سيف بن زاهر العبري -
بين قادم ومغادر، القادم من بلاد بعيدة يتلمس مشاهد حياة قديمة وكيف لها أن أصبحت منسية، والمغادر ذلكم ابن الحارة القديمة الذي تركها تلفظ أنفاسها رويدا رويدا بعد أن ودعها إلى مسكن آخر، ولسان حال المتأملين يقول لو أن مبادرة وطنية نهضت من غفلتها، لأنقذتها وسائر الحارات القديمة من وضع مأساوي ينم عن إهمال وتقصير في تراث عظيم خلفه الآباء والأجداد، فهي الباحثة عن طوق النجاة. إنها فصل من حكاية ممتدة عبر عشرات السنين شهدت مرحلة حياتية مغايرة، منذ أن بدأ الأسفلت ينصب بنايات تعلو قامات باسقة في مدن عمرانية حديثة، وقتها أصبحت البيوت القديمة المبنية بالطين من ذكريات مضت وسنوات خلت، لا يفقه كثير من الناس كم من السنين أخذت، وكم من السكان آوت، وكيف كانت حاضرة في ذاكرة كل إنسان عاش ما قبل النهضة الفتية المعاصرة. وها هي تلكم الحارات القديمة بمساجدها ومنازلها وأسواقها وحصونها وقلاعها وأبراجها أصبحت وجهة سياحية لأفواج قادمة من بلاد شتى، يتأملون فيها عظمة البناء، ويسجلون في ذاكرتهم حالها الذي كان وفيما أصبحت عليه الآن، يصفون انطباعهم بالانبهار والتعجب والاستغراب، منبهرين من قدرة الإنسان الذي استطاع بناء تلك الحارات بمعالمها المتراصة دون أن يكون لديهم وسيلة مساعدة من معدات وأدوات، ومتعجبين من هجرة العمانيين الجماعية نحو مجتمعات عمرانية صاخبة لا تنعم بالهدوء كالذي كانت عليه تلك الحارات، ومستغربين من تطابق الوصف لمعظم الحارات المنسية دون أن يكون لها نصيب في الترميم وإعادة حالتها إلى ما كانت عليه، سوى من بعض حارات كتب لها حياة جديدة من بين مئات من الحارات تنتظر الترميم.
وقفة وطنية جادة
بلدات وحارات قديمة هجرها السكان بحاجة إلى وقفة وطنية جادة لتحويلها إلى معالم سياحية جاذبة، وتنفض الغبار عن غرفها ومجالسها ومرافقها، وتمنع جدرانها العتيقة من التصدع مرة واحدة، كي تعيد نبض الحياة إليها وتحافظ على عبق تاريخها، حيث الأبنية المتراصة والأقواس والنقوش الجميلة كانت من صنع أنامل عمانية، أبدعت في مهارة البناء لحضارات قديمة، فمن الصعب أن نهملها مرة واحدة، أو أن نتركها مسكنا لغرباء قادمين من بلاد بعيدة، أو أن تتحول إلى مستوطنات لكائنات حية بعضها يحلق طائرا وأخرى تمسح الأرض على بطنها أو تمشي على قدمين أو أربعة، كلها وجدت ضالتها في تلك الأمكنة الجميلة دون أن ينازعها كائن بشري واحد، تاركا لها حرية التصرف داخل المسكن، لتصنع بداخلها ما تشاء حتى غدت مرتعا لكلاب ضالة وقطط شاردة وطيور تستأنس المكان في الشتاء وترحل عنها في الصيف، وأما الزنابير الصفراء والحمراء فقد احتمت بها من محاولات القضاء عليها لتصبح عدوا لدودا لخلايا نحل وملتهمة لثمار الرطب في النخيل الباسقة.
هيبة الزمان والمكان
تلكم الحارات القديمة التي احتضنت بين جنباتها الآباء ومن قبلهم الأجداد، هل تستحق منا كل هذا الإهمال، أو على الأقل المبادرة بزيارة نستذكر تاريخها المجيد، ونصيغ فكرة حضارية نخلص من خلالها إلى قناعة ورأي سديد بأن الوقت قد حان لإعادة هيبة الزمان والمكان إليها، فقد يكون من الصعب تنفيذ الفكرة على أرض الواقع دفعة واحدة، ولكن ليس صعبا أن يتم التنفيذ على مراحل، ولو أن جهة مختصة كوزارة التراث والثقافة أو وزارة السياحة قد تبنت الفكرة قبل عدة سنوات لكان الإنجاز قد تحقق ولو بنسبة معينة وفق معايير معمارية حديثة تسهل حياة المواطن داخل الحارات العتيقة، من خلال تحسين الخدمات الحياتية المعاصرة، وبذلك تكون قد صنعت إنجازا سوف تخلده الأجيال جيلا بعد جيل، وترسم لوحة جمالية متجذرة في الأعماق تحكي تفاصيل الحياة القديمة بكل أبعادها الإنسانية والاجتماعية.
تطلعات وآمال
إنها الحارات القديمة التي صنعت حضارة عريقة، فصدحت في مآذنها نداءات الصلوات الخمس، وتليت في مجالسها قراءات فقهية ونحوية وأدبية ومعرفية عامة، وتسمرت في نواحيها قامات أبحرت في علم الدين والدنيا ، متوشحة عمائم بيضاء ووجوه ذات لحى تنم عن الوقار، بينما في أسواقها تعالت نداءات البيع والشراء، وترنمت بين أزقتها أحاديث وحكايات وقصص يومية تروى من الجميع، وأما بواباتها فحارسة للمكان من أي خطر كان. تستحق أن توضع لها الخطط والدراسات في إعادة الحياة إليها من جديد أو تحويلها إلى مراكز ثقافية وأدبية يتناغم معها الماضي متصلا بالحاضر، والحاضر معانقا المستقبل، وهكذا كانت إطلالتنا الأسبوعية متحدثة عن تطلعات وآمال يؤمل منها أن تتحقق بإنقاذ ما أمكن إنقاذه من معالم أثرية وتاريخية عريقة، عبر خطة استراتيجية تراعي القيمة المكانية لماضي الآباء والأجداد، وتعيد لذاكرة الأبناء المكانة الزمنية لعمان قديما وحديثا، وكيف استطاعت عبر حقب غابرة أن تبني امبراطورية مجيدة قامت على سواعد أبنائها المخلصين.