ميشيل ويلبيك .. المتناقض«2»

حوار: سوزانا هانويل –
ترجمة: أحمد شافعي –
ولد ميشيل ويلبيك في جزيرة لا ريونيون La Réunion الفرنسية، على مقربة من مدغشقر، سنة 1958. وكان والداه البوهيميان- حسبما يرد في موقعه الرسمي على الإنترنت- طبيب تخدير ودليلة جبلية، و«سرعان ما فقدا كل الاهتمام بوجوده». ليست له صور في طفولته. بعدما قضى فترة وجيزة مع جديه لأمه في الجزائر، انتقل إلى كنف جديه لأبيه في شمالي فرنسا منذ سن السادسة. بعد فترة من البطالة والاكتئاب، أفضت إلى قضاء أيام في وحدات العلاج النفسي، وجد ويلبيك وظيفة مساعد عامل تقني في الجمعية الوطنية الفرنسية (ويقول إن أعضاء البرلمان كانوا في «غاية العذوبة»).
شاعر منذ أيام الجامعة، وله دراسة معتبرة عن كاتب الخيال العلمي الأمريكي إتش بي لافكرافت ترجع إلى سنة 1991. في سن السادسة والثلاثين، نشر روايته الأولى «مهما يكن» (1994). في 2001، نشر ويلبيك «المنصة Platform»، عن وكالة سياحية تقرر الترويج بكل قوة للسياحة الجنسية في تايلند. وهو ما يؤدي في الرواية إلى هجمة إرهابية ينفذها متطرفون مسلمون. في 2005 نشر «احتمال جزيرة» عن سباق استنساخ في المستقبل.
فاز ويلبيك بالكثير من الجوائز الفرنسية المهمة، وإن لم يكن من بينها الجونكور، التي يرى كثيرون في المؤسسة الأدبية الفرنسية أن في حجبها عنه ظلما بيّنا له. أصدر أيضا العديد من الكتب الشعرية وكتب المقالات. ولُحّنت بعض قصائده.

ـ ما رأيك الآن في روايتك الأولى؟
ـ قاسية، لكنها جيدة. وكانت بداية علاقتي الطويلة مع أعضاء فريق تحرير مجلة Les Inrockuptibles الذين أحبوها على الفور.

ـ Les Inrockuptibles ؟
ـ مجلة ثلثها تقريبا مخصص للموسيقي، وثلثها للأدب، والثلث الأخير لكل شيء آخر. عند ظهورها شهريا سنة 1986، ثم أسبوعيا سنة 1995، أحدثت ذعرا في الإعلام الفرنسي، فقد كانت بوضوح شديد أفضل من كل ما فيه بكثير. بدت المجلات الأسبوعية بملاحقها الثقافية سخيفة بالقياس إليها. كان كل ذي شأن ثقافي في باريس تحت أقدامهم. لكن للأسف لم يكن بينهم من يتحلى بالمسؤولية، فلم يتول أحد العمل بشكل حقيقي، والآن راحت.

ـ ما القيم التي تبنتها في البداية؟
ـ يمكنك القول إنه كان ثمة قيمة واحدة: قليل من الواقع أيها البشر! دعونا نر العالم، الأشياء التي تحدث الآن، في حياة البشر الحقيقيين.

ـ نشرت في عام 1998 روايتك الثانية الشهيرة حاليا، أي «جزيئات أولية»، عن الحياة العاطفية المأساوية لعالم وشقيقه من أبيه. ما الذي دفعك إلى كتباتها؟
ـ الإلهام الحقيقي كان تجارب آلن آسبكت Alain Aspect سنة 1982. فقد أظهرت تلك التجارب مفارقة EPR التي تقول بأن الجزيئات حينما تتفاعل، تترابط مصائرها. فحينما تُحدِث فعلا في واحد، ينتشر الأثر فورا إلى الآخر مهما تناءت المسافة بينهما. زلزلني ذلك بحق. فكرة أنه إذا ارتبط شيئان لمرة، فإنهما يبقيان مرتبطين إلى الأبد. هذه علامة على تحول فلسفي أساسي. منذ اختفاء الإيمان الديني، صارت الفلسفة السائدة هي المادية التي تقول إننا وحدنا وتختزل الإنسان في الجانب البيولوجي. يصبح الإنسان قابلا للحساب شأن كرات البلياردو وعرضة للفناء تماما. رؤية العالم تنهار بمفارقة EPR. فكانت الرواية مستلهمة من فكرة طبيعة التغير الميتافيزيقي الذي يمكن أن يلي ذلك. ينبغي أن يكون ذلك أقل إثارة للاكتئاب من المادية التي لا بد أن نعترف أنها باعثة كثيرا على الاكتئاب.

ـ كيف مضيت من هذه الفكرة إلى القصة؟
ـ بدأت بالشخصية المركزية، ميشيل، الباحث في الفيزياء. ولأنني كنت لا أزال آسفا للغاية على قتلي تيسيران مبكرا أكثر مما ينبغي في «مهما يكن»، فقد مضيت إلى برونو، وهو امتداد لتيسيران Tisserand. وفي هذه المرة كان عليّ أن أكتب قصة حياته. وكانت لذة حقيقية. خلافا لميشيل الذي كان عليَّ أن أقرأ لأجله الكثير من الكتب.
ـ اضطررت إلى كثير من البحث في نظرية الكوانتم؟
ـ أوه، كان شيئا رهيبا. أتذكر كتبا بلغت من الصعوبة أني كنت أضطر إلى قراءة الصفحة الواحدة ثلاث مرات. صحيح أنه لا بأس في بذل شيء من الجهد الفكري في بعض الأحيان، لكنني أشك في احتمال أن أكررها.

ـ ما أكثر ما أردت تحقيقه في هذه الرواية؟
ـ ما أردته بحق هو أن أوجد مشاهد «تنفطر لها القلوب» كما تقولون بالإنجليزية، أي heartbreaking.

ـ تنفظر لها القلوب heartbreaking ؟
ـ وفاة صديقة ميشيل كانت مؤثرة للغاية، في ظني. أردت بقوة أن أعلي هذه النوعية من المشاهد على ما عداها.

ـ يقولون إنك تنتمي سياسيا إلى اليمين لأنك تبدو في «جزيئات أولية» مناهضا للبرالية الستينات. ماذا ترى في هذا التأويل؟
ـ ما أراه، بالدرجة الأساسية، أنه لا يمكن القيام بأي شيء في ما يتعلق بالتغيرات المجتمعية. قد يكون مؤسفا أن تختفي الأسرة كنواة للمجتمع. قد يذهب المرء إلى أن في هذا زيادة للمعاناة البشرية. لكنْ أسِف المرء أم لم يأسف، ليس بيده شيء. هذا هو الفارق بيني وبين الرجعي. فلست مهتما أدنى اهتمام بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء لأنني لا أومن بإمكانية ذلك. ليس بيد المرء إلا أن يلاحظ ويصف. طالما أثار بلزاك إعجابي بقوله المهين للغاية عن الغرض الوحيد من الرواية، وهو أن تبيّن الكوارث التي تنجم عن تغير القيم. هي مبالغة طريفة. ولكن هذا ما أفعله: أبين الكوارث الناجمة عن التحرر القيمي.

ـ كتبت أنك لست «مجرد ملحد متدين، بل وسياسي». هل توضح هذا؟
ـ أنا لا أومن كثيرا بتأثير السياسة على التاريخ، وأعتقد أن العوامل الرئيسية تكنولوجيةٌ وفي بعض الأحيان لا في أكثرها، دينية. لا أعتقد أن للسياسة أهمية تاريخية حقيقية، إلا حينما يتسببون في كوارث كبرى على الطراز النابليوني. ولا أومن أن للسيكولوجيا الفردية أثرا من أي نوع على الحركات الاجتماعية. وستجدين تعبيرا عن هذا الاعتقاد في جميع رواياتي. لقد كنت أتكلم صباح اليوم مع شخص ما عن بلجيكا، وهي بلد فاشلة تماما. وبوسع أي شخص أن يعرف سبب هذا، وهو أن البلجيك متجانسون تماما، ومصرون على النجاح، ومع ذلك لا ينجحون. وبلدهم سوف تختفي. فعلينا أن نؤمن بأن هناك قوى اجتماعية مؤثرة هي الفاعلة، وهي التي لا يمكن تفسيرها في ضوء السيكولوجيا الفردية.

ـ هل اندهشت من ردود الفعل على «جزيئات أولية»؟
ـ نعم. كنت أتوقع نجاحا مماثلا لنجاح روايتي الأولى. نجاح نقدي مع مبيعات متواضعة. كانت لحظة محورية في حياتي، لأنني كنت قادرا على التوقف عن العمل.
ـ نقادك الفرنسيون يضيقون مما يرونه استعمالا هازئا منك للإعلام في تسويق كل كتاب لك ابتداء من «جزيئات أولية». كيف كان موقفك في ذلك الوقت؟

ـ في ذلك الوقت كنت أرى أن على المرء أن يستغل الإعلام كثيرا إن هو أراد أن يبيع كتبه، وصحيح أنني كنت أريد أن أجني المال لأتمكن من ترك الوظيفة. هذا هو المغزى الوحيد من امتلاك المال، أن تتاح للمرء الحرية في أيامه، وهو شيء أساسي. الآن لم أعد واثقا أن الإعلام يبيع الكتب.
ـ فما الذي يبيعها؟
ـ تناقل الكلام. ففي هذه اللحظة، على سبيل المثال، مارك ليفي هو أكثر من يبيع في فرنسا. مع أنه لم يهتم بالإعلام مطلقا.

ـ «الجزيئات الأولية» أيضا رواية جعلت النقاد يركزون على سيرتك الذاتية إذ يبدو أن ثمة نقاط ارتباط كثيرة بين الشخصيات وبين حياتك الشخصية. ويبدو أنك تضيق من هذا، من اختزال الناس كل شيء إلى سيرة ذاتية.
ـ نعم، لأن في ذلك إنكارا لسمة جوهرية في كتابة الرواية، هي على وجه التحديد، أن الشخصيات تتطور من تلقاء نفسها، فالكاتب يبدأ من معلومات حقيقية قليلة ثم يترك الأمر كله يتحرك بدافعه الذاتي. وكلما أمعنت في التقدم، بت أقرب احتمالا أن تترك الواقع وراءك. ليس بوسع أحد في الحقيقة أن يحكي قصته الخاصة. غاية ما في الأمر أن يستعمل عناصر منها، ولكن لا تتخيلي أن تكوني قادرة على التحكم في ما سوف تفعله شخصية بعد مائة صفحة. الشيء الوحيد المتاح لك، مثلا، هو أن تمنحي الشخصية ذائقتك الأدبية. لا شيء أسهل من هذا. فقط اجعلي الشخصية تفتح كتابا.

ـ بالحديث عن سيرتك الذاتية، كتبت مؤخرا أنك عشت طفولة سعيدة مع جدتك.
ـ نعم، جدتي لأبي. عشت معها بين السادسة والثامنة عشرة. كانت هناك فترتان، أولاهما سعيدة فعلا، بين السادسة والثانية عشرة. كنا نعيش في ريف يون Yonne. كنت أركب الدراجة، وأبني الجسور، وأقرأ كثيرا. لم نكن نشاهد التليفزيون كثيرا. كانت حياة طيبة. ولكننا انتقلنا إلى كريسي أون بري Crécy-en-Brie ، ولو ذهبت إلى هناك الآن، لن تعرفي بدقة ما أتكلم عنه. كانت أكثر قروية مما هي الآن. هي الآن أقرب إلى الضواحي، ومع ذلك لا أشعر فيها بالارتياح، كان فيها الكثير للغاية من البشر. وكنت أحب عزلة الريف. ولكن المراهقة عموما أقل سعادة من الطفولة.

ـ وجدتك كانت شيوعية؟
ـ في هذا مبالغة إلى حد ما. في ذلك الوقت، كان جميع الناس في طبقة اجتماعية معينة في فرنسا يصوتون للحزب الشيوعي، دون أن يعرفوا من هو ماركس. كان تصويتا طبقيا.

ـ هل كانت تعمل؟
ـ لا، كانت متقاعدة.

ـ من أي وظيفة؟
ـ كانت تعمل في السكة الحديدية. أظن أنها كانت ناظرة محطة في قرية.

ـ هل كنت مقربا من جدتك؟
ـ نعم، كنت أحبها كثيرا.

ـ أنت شخص ظريف بصورة واضحة. هل كانت هي ظريفة؟
ـ لا. لم تكن تكثر من الهزل.

ـ هل كانت أمومية؟
ـ نعم. أبناؤها الأربعة كانوا يجلّونها. كانت أمًّا جيدة جدا.

ـ هل كنت ترى أبويك كثيرا؟
ـ أمي، قليلا جدا. أبي، نعم. في الشتاء وإجازات الصيف.

ـ هل كنت قريبا منه؟
ـ لا في الحقيقة. كان رجلا يصعب الاقتراب منه. كان شخصا غريبا، انعزاليا في الحقيقة. ومع ذلك كنت أقرب إليه مني إلى أمي. كنت أعرفه أفضل مما أعرفها.

ـ عشت حتى السادسة مع جديك لأمك في الجزائر. هل تتذكر طفولتك الأولى؟
ـ قليلا جدا. عندي ذكريات غائمة لملاعب مكسوة بورق الشجر. أتذكر كذلك رائحة قنابل الغاز التي كنت أحبها. أتذكر من الحرب أشياء قليلة مثل نيران الرشَّاش في الشوارع.
– هل كان ذلك مخيفا؟
ـ لا. على الإطلاق. الأطفال يستمتعون بمثل هذه الأشياء.

ـ هل كانت القراءة حاضرة بقوة في البيت الذي نشأت فيه؟
ـ ام يكن جداي يقرآن على الإطلاق. كانا غير متعلمين.

ـ فكيف تغيرت حياتك بعد «جزيئات أولية»؟
ـ الأثر الوحيد لـ «جزيئات أولية»، بعيدا عن المال وعدم الاضطرار إلى العمل، أنني بت معروفا على المستوى الدولي. لم أعد سائحا على سبيل المثال لأن جولات الترويج لكتبي أشبعت كل رغبة في السياحة والسفر. ونتيجةً لذلك زرت دولا ليس من المعتاد زيارتها، مثل ألمانيا.

ـ لم تقول هذا؟
ـ لا أحد يذهب إلى ألمانيا للسياحة. لا توجد سياحة هناك؟ ولكنهم مخطئون في ذلك. فهي ليست رديئة.
ـ السياحة هي مركز روايتك الثالثة «المنصة»، عن وكالة سياحية كبرى تقرر تسويق رحلات الجنس.
ـ أصعب شيء في كتابة الرواية هو العثور على نقطة البداية، التي سوف تنفتح بها الرواية. وحتى هذا لا يضمن النجاح. ولقد فشلت فشلا أساسيا في «المنصة»، وإن تكن السياحة نقطة ممتازة للانطلاق إلى فهم العالم.

ـ ما الذي جذبك في صناعة السياحة؟
ـ أجد لذة مثالية في قراءة الأدلة السياحية، لا سيما أدلة ميشلين Michelin guides، ووصفها للأماكن التي أعرف أنني قد لا أزورها قط. وأقضي شطرا كبيرا من حياتي في قراءة وصف المطاعم. أحب المعجم اللغوي المستعمل في ذلك. أحب الطريقة التي يقدمون بها العالم. أحب وصف السعادة والاكتشاف. وهناك، من بعد، أسئلة بدأت أطرحها على نفسي. الصين في سبعة أيام على سبيل المثال. كيف يختارون المراحل المختلفة؟ كيف يحولون العالم إلى عالم ممتع قابل للاستهلاك؟

ـ احك لنا عن بتايا في تايلند حيث تجري الجولات السياحية الجنسية.
ـ افتتنت ببتايا التي تجري فيها نهاية الرواية. الجميع يذهبون إلى هناك. الأنجلوساكسون يذهبون. الصينيون يذهبون. اليابانيون يذهبون. العرب يذهبون أيضا. كان ذلك هو الجزء الأغرب. قرأته في دليل سياحي فرغبت في السفر إلى تايلند. قالوا إن العاهرات التايلنديات في أحد فنادق بانجوك يرتدين الحجاب إرضاء لزبائنهن العرب. بدا لي ذلك فاتنا، تلك القدرة على التكيف. هناك كثير من الجزائريين الفرنسيين يذهبون إلى بتايا من أجل العاهرات. والبنات التايلنديات يتكلمن الفرنسية لكن بلكنة الجيتو. « Ouais, j’tassure! Ouais, ta mère!».
هناك حانات موسيقية لليابانيين، ومطاعم للروس فيها كثير من الفودكا. وهناك جانب مؤلم أيضا، إحساس بنهاية الطريق لدى الأنجلوساكسون الهرمين. تستشعر أنهم لن يقووا مطلقا على الرحيل. وهناك الغبار في المساء، حينما تكون الحانات والملاهي الليلية مغلقة لا تزال. وهناك جانب شديد الإيلام في اللحظة التي تبدأ الفتيات فيها في الوصول على الاسكوترز ويرى المرء السائحين الأنجلوساكسون وهم يخرجون كالسلاحف إلى الغبار. ثمة شيء غريب، بالغ الغرابة، في المدينة.
ـ التفجير السياحي في بتايا في نهاية الكتاب كان يستشرف التفجير الحقيقي للملهى الليلي في بالي بعد عام من صدور الكتاب.
ـ لم يكن التنبؤ بذلك صعبا. كان يمكن أن يحدث أيضا في ماليزيا، وهي بلد إسلامي آخر فيه الكثير من العاهرات للغربيين.

ـ لماذا ترى أن «المنصة» فشلت؟
ـ لا يوجد تحليل كاف لصناعة السياحة. وشخصية واحدة، هي شخصية فاليري، تسيطر على الكتاب أكثر مما ينبغي. وليس بيد المرء الكثير حيال ذلك. لقد أحببت فاليري كشخصية، ونتيجة لذلك، بدت لي شخصية الرجل مملة.

نشر هذا الحوار في عدد خريف 2010 من باريس رفيو