صالح العامري –
• لو عكفنا طوال عمرنا على تأمل التجاعيد، على دراستها، على استنطاقها، على توسل فهمنا لها، هل ترانا وصلنا إلى نتيجة؟، أم أننا سندرك بعد ذلك أننا مخدوعون، وأن الزمن قد سخر منا بإحدى حيله التي يقشعرّ منها البدن، بإحدى تعالياته المشمئزة التي يقف فيها شامخاً في الأعالي، بينما نحن جميعاً ندرج حيارى كالنمل على أصابع قدميه الكبيرين؟.
• ليس الزمن هناك فنذهب إليه، وليس هنا فنعود إليه. إنه يحيط بنا كما يلتف محيط شاسع بإصبع، أو سوار متغطرس بمعصم.
• ليس الزمن هو الأول وليس التالي، بل المبتدأ والخبر، الفعل الذي ينسف كلّ الأفعال، الفعل الذي يرّج الكائنات والجمادات واللغات، ويشتغل عليها بمطرقته وقيدومه، بكيره وناره، بفرجاره وعاره، ببندوله الذي يقيم الجدران بعناية فائقة ويطرحها بدقة لا متناهية على رؤوسنا وموائدنا وأفراحنا ومآسينا.
• على شاكلة من الذي يتربّص بالآخر، ومن الذي يقبض على الآخر. على شاكلة من الذي يأخذ دور الطريدة والفريسة، ودور الضاري والمفترس: فإن المسألة برمتها قانونٌ غابيّ، وقاحة نهمة ذات لعابٍ أبكم.
• أسئلتنا الساذجة عن الزمن قد تقف أحياناً على أعتاب حل ألغازه، على الأقل لأنها بمرح فيّاض تقضم من تفاحته. لكن الزمن متبرأ من أي تفاحة، متقمص تلك الدودة التي تنغل فيها.
• حين تعصف الشكوك وتفحّ أجراسها المصلصلة، فإن الشيء الذي لا شكّ فيه، أن الزمن هو المعلم (العجوز/ الوليد) الذي نتعلم على يديه كُلّ فنون السخرية والتهكم، الحب والعشق، الكراهية والضغينة، التذكر والنسيان، اللعب والجدّ، الكسل والمثابرة، الحياة والموت. يا لفنونه الجميلة!، يا لدروسه التي تكسر الظهر وتفرقع الفؤاد!.
• أظن أن الزمن لو اتخذ له صورة، لكان على هيئة نار تتقافز ألسنتها وتتلظى على مقربة من طفل متروك في العراء، طفل يبتسم مناغياً أحياناً ويصرخ أحياناً أخرى، طفل تبقعه ألسنة اللهب، لكن النار تسوّف هجومها، أو تفكّر في مباغتة ذلك الكائن في مرحلة من مراحله حياته التالية على هيئة ثعبان أو قارب يتحطم في لج البحر أو عربة تتهشم به أو -على الأقل- على هيئة موت يتربّص بكائن في التسعين من عمره، يتأرجح على كرسي هزاز في شرفة بيت أو فندق. ومع ذلك فلا يمكن الاستخفاف بصورة الزمن المتقلبة ولا بغطرسته المريضة، إذ يحدث فجأة أن يخر سقفٌ على طفل متحصن في غرفة، أو تنفجر قنبلة تحت سريره، دون حاجة منه إلى تأجيل أو تسويف، حيث المجد للعار والضغينة الباكرين.
• يا لبلاهتنا حين نكتب أسماءنا على رمل الشاطئ، ثم تأتي الموجة لتكنس الأسماء والكتابة. كأنّ الزمن يربّينا رومانسيين، ويعدمنا بإطلاق زخات رصاصه علينا ونحن جاثمون على صخرة الواقع.
• ترى ما الذي يصدّ سيل الزمن المتعجرف؟ ما الذي يفتت جبروته؟ ما الذي يجعله قزماً في نصوصنا وفي دفاترنا؟ ما الذي يمكن أن يوقف زحفه؟ ما الذي يسلبه عقله حتّى أنّه يكرّ على الحياة كمجنون، ويتوعدنا كإله أو هيستيريا؟. ما الذي يوقف زحف جيوشه التترية سوى أن نفنى في العشق، سوى أن ننغرز في خاصرة الزمن كشوكة أو جريمة عذبة حين نذهب مع من نحبّ إلى أقصى اللهفات وأشفّ الحنانات، سوى أن نقوم في فعل الحب، سوى أن نتصلّد بالحب ونذوب فيه، سوى أن نتعلّق بأستار العشق كي تندلق عصائر الحب العذبة على وجوهنا وصدورنا وفي حناجرنا ودواخلنا، سوى أن نحجّر الزمن عبر ما يسيل في لهفاتنا الثملة من وديان وأنهر، سوى أن نخرّب الزمن عبر ما نبنيه من ولهٍ سكران وغرام مجنّح، من قُبلاتٍ وضمّاتٍ مجنونة تنشر خزي الزمن وخرائبه في صحائف الأراضين والسماوات وتصد عنّا وضاعته وتعسفاته، فصامه وهيستيرياه.
• لا يظنن ظان أن الحب يقتل الزمن، بل يرمّمه ويبنيه على شكل معبد أو روح حلمية. لا يظن ظان أن الحب يبيد الزمن، بل يحيّده ويغويه للدخول في قمقم سليمان. لا يظنن ظانٌ أن الحب الأعزل اليتيم في حرب طاحنة وضروس مع الزمن المدجج بالأسلحة، بل هو في عُريه وعزلته وسكرته عازف عن الالتفات، فارغ من تقلبات الزمن، متجاوز للتجاعيد والتهشمات الوقتية.
• جدول الحبّ أكبر من سدّ الزمن. لحنه الصغير الشفاف وبحّة صوته الناعمة أعمق من هدير الزمن ورغائه المزبد. أطفال الحب الأصحاء يولدون ويتناسلون في طيور الكون وأشجاره الخضراء، بينما يقعي شيوخ الزمن وكهوله، مرضاه وجرباه، قراصنته ولصوصه، أسلحته وحباله الغليظة، في السفينة المتآكلة، في الطوفان الأبله، في الغراب العاقّ.
• أوّاه أيها الحبّ الأزلي، كيف استطعت أن تقيم مملكتك بين الخرائب؟ كيف استطعت أيها النبيل الشفيف أن ترفع السنبلة بين الغيوم النازفة وأن ترش البذار الحلوة بين الجراح الخبيثة؟ كيف تأتّى لك أن تكرع نبيذك السلسال في أرض الخديعة والخواء، وأن يتنزّه قلبك العاري دون خوف أو جبن في ساح المدفع والقنبلة؟ كيف استطعت أن تروّض الزمن الهادر بآلةٍ أسطوانية صغيرة قرّبتها من فمك ونفخت فيها من زفراتك وأعماقك؟ كيف استطعتَ – أيها المجنون الطيب- أن تبلغ الحدّ النزِقَ المشاغِبَ في السكون المطبق والبَلادة المتخثرة؟ كيف استطعت أن تحوّل الدم المنسكب إلى حرية، والهشيم الحزين إلى حصاد، والأعناق المقطوعة إلى موسيقا، والألسن المجزوزة إلى رمادٍ يغني، والنحيب والآلام إلى أجراس تتصاعد نغماتها بين الرياح الهوج؟..