بيت يتجول – طقوس الكتابة وخِداع القارئ

يوسف عبد العزيز -

يظنّ بعض المثقفين، وطائفة لا بأس بها من القرّاء أن حياة المبدع لا بد لها أن تقترن بكل ما هو فوضويّ وغرائبيّ. ويربط هؤلاء في أغلب الأحيان بين تلك الأجواء العاصفة، المتمردة، الماجنة، العابثة التي قد يعيشها الشعراء والفنانون، وبين طبيعة أعمالهم الإبداعية. عبر هذه التّصوّرات المبالغ فيها والخارجة عن المألوف يغدو الاهتمام متركّزاً على طقوسية العمل الإبداعي وما يحيط به من ألغاز، أي على المساحة التي تقع خارج العمل. أما العمل نفسه فيتمّ إغفاله، أو على وجه الدّقة إلحاقه بذلك الظرف الخارجي.

يترتب على وجود هذه التّصوّرات مجموعة من النتائج السلبية، منها ما يتصل بسويّة النص ومنها ما يتصل بذائقة الجمهور. على مستوى النص يقوم الكاتب بتدبيج ما قد تقع عيناه عليه من أفكار وموضوعات أولية وتقديمها في نسيج سريع، ضعيف ربما ومليء بالثغرات، دون أن يغوص في الحالة ويقدّم تجليات الأعماق. بالنسبة للجمهور فإنه يتلقى ذلك النوع من النصوص بشيء من الحب. إنه لا يقرأ النص بقدر ما يتابع تفاصيل تلك الصورة الفوضوية لصاحب النص. ثمة تواطؤ ما هنا يجري بين الكاتب والجمهور، خيانات متبادلة يتم تقديمها والقبول بها دون أن يجرؤ أيّ من الطّرفين على إعلان الاحتجاج إزاء ما يحدث.

في حالات كثيرة يلجأ المبدعون إلى اجتراح مجموعة من الحِيَل من أجل القبض على ما هو جوهري وعميق في الحياة. هذه الحيل هنا شبيهة بالفخاخ التي ينصبها العشاق عادةً في طرق النساء. العاشق يلفّ ويدور ويمكن أن ينفّذ بإخلاص تعاليم (فن الهوى) التي وضعها (أوفيد) من أجل أن يفوز آخر الأمر بقلب المرأة التي يحب. الشاعر هو الآخر يتحفّز ويناور في ذلك الخلاء الأبيض الذي هبط فيه، خلاء الكتابة. بكثير من التّوجس يقترب من تلك التخوم العالية القائمة في سفوح اللغة. إنه يرقب ما يجري، يتوقّف وينزف قبل أن يندفع ليمسك بتلك الخيالات والرؤى الجامحة. إذ ليست هناك من كتابة سهلة على الإطلاق، ولا بدّ من عصر الصخور من أجل الحصول على قطرات قليلة من الشعر.

(محمد الماغوط) تشرّد ذات يوم في أرض الكتابة، واحترقت قدماه في شوارع دمشق وبيروت. كل ذلك كان بمثابة ركض وراء القصيدة السيدة المتخفية البعيدة. (علي فودة ورسمي أبو علي) أقاما الدنيا في بيروت وهزّا طمأنينة النوم والنائمين، ورفعا المعصية كراية احتجاج أمام ذلك النمل الذي أخذ يقضم قلب الثورة. لقد ذهبا إلى الرصيف ونظّفاه من أثر الأحذية الكثيرة التي داسته، واقترحا عليه أن يكون أخاً ثالثاً لهما، فلربما أعانهما على كتابة تلك النصوص الشرسة المجنونة. (محمد القيسي) تهدّم جسده وهو يتجوّل في الشوارع، إذ لم تكن حاجته إلى كل تلك الأسفار والمحطات إلا أن يجمع ما تناثر من برق الشعر. (يوسف أبو لوز) وقد حلّت فيه روح الذئب رمى قلبه في العاصفة واستسلم لتلك النار التي تنسكب عليه من جرن الأفق. لقد شقي كثيراً، ليس لأنه يحب الشقاء، ولكن لأنه يحِبّ أن ينام في آخر كل ليلة بين يدي القصيدة.

مِثل هذه الحالات وغيرها الكثير قد نقع عليها في تتبّعنا لحيوات الكتّاب، ذلك أن آلية الكتابة آلية معقدة، وغير قابلة للحشر في نسق عام يمكن القياس عليه. بالمقابل هناك الكثير من المبدعين ممن لا يعيرون أهميةً تُذكَر لكلّ تلك الطقوس. بكامل صمتهم يجلسون ليحفروا أرض أحلامهم وليستخرجوا من أعماقها ما هو جارح وشفّاف. إنهم يكتبون نصوصهم دون ضجيج، ودون الحاجة إلى مراسيم خاصة. الشاعر (محمود درويش) مثلاً، سئل أكثر من مرة عن طقوسه في الكتابة، فأوضح أنه لا يحتاج إلى أكثر من ورق أبيض غير مسطور، وإلى نافذةٍ نصف مفتوحة تطل على الخارج. أوضح أيضاً أنه لا يكتب في أمكنة عامة، وأنه يستعين باستمرار بالقواميس. ثم لا شيء آخر يلزمه بعد ذلك للدخول في سرادق القصيدة.

آخر الأمر ليس هناك ما هو مهمّ غير العمل الإبداعي المنجز نفسه. فكل تلك التّوسّلات والمناورات ما هي إلا مقدمات أولية لا يُعوَّل عليها ولا تُؤخَذ بالحسبان. النص في النهاية لا بدّ له من أن يتوفر على شروط الفن، ويقدم إضافته على مستوى أعمال الكاتب وعلى مستوى الكتابة بشكل عام. وفي هذا المجال ينبغي على الكاتب أن يبذل مزيداً من التعب. فدون ذلك التعب لن يصل الكاتب إلى إنجاز شيء جدير به. (إدغار آلان بو) أحد الرموز المهمة في الثقافة الإنسانية، وعلى الرغم من أنه عاش حياةً كاملة من الصخب والتشرّد يؤكد على هذا الجانب. وذلك من خلال إشارته إلى ما يسميه ( المهارة البنائية) التي تتحكم بعملية الكتابة. إنه يتحدث عن هذه المهارة كضرورة من ضرورات الفن، حيث نراه يقول: ” ترتهن هذه المهارة الخاصة بالقدرة على التحليل التي يكتسب الفنان عن طريقها رؤيا إجمالية للوسائل التي ينبغي استخدامها على وجه الدقة، كالصبر والانتباه المستمر، والقدرة على تركيز الفكر والتحكم بالنفس، واحتقار المسبقات، ولا سيما كذلك القوة والكَدّ. هذان الشرطان الأخيران جِدّ ضروريّين، جِدّ حيويّين، بحيث يمكن الشك بحق في أن يكون أمكن إنجاز أي عمل عبقري بدونهما “.

ليست هناك من تعاليم مقدّسة أو توصيات وإرشادات يمكن تلقينها للمبدع. ولكن الكتابة نفسها لا تحتمل العبث. هنا ينبغي لنا أن نفرّق بين النص الحقيقي وبين النص الذي يبني مشروعيّته على التّلفيق. إن إثارة القارئ وتوجيه اهتمامه باستمرار إلى تلك الهالة (البرّاقة) التي للكاتب هما نوع من التّآمر الهدف منه تسويق النّصوص الضّعيفة. أمّا الجمهور فيُمكن أن تتمّ خديعته بسهولة، خاصّةً في ظِلّ ثورة الاتّصالات التي تجتاحنا.