د. حسن مدن –
يعكف الباحثون في التاريخ عادة على تتبع الأحداث الجسام التي غيرت مجرى هذا التاريخ من حروبٍ وانقلاباتٍ وثوراتٍ، ولكنهم، في الغالب الأعم، يغفلون ما نريد أن نصفه بـ«هامش التاريخ» ونعني به تلك التفاصيل الكثيرة التي يبدو غالبها ذا طابع إنساني حميم، وهي لا تقع في بؤرة الواقعة التاريخية، أي أن الحديث لا يدور عن الحرب أو المعارك الكبرى أو الهزائم والنكبات ونيل الاستقلال وما هو في حكم ذلك من أحداث، وإنما يدور حول جوانب تبدو بسيطة وهامشية لو نظر اليها من زاوية الحدث التاريخي الكبير، لكنها جديرة بأن تمنحنا فرصة كبرى للتعرف إلى المرحلة التاريخية التي تعود إليها أكثر مما تمنحنا إياه رواية الوقائع التاريخية الكبرى.كان محمد عابد الجابري يفرق بين ما يدعوه التاريخ الكبير والتاريخ الصغير، في خانة الأول يضع تلك الأحداث التي يمكن أن تستوعب في ثناياها مجموعة من التواريخ الصغيرة، التي لا تعدو كونها، في نهاية المطاف، مجرد تفاصيل في الحدث التاريخي الكبير، ولكن الجابري يظل، حتى في هذا التفريق، عند حدود الوقائع السياسية، ولا يذهب إلى ما نحن بصدده هنا، وهو الوقوف على تفاصيل صغيرة تجري على هامش الواقعة التاريخية الفاصلة، ومفردة الهامش هنا مجازية فقط، من أجل عقد المقارنة بين الحاسم والأقل حسماً، حين يتعين علينا عند دراسة حملة نابليون على مصر، مثلاً، ألا نكتفي بالمعارك الحربية، وإنما نذهب إلى يوميات العلماء والأطباء والفنانين والمصورين وسواهم الذين كانوا ضمن الحملة كي نُكَون فكرة عن تفاصيل الحياة في مصر يومذاك. ولا يعني هذا النوع من الكتابة أن الباحث، وهو يفعل ذلك يكون خلواً من الهدف، وهو لا يكتفي بتقديم تلك التفاصيل تاركاً للقارئ وحده استخلاص الاستنتاجات الضرورية حول تلك المرحلة، وإنما يقدم هو رؤيته ولكن ليس على شكل خطاب سياسي تعبوي، فهو لا يقوم بدور الداعية، بمقدار ما يسعى لإبراز جوانب إنسانية مغفلة، تساعد معرفتها على إضاءة زوايا مهملة في التاريخ.لعل هذا يفسر لنا هذا الاهتمام الذي توليه الدراسات الحديثة لما يمكن أن ندعوه التواريخ الفرعية، من قبيل تاريخ النساء أو تاريخ الأقليات في هذا البلد أو ذاك، ويمتد هذا الاهتمام إلى مجالات الأدب، خاصة في الرواية، حيث نقع على الكثير من الروايات التي تحاول أن تتبع سيرة أجيال متعاقبة من النساء، من خلال سرد حكايات عن نساء معاصرات يستعدن سيرة أمهاتهن وجداتهن، وعلى هذا النحو أيضاً ينتعش الاهتمام بتاريخ الأقليات في المجتمعات لتبيان المسار المتوتر تارة، والمتسامح تارة، من علاقة المجتمعات بالأقليات المقيمة بين ظهرانيها.
في هذا الاهتمام بالتواريخ الفرعية نوع من رد الاعتبار لحقائق ووقائع كثيرة غيبتها الرواية الرسمية الأحادية للتاريخ التي إما أن تكون صيغت بمنطق ذكوري، حين يتصل الأمر بتاريخ النساء، أو بمنطق إقصائي، حين يتصل الأمر بتاريخ الأقليات أو المجموعات الصغيرة والمهاجرين، ومن شأن أمر مثل هذا أن يؤكد أن كتابة التاريخ يمكن أن تنطلق من الهامش أو الجزئي بمقدار لا يقل عن انطلاقها من المتن، أي من الواقعة التاريخية الصاخبة، فالهامش المغفل ربما احتوى من التفاصيل التي قد تؤدي معرفتها إلى إعادة فهمنا للتاريخ. أذكر أن (الهلال) المجلة المصرية العريقة حين أرادت أن تحتفل بما وصفته أول انتخابات لمنصب رئيس الجمهورية في مصر، بطريقتها الخاصة، أصدرت عدداً تذكارياً عن «حكام مصر»: من اختارهم وكيف حكموا. كتب في العدد عدد من أبرز الكتاب المصريين اليوم. وبوسعي هنا فقط أن أورد أسماء بعض هؤلاء الكتاب. مثلاً: يحيى الجمل وعواطف عبدالرحمن وعاصم الدسوقي ومراد وهبة ومصطفى سويف وآخرين كثر.
يدور الحديث عن حكام مصر طوال آلاف السنين، لذا لن يكون بالإمكان هنا استعراض تلك المادة الثرية، لكني وجدت بين تلك المادة ما هو باعث على الفضول أكثر من سواه. فجمعة فرحات أحد المساهمين في العدد فضل أن يكتب عن «السخرية بالكاريكاتير».
وزاد من ظرف المادة أن جمعة نفسه رسام كاريكاتير، ليفاجئنا بأن المصريين عرفوا رسم الكاريكاتير منذ زمن بعيد، واستخدموه طريقةً للتعبير عن سخريتهم من الأوضاع القائمة، فهو يتحدث عن كاريكاتير محفوظ في متحف بروكلين بنيويورك يعود عمره لأكثر من 33 قرناً من الزمان، وهو يتضمن تعبيرات ساخرة عن الأوضاع وعن الحكم يومذاك، ثم يستعرض بعد ذلك تطور فن الكاريكاتير في العهود المختلفة، متوقفاً بشكل خاص عند المرحلة الملكية عشية ثورة 1952 ثم ما تلاها من مراحل.لكن الكاريكاتير في مصر تاريخاً وحاضرا ربما استلزم حديثاً منفصلاً. ذلك أن عدد (الهلال) المشار إليه حوى أيضاً تحقيقاً طريفاً عن طوابع البريد في مصر بوصفها وسيلة لمعرفة تاريخ مصر.
بعيداً عن السياسة هناك مجموعة من الطوابع التي تذكرنا بمشاهير مصر من أدباء وفنانين وكتاب مثل طه حسين وعباس العقاد والسيدة أم كلثوم ونجيب الريحاني والموسيقار محمد عبدالوهاب، وغيرهم من كبار الأسماء اللامعة في دنيا الثقافة والأدب والفن، وهناك سلسلة من الطوابع التي تحمل صور من حكموا مصر. ويحتفظ هواة جمع الطوابع ببعض منها، إضافة إلى تلك التي تؤرخ لأحداث تاريخية مهمة مثل حرب أكتوبر المجيدة أو المقاومة الشعبية الباسلة في بور سعيد، وتلك التي تتصل بالمحطات المجيدة في العهد الناصري، كثورة يوليو ذاتها أو بناء السد العالي أو تأميم قناة السويس.
يذكر أن القاهرة بالذات شهدت في عام 1934م عقد المؤتمر العاشر لاتحاد البريد العالمي بالقاهرة، والذي تزامن انعقاده مع الذكرى السبعين لإنشاء مصلحة البريد المصرية، وهذا يدل عل أن للبريد في مصر تاريخا عريقا، وبعد ثورة يوليو 1952م تم تخصيص ميزانية مستقلة لمصلحة البريد، وصار لها الحق في توجيه فائض إيراداتها في أعمال تحسين الخدمة البريدي والنهوض بها.
بدت لي فكرة قراءة التاريخ من أبواب تبدو ثانوية مثل تطور رسم الكاريكاتير، أو تطور الخدمات البريدية وشكل ودلالات طابع البريد فكرة ذكية، تؤكد أن كتابة الهامش تبدو في حالات كثيرة أكثر طرافة وربما عمقاً أيضاً من كتابة المتن. ولكي لا أغالي أن أقول إن المتن وحده سيكون ناقصاً إن لم يعزز بالهوامش التي أحسب أنها تكسوه باللحم وتهبه الروح.
بوسعنا أن نخرج من هذه الدائرة لنلج دائرة المجتمع الأوسع لنرى كيف يمكن للهامش أن يكون متناً، ولما يظن أنه ثانوي أن يصبح رئيسياً، فعلى سبيل المثال لم يكن التونسي محمد البوعزيزي عاملاً في مصنع، ولا منتسباً إلى البلدية أو أي إدارة حكومية أخرى، كان صاحب عربة يبيع عليها الخضار، اي أنه ينتمي إلى تلك الفئة التي تصنف عادة بالمهمشين، الذين تعج بهم المدن والبلدات العربية، وفي غالبيتهم فانهم نازحون من الأرياف حيث تنعدم فرص العمل، نحو المدن المأزومة أساساً، والعاجزة عن إستيعابهم في وظائف أو مهن، فـ(يخترعون) لأنفسهم اعمالاً لنيل الرزق، من قبيل تلك التي كان البوعزيزي يمارسها.
ما يطلق عليه العشوائيات في مصر، وأحزمة الفقر التي تشكلت حول العواصم والمدن العربية، وتضخم عدد القاطنين فيها، حتى بات يضاهي عدد سكان المدن الأصليين، الضاحية الجنوبية في بيروت وما يعرف بأرياف دمشق وحلب وغيرها، هي نتاج الهجرات الواسعة التي تفرضها الظروف المعيشية الخانقة، أو الحروب الأهلية، وربما الكوارث الطبيعية، فالكثير من أحياء مينة سيدي بوزيد التونسية شهدت حركة تعمير من قبل النازحين من الأرياف المجاورة على اثر فيضانات جرت في نهاية ستينيات القرن الماضي.
المشتغل على التركيبة السكانية والاصطفافات الطبقية في المجتمعات العربية قد يتيسر له، ولو بعناء، الحصول على إحصائيات تقريبية عن عدد عمال المصانع، واصحاب الورش والحرفيين، وعن عدد العاملين في القطاع العام، وموظفي الحكومة، لكنه لن يتمكن من الحصول على بيانات عن هؤلاء الموصوفين بالمهمشين؛ لأن هذه البيانات غير متيسرة حتى لدى الأجهزة الحكومية المعنية، فهم يقعون خارج أي تصنيف معترف به للوظائف والمهن، رغم أن أعدادهم مهولة، وتشكل بيئةً للانفجارات الاجتماعية، وأرضاً خصبة للتطرف.
بعض الدراسات التي عالجت التحولات الاجتماعية – الاقتصادية في العالم العربي تتحدث عن ظاهرة تطلق عليها بالاقتصاد اللاشكلي، والمقصود به الأنشطة الإقتصادية الواقعة خارج أو على هامش القوانين المعتمدة والتصنيفات الكلاسيكية، والتي تفلت من إمكانية حصرها إحصائياً.
ومع أن مفهوم الاقتصاد اللاشكلي واسع بحيث يشمل أنشطة غير اقتصادية لكنها موجهة لغايات اقتصادية من قبيل اقتصاد الفساد، لكنه يحتوي أيضاً الفئات المهمشة موضوع الحديث التي تُجبرها الحياة على تدبر أمورها المعيشية بطريقة لا تخلو من الفطنة والنباهة، لكنها تظل عاجزة عن بلوغ المراتب التي ينظمها الاقتصاد المعترف به، والداخل في التصنيفات والاحصاءات.
في قصيدته: «أحد عشر كوكباً في وداع المشهد الأندلسي» اختار محمود درويش الجلوس فوق الرصيف «على ساحة الأقحوانة ليعد الحمامات والفتيات اللواتي تخاطفن ظل الشجيرات فوق الرخام»، تاركات له ورق العمر أصفر، فمر عليه الخريف وهو عنه ساهٍ .
سينتاب الشاعر الندم حين يدرك: «مر كل الخريف، وتاريخنا مر فوق الرصيف ولم أنتبه» . لكي نفهم بصورة أفضل فوضانا العربية الراهنة، علينا أن نفتش عن الأسباب فوق الرصيف، في الهامشي، والفرعي. في ما لا يعترف به عادة.