سليمان المعمري وجمال عبد الناصر بين الإثراء المعرفي والإحكام الروائي

د. أحمد درويش –
-1-
سليمان المعمري قاص وروائي موهوب، فضلا عن كونه كاتباً أدبياً في جوانب متعددة لعل من أبرزها المقال القصصي الساخر.
وروايته الأخيرة: «الذي لا يحب جمال عبد الناصر» (دار الانتشار العربي 2014) رواية تقدم كثيراً من أوجه الفائدة والمتعة، كما أنها تثير كثيراً من التساؤلات الفنية ، وقد اعتمد الكاتب تقنية «المزج الساخر» بين الواقعي والتخيلي، واستثمر روابط الإيهام والتشابه بطريقة ذكية ودالة، قرب خلالها بين أطراف عالمي الواقع والخيال وانتقل بقارئة من إحدى الضفتين للأخرى بمهارة تجعل التساؤل المثار أحياناً: في أي الضفتين نحن الآن ؟
وتنطلق أحداث الرواية من ضريح جمال عبدالناصر في القاهرة في يوم الثالث والعشرين من شهر يوليو عام 2012، وهو الموافق للذكرى الستين لقيام ثورة 23 يوليو سنة 1952 في مصر، وهو اليوم نفسه الذي تحتفل فيه سلطنة عمان بالذكرى الثانية والأربعين لتولى جلاله السلطان «قابوس بن سعيد» حكم البلاد. في صباح هذا اليوم يطلب عبدالناصر إلى حارسه في عالم الموت، أن يحقق له أمنيته بالسماح له بزيارة مصر لأنه سمع أن ثورة كبرى قامت في يناير 2011، وأن أمله بالسماح له بالزيارة، مبنى على تسامح تم معه من قبل عندما سمح له بلقاء الشيخ الشعراوي في المنام سنة 1995، ورد الحارس الذي تخضع قراراته لقوانين صارمة بصعوبة تحقيق المطلب؛ لأن جماهير الثورة الأخيرة ترفع صور جمال عبدالناصر وتهتف باسمه، وتتمنى رؤيته، على عكس الحال مع الشيخ شعراوي الذي كان يكره عبد الناصر، قبل الزيارة، ثم تصالحاً في الزيارة المنامية وزار الشعراوي بعدها ضريح عبد الناصر، ونشرت صورة الزيارة في الصحف.وهكذا أفهم الحارس، ساكن الضريح، بأن طلب الزيارة لابد أن يأتي من حاقد أو عدو أو كاره، حتى يتحقق. وكان الحارس يتعاطف قليلاً مع جمال عبد الناصر، الذي كانت له جوانب إنسانية يذكر منها الحارس الرد الذي أرسله جمال نفسه على رسالة تلميذ صغير متحمس له وللثورة، ودعاه في رده إلى أن يتسلح بالعلم والخلق الحسن حتى يكون فخراً لبلاده ، وأعتز التلميذ بالرد وحافظ عليه وعمل به حتى كبر وأصبح أكبر عالم في الدنيا وهو «أحمد زويل»، وبعد برهة زمنية يغفو خلالها عبد الناصر قليلاً، يوقظه الحارس وقد اهتدى إلى حل يسمح له بالخروج والزيارة قائلاً: «لقد اهتدينا إلى وجود رجل يكرهك حد الموت، وهو موجود في سلطنة عمان»، وتعجب عبدالناصر كثيراً، لعلمه أن العمانيين طيبون، ولكن الحارس أفهمه أنه مصري يعيش في عمان منذ ثلاثين عاماً ويعمل مصححًا في جريدة المساء، وهو أزهري، مشكوك في تخرجه، ويفقد أعصابه لمجرد سماعه اسم جمال عبد الناصر، ويقاطع كل من ينطقه، واسم هذا الرجل «بسيوني سلطان».
وبناء على توافر الشروط ، يخرج عبدالناصر من ضريحه بشرط أن يتوجه مباشرة إلى حي «الحمرية» في مسقط حيث يسكن بسيوني، وألا يكلم أحدًا قبل رؤيته ويركب التاكسي إلى المطار ويرتاب السائق كثيراً، حول شدة شبهه بعبد الناصر ثم يسمعه من المذياع خطاب الرئيس محمد مرسى: «أن ثورة 23 يوليو 1952 كانت لحظة فارقة في تاريخ مصر المعاصر وأسست للجمهورية الأولى التي دعمها الشعب، والتف حول قادتها وحول أهدافها الستة» لكن السائق يحذر عبدالناصر من أن يغتر بكلام الإخوان… ويعبر الروائي بعبدالناصر من المطار خفية، لكي نجده في مطار مسقط، وهو يستقل التاكسي، فيسمع في موجز أخبار التاسعة مساء «السلطنة تحتفل اليوم بذكرى الثالث والعشرين من يوليو المجيدة يوم انطلاق النهضة المباركة»، فيبتسم عبدالناصر في نفسه وهو يقول «والله فيكم الخير يا عمانيين».
وهكذا يلعب الراوي بمهارة على خطوط التماس والالتباس في اللحظة الزمنية التي تكررت بفارق ثمانية عشر عاماً، بين «ثورة مباركة» و«نهضة مباركة» في الثالث والعشرين من يوليو.
اتجه به التاكسي لحي «الحمرية» وتوقف عند عمارة سكنية كبيرة، وهناك قرع باب الشقة رقم 18 التي يسكن بها الموظف المصري بسيوني سلطان، وكان بالبيت وحده، ففتح باب الشقة، فرأى جمال عبدالناصر أمامه بشحمه ولحمه – فشهق شهقة قوية وسقط مغشيًا عليه، ونقل إلى المستشفى فاقدا النطق أقرب إلى الموت منه إلى الحياة، واختفى الطارق، الذي ظهر خلسة في المستشفى بعد يومين وترك باقة ورد للمريض المسجى وبها بطاقة تحمل توقيعه وتقول «ارفع رأسك يا أخي»، دون أن يراه أحد.
وهنا ينتهي مشهد «الإطار» لتبدأ أحداث الرواية المتداخلة المتشعبة المكتظة بالمواقف ذات الدلالات المتفاوتة الوضوح، ولا نريد أن نترك مشهد الإطار قبل أن نتوقف أمام بنيته التي يمتزج فيها الواقعي بالتخييلي وتنتقل بالميت من ضريحه إلى سطح الحياة، وبالحي من صحوته إلى قاع الصدمة التي تضعه على حافة الموت، وتنتقل بالميت من أرضه التي دفن فيها لكي يظهر حيًا في أرض تؤمن بعودة المغيبين على أيدي السحرة في «أساطيرها الشعبية».
والروائي يستعين في بناء هذا الإطار بالموروثات الشعبية والأساطير فهو يستلهم ألف ليلة وليلة في حكاية «التاجر والعفريت» عندما تقول شهرزاد لشهريار: «ركب تاجر من التجار إلى بعض البلاد، فاشتد عليه الحر، فجلس تحت شجرة وحط يده في خرجه وأكل كسرة كانت معه وتمرة فلما فرغ من أكل التمرة، رمى النواة، واذا هو بعفريت طويل القامة وبيده سيف قد دنا من ذلك التاجر، وقال له: قم حتى أقتلك مثلما قتلت ولدي… لما أكلت التمرة ورميت نواتها، جاءت النواة في عين ولدي، فقضت عليه ومات».
والرواية تستغل نفس الأسطورة، فعندما ذهب أبن بسيوني سلطان إلى الساحر العماني الذي يطلق عليه «الباصر» وشكا له ما جرى لابيه وسقوطه بين الحياة والموت بمجرد فتحه باب شقته وهو يهذي ويقول «حوشوه عني… جمال عبد الناصر». فقال له الساحر العماني «يا ولدي، جنية كبيرة ما مسلمة والعياذ بالله، حطت ولدها الرضيع قدام باب شقتكم، ولما خرج أبوك، ما شاف الجنى الصغير، ووطأه في عينيه… عشان كده تأذى، هذا قلب الأم يا ولدى».
أما الأسطورة الأخرى التي وظفها سليمان المعمري ، في بناء مناخ يمتزج فيه الواقعي بالتخيلي ، فهي «أسطورة المغيبين» . المشهورة في التراث الشعبي العماني، والتي يستطيع بمقتضاها بعض السحرة، أن يوهموا بموت أحد الناس فيدفن ويعزى فيه وهم في الواقع قد خطفوه إلى مكان يفقد فيه الوعي والإحساس، يرعى كالدواب زمنا، وقد يظهر حياً بعد ذلك، عندما يموت الساحر، وقد وظف هذه الأسطورة أدبيا من قبل الروائي سعود المظفر في روايته «المعلم عبد الرازق».
وعاد سليمان المعمري ليوظفها عندما يقول على لسان أحدى شخصياته « هناك احتمال كبير أن لا يكون عبد الناصر قد مات بالفعل عام 1970 وإنما خطفة أحد السحرة، فصار من «المغايبة»… أنتم تعلمون أن هذا يحدث كثيرا في عمان … والمغيب يعود إلى الظهور، بعد أن يموت الساحر الذي خطفة.. ومن يدري فقد يكون الساحر الذي خطف عبد الناصر قد مات ….
وربما يكون الساحر الذي خطفة عمانياً.. أو مصرياً، ولكنه وافاه الأجل خلال مؤتمر السحرة في عمان.
من خلال هذه الأعمدة الفنية الأسطورية الجذابة ، يبني سليمان المعمري إطار روايته الجميلة المزدحمة بالشخصيات والأحداث المثيرة والإثراء المعرفي مما يحتاج لوقفه قادمة مستقله.