◄ 4 محاور رئيسية تناقش استدامة التنمية وسياسات العمل واقتصاد المعرفة
عقدت الجمعية الاقتصادية العمانية، مساء أمس، مُؤتمرًا صحفيًّا، لكشف تفاصيل تنظيم مؤتمرها السابع تحت عنوان "سياسات العمل والتنمية المستدامة"، والذي من المتوقع تنظيمه خلال الفترة 9-10 مارس 2014.
ويهدف المؤتمر -في إطاره العام- إلى بحث مجموعة من المحاور المتعلقة بما يُوصف بالتشوهات الهيكلية في سوق العمل العماني، والإجابة عن عدة تساؤلات؛ منها ما هو في إطار الورقة الخاصة بسياسات سوق العمل وتحديات استدامة التنمية التي أعدتها الجمعية.
ويسعى المؤتمر إلى تحليل مشكلة التشوهات الهيكلية في سوق العمل العماني، وتأثيرها على تحقيق التنمية المستدامة ، ومناقشة سياسات سوق العمل، وقضية هيمنة الكفيل والتجارة المستترة وعلاقتهما بزيادة تدفق العمالة الوافدة للسلطنة.
مسقط - الرؤية
ويعتبره المنظمون فرصة لتدارس الحلول العملية لقضايا سوق العمل في جوانب اقتصاد المعرفة وآليات نقل العلم والمعرفة والتقنيات الحديثة، وأيضًا استعراض متطلبات نجاح ريادة الأعمال في التنمية الاقتصادية ودور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في قضايا العمل وتوليد الوظائف، بجانب الاستفادة من تجارب الحوار الاجتماعي والعلاقة بين الحكومة وأصحاب العمل والنقابات العمالية، كما يهدف المؤتمر التعرف على بعض التجارب العالمية المرتبطة بهجرة العمالة وسياسات العمل.
وسيناقش المؤتمر عدة محاور؛ الأول يبحث في تحديات استدامة التنمية وسياسات سوق العمل العماني، وسيضم هذا المحور تفاصيلاً مثل الدولة الريعية وسوق العمل والخطاب التنموي، وإشكالية متلازمة التنمية وحجم العمالة الوافدة في دول الخليج، والعلاقة بين نمط طلب الأنشطة الاقتصادية وهيكل الطلب على العمالة في سلطنة عمان. فيما يناقش المحور الثاني إعادة الهيكلة وعلاج التشوهات سياسات العمل البديلة، كما سيستعرض محددات إشكالية التخطيط ومحاولات الحلول ونظام الكفالة (العلاقة بين نظام الكفالة الحالي والتجارة المستترة)، والإصلاح وإزالة القيود المفروضة على مرونة سوق العمل، والإحلال الوظيفي من خلال تدوير رسوم استقدام العمالة الوافدة في القطاع الخاص.
أما المحور الثالث، فسيناقش توفير فرص العمل من خلال الريادية واقتصاد المعرفة، وسيسلط الضوء على الحلول العملية لقضايا سوق العمل في اقتصاد المعرفة، وآليات نقل العلم والمعرفة والتقنيات الحديثة، وريادية الاعمال في التنمية الاقتصادية ودور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في قضايا العمل وتوليد الوظائف.
وفي رابع محاور المؤتمر، من المقرر مناقشة تجارب وحالات عملية في سياسات العمل، واستعراض التجارب الدولية المرتبطة بهجرة العمالة وسياسات العمل، وتجارب الحوار الاجتماعي والعلاقة بين الحكومة وأصحاب العمل والعمال، فضلا عن إعلان التوصيات التي تتطلع للمستقبل ونظرة إلى الأمام.
فكرة المؤتمر
وقال الشيخ محمد بن عبدالله الحارثي رئيس مجلس إدارة الجمعية الاقتصادية العمانية -خلال المؤتمر الصحفي- إن فكرة المؤتمر الاقتصادي تمخضت، بعد أن انتهنت الجمعية في العام الماضي من تنظيم مؤتمرها السادس خلال الفترة من 16-17 فبراير 2013، والذي أقيم تحت عنوان "التنمية المستدامة والإنصاف: بين التخطيط والواقع"، وقد توصل المؤتمر إلى الحاجة لصياغة رؤية استراتيجية جديدة للسلطنة تحقق التنمية المستدامة، وأوصى المؤتمر آنذاك بإعداد دليل وطني للتنمية يمثل رؤية استراتيجية جديدة للسلطنة تتسم بالديناميكية لمواجهة التحديات المستجدة، وضمان تحقيق التنمية المستدامة بأبعادها الثلاثة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ويكون محورها الأساس "عمان التي نريد"، وأن يتم من خلاله تقييم الخطط الحالية وتحديد الخيارات المستقبلية بناءً على معايير ومؤشرات تنموية ذات أهداف محددة قابلة للقياس. وأضاف الحارثي بأن الجمعية الاقتصادية تقدمت بمبادرة "الدليل الوطني للتنمية"، الذي تضمن تصوراتها الأولية لمتطلبات التخطيط لبدائل التنمية وتحقيق التنمية المستدامة؛ حيث تشير دراسة الوثائق الخاصة بالرؤية المستقبلية عمان 2020 إلى وجود خلط بين مفهوم الرؤية المستقبلية والأهداف الاستراتيجية والسياسات والبرامج، وأنها لم تتضمن تسلسلا منهجيا بين هذه العناصر. وتابع بأن الاجتهادات الحالية لإيجاد الحلول العاجلة لن يكون بوسعها إصلاح هيكلة الاقتصاد العماني بسبب ضعف منهجية إعداد الرؤية المستقبلية للاقتصاد العماني، والتي لم تتمكن من تحقيق أهم أهدافها، ولن تتمكن من مواجهة تحديات المرحلة المقبلة وتوفير أكثر من 450000 فرصة عمل لـلمواطنين الباحثين عن عمل، والذين سيدخلون سوق العمل لأول مرة خلال الفترة الممتدة من الآن حتى العام 2020. وأوضح أنه بناء على ما سبق، حاولت الجمعية الاقتصادية العمانية قراءة واقع سوق العمل العماني، وأعدت ورقة ثانية بهدف استعراض تحديات سوق العمل، وتأثير ذلك على تحقيق التنمية المستدامة.
وأشار إلى أن الورقة توضح وجود تحديات كثيرة ومتشعبة تقتضي معالجتها بصورة علمية ممنهجة ومدروسة، على نحو تستطيع من خلاله المساهمة في التحول من الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد إنتاجي قادر على استيعاب التحديات المتعلقة بسوق العمل. ولفت إلى أن نمط التنمية والتخطيط الاقتصادي الذي كان من المفترض أن يبني اقتصاد حر ويعمل على فتح الأسواق ودعم استثمارات القطاع الخاص، أدى في الواقع إلى بناء اقتصاد يعتمد على عدد صغير من المستثمرين الكبار ذوي النفوذ في الاقتصاد والعلاقات الوطيدة مع متخذي القرار، وهو أقرب إلى ما يسميه الاقتصاديون بـ(crony capitalism) أو رأسمالية "المتنفذين"، وعكست السياسات الحكومية هذا النهج وتم الاسترشاد بتوصيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي واتفاقيات التجارة الحرة الثنائية المنصبة في هذا الاتجاه وغابت الرؤى الوطنية والتنموية في توجيه الاقتصاد، وحل محلها مفهوم التنمية "كنمو" فما دام الناتج المحلي ينمو، فإن التنمية في ازدهار، فلا داعي للالتفات إلى العوامل التنموية الأخرى.
سياسات العمل والتنمية المستدامة
وخلال المؤتمر الصحفي، أمس، تم توزيع ورقة عمل تمهيدية عن مؤتمر الجمعية الاقتصادية العمانية السابع، والذي سيعقد في قاعة المحاضرات بجامع السلطان قابوس الأكبر بمسقط يومي الأحد والإثنين 9-10 مارس 2014، تحت عنوان "سياسات العمل والتنمية المستدامة". وتهدف الورقة إلى تقديم استعراض سريع لواقع وتحديات سوق العمل العماني، وتأثيره في تحقيق عملية التنمية المستدامة. ولا تسعى هذه الورقة في صيغتها الحالية إلى تقديم حلول أو بدائل للتحديات والمعوقات التى تشوه سوق العمل العماني. وتكشف الورقة أن هناك تحديات كثيرة ومتشعبة؛ الأمر الذي يقتضي معالجتها بصورة علمية ممنهجة ومدروسة قادرة على أن تساهم في التحول من النمط الاقتصادي المعتمد على الريع إلى اقتصاد إنتاجي يتصف بالكفاءة والمرونة، وقادر على استيعاب التحديات المتعلقة بسوق العمل.
وتطرقت الورقةً إلى موضوع سياسات سوق العمل ومشكلة وقضايا الباحثين عن عمل والأجور والإنتاج والإنتاجية والتعليم والتدريب كوسيلة لإصلاح تشوهات سوق العمل. وذكرت الورقة أن السلطنة كغيرها من دول العالم تسعى لتحقيق مستويات مرتفعة من النمو القابل للاستدامة، وذلك بهدف ضمان مستوى حياة كريمة لأفراد المجتمع، دون الإخلال بالبيئة واستدامة الموارد الطبيعية لتستفيد منها الأجيال الحالية والقادمة.. ويواجه المسار التنموي للسلطنة العديد من التحديات تتمثل في مدى ملاءمة السياسات التي جرى اتباعها لإحداث التنمية وما صاحبها من سمات ريعية ترتب عليها تبعات وضغوط سكانية، وأوجه قصور هيكلية، دفعت هذه العوامل وغيرها في اتجاهات مغايرة للأهداف التنموية، وإلى عدم استغلال كامل لقدرات رأس المال البشرى الوطني؛ مما نتج عنه تشوهات في سوق العمل أدت إلى زيادة أعداد المواطنين الباحثين عن عمل، وتحوَّلت إلى مشكلة في بلد مثل عُمان بلغ نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي فيه 7.792 ريالاً عمانياً عام 2011، وتجاوز فيها متوسط معدل نمو الدخل الفردي 2.4 في المئة سنوياً. وتشير توقعات صندوق النقد الدولي إلى أن نسبة النمو الاقتصادي للسلطنة ستواصل هذا العام النمو إلى 4.2 في المئة، ومع ذلك فإن جهود توليد الوظائف واستدامة النمو الاقتصادي بمعناه الجديد والتنمية المستدامة بمعناها الواسع لم تتحقق بعد.
تحديات النمو
وهدفت الورقة إلى إلقاء مزيد من الضوء على التحديات التي تواجه النمو واستدامة التنمية وعلاقة ذلك بسياسات سوق العمل، وما صاحبها من تشوهات أثرت على التنمية المنشودة لعُمان. وتسعى الورقة إلى وضع ملامح عامة لإمكانية التفكير في تطوير نموذج جديد للتنمية بالتركيز على سياسات سوق العمل يُمّكن من تحقيق تحول كبير من الاقتصاد الريعى إلى الاقتصاد الإنتاجي، عبر استغلال طاقات المجتمع العماني ووضع برامج كفيلة ببناء اقتصاد وطني على المدى الطويل لا يتجاوز عدد الباحثين عن عمل فيه نسبة 5%، ويتراوح عدد الوافدين بين 30 و33 في المئة من إجمالي السكان، ولا يتجاوز إجمالي زيادة العمالة الوافدة السنوية نسبة النمو في السكان المواطنين.
وترى الورقة أنه حتى يتسنى القيام بذلك ينبغي التعرف على إشكاليات متلازمة التنمية وسوق العمل في إطار منظومة دول الخليج، والتي تندرج تحتها عُمان، بجانب مناقشة الواقع العماني عن طريق محاولة الإجابة على عن عدد من التساؤلات: ما هو الواقع التنموي الآن؟ وهل نسير في الاتجاه الصحيح لمنهجية التخطيط الاقتصادي لمسار العلاقة بين التنمية بمفهومها الواسع وبين متغيرات سوق العمل ومعدلات نمو العمالة الوطنية والوافدة في الاقتصاد العماني؟ وهل زيادة العمالة الوافدة تمثل مؤشرا إيجابيا لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية؟ وهل تمثل المسار الصحيح لتنمية تتجه نحو الاستدامة؟ أم أن هذا المسار يعتبر جرس إنذار يحذرنا من مخاطر استمرار النمو السكاني وتدفقه وفق الآليات الحالية ومتطلباتها ومنطق تفكير مجتمع الأعمال الذي تشكل بفعل هذا السوق طيلة العقود الماضية؟ وإذا كانت هذه الزيادات في هجرة العمالة الوافدة تمثل ضررا على المجتمع، فما الذي يدفع هذا المجتمع إلى ترسيخها؟ وما هي الأبعاد المختلفة التي تدخل ضمن هذه المعادلة؟ وما هي تداعيات الوضع السكاني الراهن على مستقبل عمان وحياة المواطنين، وعلى الاقتصاد والسياسة وعلى المجتمع بكافة مكوناته؟ فضلا عن محاولة وضع تصور لنظرة المستقبل من خلال وضع عدة محاور يمكن أن تلخص أهم المخرجات التي تحتاج إلى الدراسة عند تبنى أية استراتيجيات وسياسات مستقبلية لسوق العمل العماني في إطار التنمية المستدامة.
الدول الريعية
وتتحدث الورقة عن الدول الريعية وتأثير ذلك على سوق العمل. وذكرت أن الأزمة العالمية الأخيرة أعادت الاعتبار إلى الفكر الاقتصادي الكينزي الذى قلب المفاهيم النيوكلاسيكية السائدة منذ أوائل القرن الماضي، ونسفت الإيمان العقائدي الذى ساد، مؤخراً، بقدرة السوق على تصحيح نفسه، ولنسف الإيمان المطلق في نجاعة الانتقال الحر لرأس المال من دون أي ضوابط تضعها الدول للحد من انتقال العدوى عن طريق المضاربين، واستبدالها بدور أكبر للبنوك المركزية لتوقع المخاطر في القطاعات العقارية وأسواق المال، ولتعيد الاعتبار إلى السياسات المالية التي تحفز الاقتصاد والتشغيل والتي تؤمن بأن التشغيل ليس مشكلة بنيوية في حال تقبل العمال مبدأ مرونة الأجور (صعوداً وهبوطاً). وعليه فقد أعاد الفكر الكينزى الاعتبار إلى السياسة المالية والتي عن طريقها يتم تحفيز الطلب بهدف زيادة التشغيل في وقت يقض هاجس التشغيل مضجع صانعي السياسات في دول العالم كافة. وليس من منطقة في العالم تعاني الأزمة مثل التي تعانيها المنطقة العربية على صعيد التشغيل.
وتميز العقد الأول من الألفية الثالثة بتحولات جديدة على مستوى الخلل السكاني ميزها عن العقود التي سبقها؛ أولها: هبوب رياح "الخصخصة" في المنطقة؛ حيث تم فتح السوق الخليجية بشكل موسع للاستثمار الخاص. "القطاع الخاص" هنا هو تعبير مضلل، فما تطور في المنطقة هو في الأساس مبني على المستثمرين الكبار ذوي النفوذ في الاقتصاد والعلاقات مع متخذي القرار.
ومنذ بداية عصر النفط في منطقة الخليج، شهدت المنطقة تطوراً لمفهوم الريّعية في ظل النتائج المتناقضة، وكانت الدولة العربية الريّعية دائماً في دور المتلقي لهذه الادبيات لأدبيات والنصائح الناتجة عنها. فالدورات الاقتصادية في الدول العربية تأثرت معظمها بتقلبات أسعار النفط العالمي، وأدت الدول الريّعية دوراً يفاقم حدة الدورات صعوداً وهبوطاً بدلاً من الحد منها واحتوائها، فقامت بالتوسع في الإنفاق والاستثمار والتوظيف في القطاع العام في سنوات الانتعاش وضبط الإنفاق في سنوات الركود، مما ترك آثاراً مدمرة في الاستقرار الاقتصادي واستدامة التنمية والتشغيل. ونتيجة لذلك لم تنجح دولة عربية واحدة في تطوير اقتصادها بشكل يعظم الاستفادة من طاقتها البشرية، وهي مفارقة صارخة في ضوء التباين الهائل في الدخل القومي والموارد البشرية بين الدول العربية. ففي دول الخليج رافق النمو الاقتصادي في العقد الماضي نمواً جيداً في التشغيل، إلا أنه جاء مدفوعا بشكل رئيسي بتوسع كبير في تشغيل المواطنين في القطاع العام الحكومي، وتوسع آخر في استقدام العمالة الوافدة في القطاعات الإنتاجية، خصوصاً كثيفة العمالة.
وفي نقطة ثانية، تتضح إشكالية متلازمة التنمية وحجم العمالة الوافدة لدول الخليج، حيث إن تطور وجود الوافدين ودورهم في المنطقة منذ اكتشاف النفط وتصديره في الستينيات من القرن الماضي، بدأ كعمال ومساهمين في الانتاج الإنتاج والنشاط الاقتصادي، إلى أن تحولوا إلى مشاركين للمواطنين ومالكين للتجارة والأنشطة الاقتصادية، وبعد ذلك زاد عدد الوافدين (عمالاً ومقيمين) إلى أن أصبح المواطنون أقلية في بعض الدول الخليجية، والوافدون أغلبية لا يقتصر دورهم على العمل والإنتاج الاقتصادي فحسب، بل يشمل الجوانب الاجتماعية والثقافية. وبالتسليم بأهمية الدور الذي قام به ويقوم به الوافدون في المنطقة خاصة دورهم في إنشاء البنية الأساسية وفي البناء والتشييد، فإن سياسة فتح الباب على مصراعيه للوافدين وتغليب المصلحة المالية الشخصية ستؤدي إلى استنزاف الموارد النفطية بشكل سريع دون أن يؤدي ذلك إلى تحقيق تنمية حقيقية وقابلة للاستدامة، وربما تهدد الوجود والمصير على المدى البعيد. وتشير توقعات الباحثين إلى استمرار اتجاه تزايد الوافدين إلى المنطقة وبشكل كبير.
وبسبب هيكلية الاقتصاد الوطني، لم يتمكن أصحاب الأعمال الخاصة من استيعاب العمالة الوطنية المتعلمة ونتج عنه ظاهرة غير معتادة للاقتصاد المزدهر، وهى وجود كميات أعداد كبيرة من الشباب الحاصل على قسط وافر من التعليم والمتعلم العاطل عن العمل في ذات الوقت مقابل استجلاب أعداد كبيرة من العمالة الأجنبية غير المتعلمة في الغالب.
وباختصار، فقد مرت أسواق العمل في دول الخليج العربية حتى الآن بثلاثة مسارات متلاحقة في تكوينها بدأت من مرحلة تشوهات سوق العمل؛ حيث تقل العمالة الوافدة فيها عن 50 في المئة من إجمالي السكان، ومن ثم تمر في مرحلة الخلل السكاني والتي يزيد فيها العمالة الوافدة عن 50 في المئة من اجمالي السكان لتصل إلى المرحلة ما قبل الأخيرة المتمثلة في الخلل الوجودي بزيادة نسبة العمالة الوافدة فيها عن 70 في المئة من إجمالي السكان في بعض البلدان، ومن الملاحظ أنه مع مرور السنين، فإن دول الخليج تتلاحق في تلك المسارات والمراحل، وليس أمامنا سوى الانتظار لنرى ماذا ستكون المرحلة الرابعة والأخيرة من تلك المراحل في الدول التي وصلت لمرحلة الخطر الوجودي. وبالرغم من الدور الإيجابي الذي يقوم به الوافدون والحاجة إلى الكثير من مهاراتهم، يتفق العديد من الباحثين والأكاديميين بأن الخلل السكاني أصبح يعيق تقدم ونمو دول المنطقة اقتصاديا وذلك بتأثيره على عوامل الانتاج والقدرة التنافسية للقطاعات الاقتصادية غير النفطية.
ويحذر الباحثون من أن زيادة الوافدين أدت إلى التعجيل والاستهلاك المفرط للموارد الطبيعية المحدودة أصلا وبشكل يهدد استدامتها، فضلا عن أن الزيادة المترتبة في الاستهلاك نتيجة الخلل السكاني والمشاريع العقارية العملاقة والمشاريع الصناعية الأخرى، قد يؤدي الى كارثة بيئية يمتد أثرها الى مياه بحر الخليج العربي وبحر العرب.
أما على المستوى الاجتماعي والسياسي، فيشير عدد من الباحثين إلى الإخلال بالتوازن الاجتماعي والاستقرار السياسي والأمني وضياع الهوية الوطنية وبروز ظاهرة التطرف أو التعصب وزيادة انتشار الجريمة وتراجع نفوذ المواطنين وتهميش دورهم في الشأن العام.
إشكاليات الواقع العُماني
أما بالنسبة للسلطنة؛ فتنمية الموارد البشرية وتقليل الاعتماد على الوافدين في سوق العمل كان من أولويات التخطيط الاقتصادي في عمان؛ حيث كان احد أحد أهم أهداف الخطة الخمسية الأولى (1976-1980)، ونص الهدف على "تنمية الموار البشرية المحلية حتى تتمكن من القيام بدورها كاملا في الاقتصاد الوطني". وتم التأكيد على هذا الهدف في كل الخطط الخمسية اللاحقة. واستطاعت الحكومة أن توظف معظم الباحثين عن عمل من المواطنين في السبعينيات ومنتصف الثمانينيات من القرن المنصرم بالإحلال.
وأدى الانخفاض الكبير في سعر النفط في منتصف الثمانينيات وأواخر التسعينيات إلى انخفاض كبير في الايرادات الإيرادات العامة والحد من مقدرة الحكومة على الاستمرار في توفير فرص عمل جديدة للأعداد المتزايدة من المواطنين إلى التأكيد على أهمية إيجاد فرص عمل للمواطنين في القطاع الخاص عن طريق إحلال المواطنين محل الوافدين، والدعوة إلى التقليل من الاعتماد على دور العمالة في القطاع الخاص.
لكن الجهود المبذولة لرفع نسبة المشاركة الكلية للمواطنين في سوق العمل لم تحقق نجاحا كبيرا؛ وذلك لتركز الاستثمارات في المشروعات كثيفة رأس المال وضعف الأداء العام للقطاعات غير النفطية.
وبسبب زيادة أعداد الباحثين عن عمل من المواطنين ومنذ الحراك الشعبي في العام 2011 أصبح إيجاد فرص عمل من أولويات السياسات الاقتصادية في السلطنة، فبالرغم من النمو الاقتصادي الجيد الذي حققته السلطنة في العقد الماضي، خاصة منذ العام 2004.
وتشير نتائج تقرير المؤشرات لأولية لمشروع حصر الباحثين عن عمل الصادر في نوفمبر 2012 إلى أنه بلغ عدد المسجلين في كافة الفئات العمرية 18-60 سنة نحو 160 الف نسمة، وأن نحو 21 ألف نسمة قد قاموا بالتسجيل لأول مرة، وبالتالي فإن الرقم الطبيعي للمسجلين كباحثين عن عمل كان لا يتجاوز الـ140 ألف نسمة، والعدد الأكبر من الباحثين يتركز في المرحلة العمرية 18-29 سنة؛ حيث تمثل هذه الفئة حوالي 71 في المئة من إجمالي الباحثين عن عمل، أما بالنسبة للمستوى التعليمي فتشير احصائيات وزارة القوى العاملة إلى أن حوالي 88 في المئة من العمانيين لم يتعد تعليمهم الثانوية العامة، وحوالي 6.2 في المئة حاصلون على شهادة البكالوريوس بينما يقل عدد الحاصلين على الماجستير والدكتوراه عن 1 في المئة.
التوقعات المستقبلية
ويواجه سوق العمل العماني، تحدي توليد فرص عمل للأعداد المتزايدة من الذين يدخلون سوق العمل من المواطنين بشكل سنوي والذي يقدر عددهم بحوالي 40 ألف سنوي. إذ يُتوقع أن يصل عدد الداخلين لسوق العمل لأول مرة في السلطنة، إضافة إلى الباحثين عن عمل الذين تم حصرهم في نهاية سنة 2012 حوالي أكثر من 470400 عماني في الفترة الممتدة من سنة 2013 إلى سنة 2020.
وإضافة للتحديات الكمية المشار إليها، هنالك تحديات نوعية تتمثل في زيادة إنتاجية العمل، وعلى خلفية الزيادات السنوية الكبيرة في أعداد الأيدي العاملة الوافدة، تظهر البيانات التذبذب الواضح في معدلات نمو الإنتاجية خلال السنوات التسع الماضية، بل وانخفاضها في معظم السنوات؛ حيث انخفضت بنسبة 3.03 في المئة عام 2009، على الرغم من زيادة الأيدي العاملة الوافدة في ذلك العام بحوالي 13 في المئة بالمقارنة مع العام 2008 وهذا يعنى أن إنتاجية العمل الحقيقية أخذت منحنى تنازليًا مع كل زيادة في أعداد القوى العاملة الوافدة منذ العام 2009، في أغلب القطاعات الاقتصادية في عمان. وبالتالي فبالرغم من كون الإنتاجية هي إحدى محددات النمو أو ما يطلق عليه فنيا "مجموع إنتاجية العوامل (TFP)" وهي التي تحدد معدلات النمو المحققة، الا ان ذلك لم ينعكس على زيادة في الإنتاجية؛ إلا أن الزيادة في أعداد العمالة الوافدة لم تساهم في زيادة الإنتاجية في أغلب القطاعات الاقتصادية في عمان، وهذا يعني أن زيادة الطلب على العاملين الوافدين في السلطنة في كثير من الأحوال خاصة في حالة العمالة غير الماهرة غير مرتبط بالإنتاجية، وهذا ما يشكك في فرضية أن زيادة العمالة الوافدة تؤدى إلى زيادة الإنتاجية، وإنما مرتبط بعوامل رخص الأجر، وعدم رغبة المواطنين في ممارسة مهن معينة، إضافة إلى ظاهرة "البحث عن الريع (Rent Seeking)"، بل المرتبطة بتجارة الإقامات. إن هنالك مؤشرًا أقوى على الربط بين التغيرات التي تطرأ على الإنتاجية بالتغيرات على أسعار النفط.
ويتضح من المعطيات التي تم التطرق إليها أعلاه أن السلطنة بحاجة إلى إعادة النظر في سياساتها التنموية وعلاج تشوهات سوق العمل التي يُعاني منها بمنهجية علمية؛ من خلال إعادة النظر في سياساتها التنموية؛ من خلال اعتماد الأجندة الوطنية التي اقترحتها الجمعية الاقتصادية العمانية "عمان التي نريد"، والتي تقوم على أساس التنمية البشرية المستدامة بتضمين مشروعات متنوعة، وضع بدائل للاستراتيجية الحالية التي تتميز بالاعتماد على ثروة النفط لتسهيل تراكم رأس المال المادي عن طريق الاستجلاب السهل للعمالة الوافدة، وهى جيدة لتراكم رأس المال السلعي، ولكنها ليست جيدة لتراكم رأس المال البشرى المنتج.
ورسم سياسات لسوق العمل تمثل المرجعية في القرارات الحكومية الخاصة بسوق العمل وتتضمن وضع سياسات تشغيل فعالة بنظام يستند إلى انضباط سوق العمل بمكوناته المختلفة والحد من استقدام الوافدين.
بجانب الحاجة إلى إيجاد أرضية مشتركة وآلية للحوار تمثل كلاً من الحكومة وقطاع الأعمال والعمال، تكون مهمتها العمل من أجل إيجاد صيغة للتوافق من أجل الصالح العام، وبما يخدم مصلحة كافة الأطراف وتحافظ على الاستقرار العام والتأكيد على مسألة حقوق وواجبات كل طرف وتعمل على حل الخلافات التي قد تنشأ من وقت إلى آخر.