صالح العامري -
1-بلدتكِ الصغيرة -
شممتُ رائحتك وأنا أعبر الطريق مروراً ببلدتك الصغيرة. كان ياسمينك عاصفاً ووردك الجوريّ ينوس بحناناته الرهيفة. قريتُكِ الصغيرةُ يا حبيبتي هي أنتِ، وعلى مشارفها تتمرأى عيناكِ العسليتان، وعلى أديم طميها أقبِّل بخشوع ركبتيكِ وغنج سُرّتك الكتوم.
لقد كان اسمُكِ مرفوعاً على لوحة بلدتك الصغيرة، كان اسمكِ هو تلك القرية المتدثرة بالنعومة والدفء. كنتُ منهمكاً هناك بقراءة اسم قريتك، أعني قراءتك أنتِ، قراءة حروف اسمك الشهيّ الذي يقتلني برصاصة السخاء اللغويّ الحميمة، بالمنح الرعوية، والأيقونات المقدسة في القلب، باللهفات الطازجة التي تحاذي رأسي وتُسْكِر رئتيّ المجنونتين بنشيدكِ المواظب على السوسن والربيع.
إن بلدتك الصغيرة ترتفع إلى الحلم؛ إذ لا يمكن أن تكون هذه الأشبار المعدودة، هذه المسافات التي تتكاثف وتتشاسع، غير موسيقا مضمرة في شهوة الكون، غير لحن شريد يتسامق في قبة العالم، ويسلس القياد للنغمة الخالدة، للصوت الغامض الذي يفعل المغناطيس والجاذبية، للناي المسحور، للكمان الأزرق.
هو ذا أنا، كلّ أسبوع أمرّ على ريفك، على بيادرك، على حقولك الثرّة. أمرّ على قريتك، على خدّ قريتك، على أنف قريتك، على نهد قريتك، على ركبتي قريتك، على عيني قريتك، على شعر قريتك، على نهر قريتك، على خمر قريتك، على عسل قريتك، على جبين قريتك، على قلب قريتك، على خاصرة قريتك، على جرح قريتك، على ذرى قريتك، على ظهيرة قريتك، على صباح قريتك، على فردوسها الحارق. أمرّ عليها، عليكِ، كلّ لحظة، كلّ ثانية، كلّ طرفة عين، كلّ ولادة عصفور، كلّ تخلّق ابتسامة، أنتِ أيتها الرحلة المكتملة، الوافرة، التي لا ينقصها شيء، ولا تحتاج إلى شيء آخر. وها إني أصيخ السمع إلى ناقوس الظهيرة منتفضاً باسمك، مسبّحاً باسم طريقك المسكر المشحون باللذائذ.
2- حوار مع قطرة
يا قطرة المطر
هل إلى التبخر؟
أم إلى النبع؟
يا الصغيرة أنتِ
يا مُهْرَةِ الليل الحزين
المستدعاة في الظهيرة
في الرحلة المقطّعة إرباً
المهدّمة الأنفاس
في الرحلة التي لا أعرف
إلى الفوق؟
أم إلى الأسفل؟
إلى العلاء؟
أم الفناء؟
إلى الوراء؟
أم القُدام؟
يا قطرة الماء الصغيرة
أيتها الماسة النقية
التي يدكّها مدفع الثبور
في الرحلة الناقصة
في الرحلة التي تقطّعها الأقدار إربا
مثل نملة
مصلوبة على بوابة الجحيم
مثل رمانة مفلوقة
كي تنفجر السخرية…
ومع ذلك لا تكُفّي أيتها العينان
عن التحديق
في المسرحيين
المرصوفين على دكّة الظلام
في الشعراء
الآيبين من نجمة اللغة
في الصباح المغبون
الذي ترتعد فرائصه
كعنكبوت شيطانيّ
ملقى على ظهره المتفلّج…
3- لقاء شائن
رغم أكثر من ربع قرن على لقائنا الأخير، فقد عرفته على الفور في هذه الظهيرة العجائبية، لا لأنّ لديّ نظرة الصقر فأتفرس في المخلوقات وأتبيّن ملامحهم المداراة قليلاً أو كثيراً عن ملامحهم السابقة، بل لأنّه هو هو، لم يتغيّر، ولم يتبدّل، قدر أنملة.
إنّ الزمن لم يغضّن له جبينا، ولم تبيض له شعرة، ولم يكلح أو يشحب فيه محيّا أو جبين. يا ويلتاه، إنّه خارج الزمن، ومن اللازمن يستفّ بقاءه، مثل وَتَدٍ منسيّ أو حظاً لا يصادف أحداً ولا يصادفه أحد.
كم هو مخيف هذا الإنسان. كم هو مرعبٌ وصادم. ولو صافحناه لحسبنا أنّه حديدة مخادعة أو رمح زائف؛ ذلك أنّه لم تتغيّر له مزايا وصفات، ولم تؤثّر عليه جراحٌ أو فصول، ولم يتألم إلا بمقدار ما يتوجّع الماء من عضة الماء، ويعاني من لذعة برودته ودوخة حرارته.
آهٍ، وهذا مربط الفرس وضرام الضرام، لم تكن له لغة إلا وتزحف على ركبتيها، أو جملة مفيدة إلا وتفرك عينيها، أو عبارة مكتملة إلا وتغرق في سذاجتها المنكَرة.