضة القديمة تتراجع وسط الضباب، حتى بلغنا جسراً صغيراً تنساب من تحته قناة ضخمة. كنا لا نزال في الشتاء، ولكن الدفء كان قد بدأ يحرِّك الأشياء. فرأينا على قطعة ثلج كبيرة طافية في عرض القناة سرب طيور كبيراً – قوامه بط أو دجاج مائي – أو ما يشبهه – وبجعتان كان بينهما حوار.

ارتفع الضباب قليلا بعدما استقر بنا المقام في الفندق المشرف على ميدان البلدة. وإذ ذاك تبدّت لي البلدة، وتجلّت. بين البيوت الواطئة، ذات الأسطح والجمالونات الرهيفة، ثمة عدد من الأبراج المدهشة، فبعضها لكنائس، وبعضها لمبانٍ تابعة للبلدية. وفي كل مكان هناك أجراس، من ناقوس كنيسة سان سلفاتور عميقة الأصوات إلى أجراس برج قاعة المدينة العظيم الكبرى. ولا بد أن تتخيلي كيف هو صوتها، تلك المجموعة الجرسية المؤلفة من مائة وخمسة وثلاثين جرساً صغيراً إذ ترنّ مجتمعة، حينما يقوم الموسيقيون بالداخل باتباع أنماط مركَّبة كارتجالات عازفي الأورجن، فإذا بهواء البلدة كله عامر بالأنغام.

في مشينا الهادئ، كدأبنا كلما مشينا، صباحا ومساء وليلا عبر شوارع المدينة الضيقة نادرة الجمال، عثرنا على بضعة محال تبيع القماش المثقّب، وبروج من أفضل الأماكن العديدة في شمال أوروبا التي لا تزال تعنى بهذا النوع من النسيج. أحيانا أفكر في أشياء مثل النسيج المثقب هذا، أعني الأشياء التي يصنعها البشر بأيديهم، الأشياء التي لا نفع يذكر لها لمن يريد اتقاء الحوادث أو الحروب أو أيٍّ من ضروب القسوة. فلم يكن هذا النسيج ذا نفع قطعا للبلجيك أثناء غزوين مريعين لبلدهم. ومع ذلك، لم يزل هذا الفن باقيا، ولم يزل الحرفيون ينسجونه بأشد ما أوتي لهم من براعة.

ولقد عثرت هناك على نماذج لطيفة من هذا النسيج، ولك عندي واحد، مرفق مع الرسائل، وكل سنة وأنت طيبة، مني ومن آني.

برغم أن أغلب هذه الرسالة يتناول بروج، فإننا الآن في فيرونا بإيطاليا حيث تلقيت قبل يومين رسالتك الجميلة، والحزينة للغاية. صحيح أنني لم أر ديكك مطلقا، ولا هو سنحت له فرصة الوثب في وجهي، ولكنني أشعر بمثل مشاعرك تجاهه، وتجاه الدجاجات البيضاوات الصغيرات. لقد توقفت طويلا وبعمق أمام قولك باستبعاد الوقوع في هوى ذلك الكائن الصغير الشرس، فكلامك بالغ القرب من فقرة معينة في «الأخلاق» لسبيوزا. لقد آلمتني الفقرة بعض الشيء، ولكنها في النهاية موجعة ومنعشة، لكونها في رأيي أوضح بيان للحقيقة السافرة التي أعرفها.

يقول سبينوزا: إن الإنسان كائن معجز، معجزته هي قدرته على الحب. فهو قادر على أن يحب أي شيء، ابتداء من الذرَّة وصعودا حتى الرب. وهنا، كما يقول سبينوزا، تكمن المشقة المأساوية كلها. إذ لا بد أن يدرك الإنسان أن قدرته على الحب لا تخول له حق أن يحبه أي أحد في المقابل. ولا أي أحد. ولا الرب نفسه. وبدا لي ذلك شيئا تصعب مواجهته، بدا منطويا على ما يتجاوز حدود الألم. ولقد كتب فروست يقول : «لا بد أنني أريد أن تدوم الحياة للحياة».

أنا سعيد أنك ستكونين في سياتل لفترة وجيزة. فبوسعك وأنت هناك أن تنقلي تحياتي إلى أصدقاء قدامى منذ أيام دراستي هناك: ديفيد واجنر، جاك ليهي، ديفيد فاولر، وين بيرنز، وليم ماتشيت، وكثير من خيار الناس.

ليزلي، سنبقى لمدة أسبوعين هنا في فيرونا، وبعدها لمدة أسبوع في فلورنسا (وبوسعك إن توفر لك الوقت أن تراسليني على البوست رستانت) ولكنك تبدين مشغولة، وأظن أن روما ستكون الخيار الأفضل. احرصي على نفسك، واستمتعي بأسفارك.

محبتي

جيم


***

سياتل، واشنطن

2 أبريل 1979

«لن نفقد التواصل»، بذلك أتعهد في الساعة الواحدة صباحا وأنا أقرا «المواطنان» [كتاب شعري لجيمس رايت] وتمتد يدي إلى هذا القلم الأحمر. رسالتك والنسيج المثقب، وحديثك عن النسيج المثقب الذي لا نفع له في الحروب، أعادتني جميعا بطريقة لا أعرفها إلى الشجر المورق، ذي البراعم شديدة البياض فلا أفكر في غير عاصفة جليدية، وكيف يكون الشجر المورق ضعيفاً أمامها. لكن ما من عواصف في الشتاء هنا، ولا أحسب أحدا قط قضى الربيع هنا في سياتل دون أن يطيل النظر إلى الشجر، وكم أود لو أسميها بأسماء أليفة، فأقول الكمثرى والتفاح، والخوخ وأتردد لأن شجرا آخر كشجر التيوليب أو خشب الكلب dogwoods قد يكون في أماكن أخرى ولعله يكون أشد جمالاً. وهذا يذكِّرني بأننا نحتاج أسماء للأشجار ما لم نرها معا فنعرف أي طريق ذي شجر أبيض البراعم ذلك الذي أتكلم عنه. شجرة التفاح أو الكمثرى أو الخوخ تقول لي شيئا، لكن ماذا عن شجرة التيوليب، وماذا عن الكلب في شجرة خشب الكلب، أو أشكال البالونات في شجر التيوليب.قرأت سبينوزا قبل سنين وأتذكر ما قاله في الأفعال الحسنة (برغم التشابه بينه وبين ما نقلته أنت عنه في رسالتك). قال إننا حين نفعل شيئا، فما نفعله ونحن ننتظر اعترافا أو جزاء أو حتى رد فعل. إنما نفعل ما نفعل، من أجل أنفسنا، لنعرف لا أكثر أننا فعلناه بالطريقة التي فعلناه بها. كان جميلا أن أفكر في سبينوزا مرة أخرى بعد كل تلك السنوات، أتعرف؟ سأذهب إلى المكتبة وأبحث عن أحد كتبه.

يبدو الطلبة في فصلي ممتلئين بالحماس ومستعدين لكثير من الكتابة. ومزاجي في هذا الموسم ينحو إلى الشعر أكثر مما ينحو إلى القص، ولكن جامعة واشنطن أحوج إلى القص، في ما أظن. في الثامن من أبريل، سأكلفهم بواجب كبير (بعدما أكون قضيت أسبوعين في لقاءات منفردة خارجية مع كل واحد منهم لأحمله على البدء) وأتجه لقضاء ثلاثة أسابيع في باوكيبسي.

سرت عصر الأمس قليلا على شاطئ بحيرة واشنطن. كانت مهجورة تماما، خاوية إلا من قارب شراعي وبضع بطات على مقربة من الشط. لا أعرف أي نوع من البط كانت، فهي من نوع لم يسبق لي قط أن رأيته، ولكن مناقيرها كانت شديدة البياض مثل قفازات الجراحين.

قبل أن أترك توسكون، عثرت على «لحظات الصيف الإيطالي» و«هل سنتلاقى لدى النهر» في متجر الكتب المستعملة الأحب لديّ. انفتح «لحظات» من تلقاء نفسه على الصفحة الحادية عشرة، ومرة أخرى، يبدو أن عيني وقعتا بصفة خاصة على بيتين:


لِيمون، يا زهرة جبال جاردا

قصر كاتولوس الحجري منتصب لدى نهاية البحيرة.

ليتك تكونين مزهرة حينما يؤوب إلى بيته الشبحُ.

ذلك البيت الأخير هو الأحب إليّ، ولو أنني ما كنت لأحبه لولا ما سبقه من أبيات. ثمة أبيات تبقى معي إلى الأبد دون أن أعرف لذلك سببا.

المشكلة أنني لم أودع مطلقا شخصا أحبه. أغلب الناس يربط بين الوداع والموت، ولكن الموتى في لاجونا لا يرحلون. والعمة سوزي ذات الأعوام المائة والستة تتكلم عن الخروج سريعا من هناك (من دار المسنين التي وضعها فيها أبناؤها). تقول إنها سوف تتمكن بعد الخروج من كتابة القصص بمزيد من التفاصيل، على نحو لم يتيسر لها من قبل حتى في دار كليف، بصحبة خالتها تسنادي التي تكبرها ببضع سنين. تقول لي إنها «تعيش هناك حاليا» فأحسب من فرط البساطة التي تتكلم بها أنها تقصد دار كليف، إذ تؤكد لي طريقتها أن الكلام عن مكان نألفه جميعا ونعرفه تمام المعرفة، ثم أتذكر فجأة أن تسنادي هذه ماتت منذ عشرين عاما. ولكنني أسمع يا جيم في نبرتها التقريرية ودفء صوتها أنها لا تتكلم عن الموت، وليست دار كليف بالمكان الرومنتيكي على الإطلاق، إنما هو المكان الذي سوف تمضي إليه بعد أن تخرج من هناك.

محبتي

ليزلي

ملحوظة: أشكرك شكراً جزيلاً على النسيج


***

تارانتو، إيطاليا

27 أبريل 1979

عزيزتي ليزلي

طبقا للجدول الذي وصلني منك قبل فترة، ينبغي أن تكوني الآن في باوكيبسي تتأهبين للرجوع إلى سياتل خلال يومين. أرجو أن تجدي هذه الرسالة في انتظارك هناك.

أرجو أن تكتبي إليَّ في سيرميون، برغم أننا لن نكون هناك قبل مرور أسبوعين. نحن حاليا في مدينة تارانتو الساحلية، وهي مدينة جميلة وحزينة تقع في مقدمة الحذاء الإيطالي [وإيطاليا تبدو في الخريطة على شكل حذاء]. أجلس الآن في الشرفة مطلا على لسان مائي ممتد في البر يعرف بالبيكولو مار، أو البحر الصغير. لا يزال الوقت في أول المساء. قوارب الصيد، حتى صغارها، ترجع، والرجال يستردون شباكهم الصغيرة التي يمكنك أن تريها أحيانا إذ يجري إصلاحها في المدينة القديمة جهة الجسر. يخرج الصيادون للصيد تاركين هنا أولادهم، وهو عمل شاق. ويشيع أن تري أبا يعمل ومعه ولده الصغير، سواء في صيد السمك أو في إصلاح الشباك. وإن في رؤية ذلك كله عزاء عميقا، ذلك الذي يجري حرفيا منذ آلاف السنين. لا ينبغي للمرء أن يدير وجهه عن الحروب، والفظائع. تارانتو واحدة من تلك الأماكن ذات الأهمية الاستراتيجية التي قصفتها القنابل أو نزلت بها المذابح على أيدي البرابرة فالعرب فالترك فالألمان فمن لا يعلم إلا الله. ولكن أشياء أخرى، أشياء أخرى تماما حقيقية أيضا: فـ ليسيبيس وبارزيتيليس عملا هنا لفترة والأخير بالذات ترك وجه فتاة جميلا. وفيثاغورث، زميلنا القديم في المدرسة الثانوية، جاء إلى هنا، ومشى في الرياض متفكرا في المثلث قائم الزاوية في هواء البلدة. وصدقي أو لا تصدقي، أفلاطون كان يأتي إلى هنا في زيارات. والآن، وفي وقت لاحق من مساء اليوم، سوف أحتفل بهدنة قصيرة في الحرب بأكلي المعكرونة المحلية المعروفة بالأورتشيتي (أي الآذان الصغيرة) وأروّح عن قلبي (أو أحرقه) بالمياه المعدنية.

برغم أن الوقت لم يطل كثيراً، لكن يبدو لي أن وقتا طويلا للغاية قد مر منذ أن وصلتني رسالة منك. أرجو أن تكوني بخير، وسعيدة، وأن تكون قد استمتعت بزيارتك لواشنطن وباوكيبسي. لقد قابلنا فرانك مكشين وأسرته في روما، وتكلمنا عنك بأشد الإعجاب.

محبتي

جيم